صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب التجربة المغربية في قبول الآخر المختلف: اليهود والمسيحيون (1856-1956)، ضمن سلسلة "أطروحات الدكتوراه"، من تأليف الباحث محمد الصديق احمموشي. يسلّط الكتابُ الضوء على تجربة المغاربة الفريدة في ممارسة العيش المشترك بين أتباع الديانات السماوية الثلاث في مئويةٍ من تاريخهم وانعكاسها على حاضرهم، في جو من الحرية النسبية في تغيير المعتقد والزواج المختلط وغيرهما، كما يستعرض التضامن المجتمعي بين المكونات الثلاثة في المغرب خلال أزمات الجفاف والمجاعة والأمراض التي عصفت به. يقع الكتاب في 344 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
"إذا أردتَ فهم الحاضر فادرس الماضي". إنّ في الماضي القريب للمغرب جوانب من تعايش المغاربة خلال سني مئويته الممتدة بين عامَي 1856 و1956، لم يسبق للدارسين تخصيصها بالبحث إلا عرَضًا، فبات لزامًا اليومَ الإضاءةُ الكاشفة عليها، وتبيان كيف استطاع يهود المغرب ومسيحيوه تقاسم المعيش اليومي مع المسلمين، وهي إشكالية يؤدي فهمها على وجهها الصحيح إلى فهم استراتيجيات تدبير المسلمين المغاربة المعيشي باعتبارهم أغلبية عددية.
يستجلي كتاب التجربة المغربية تفصيلات العيش المشترك للمغاربة في فضاءاتهم الثلاثة، ويوظِّف أدوات ملائمة لتذليل صعوبات سبر تاريخ الأقليات الدينية، بالتركيز على وقائعه الكبرى وتحليل أحداثه المتعاقبة استنادًا إلى الوثائق والمراسلات المخزنية، والتقارير الأجنبية على وجه الخصوص. كان للكشف عن المشترك الديني أهمية كبرى في فهم التقاسم المعيشي للمغاربة في ماضيهم القريب وحاضرهم، وكيف وُظِّف خلال الأزمات والمجاعات والأوبئة لتجاوز الحواجز الدينية والتركيز فحسب على دفع الضرر عن فئة المعوزين والمرضى والجياع، وكذا تجاوز الجغرافيا، إلى درجة التنقّل بحرّية بين الفضاءات الثلاثة، واختيار بعض ساكني أحد الفضاءات طواعية العيشَ المشترك في آخرَ إلى الأبد.
ركّز كتاب التجربة المغربية في محاولته حلَّ إشكالية العيش المشترك في المغرب على نظريات الأبعاد المجتمعية والجمعية للذاكرة الإنسانية في علمَي الاجتماع والتاريخ، ورَصَدَ هذه الذاكرة في اللاشعور الاجتماعي، مرورًا بالوثيقة التاريخية، وانتهاءً بالتقاليد الحية في "أماكن الذاكرة" المادية، من قبيل: الملّاح، المدينة، المعابد اليهودية، الأديار، النُّصُب التذكارية ذات الرمزية العالية لدى معتنقي ديانتَين، وهي رمزية أكثر ما تتجلّى عند معاينة الوقوف دقائق صمت عند المرور بضريح يهودي أو دير مسيحي احترامًا لذكرى أشخاص غير مسلمين كانوا يعيشون داخل هذه الفضاءات.
ولتحقيق الغاية السالفة الذكر، تطرق الكتاب إلى دراسات سابقة تقاطعت مع موضوعة الاهتمام بالعيش المشترك بين الأقليات الدينية اليهودية والمسيحية في المغرب داخل فضاءاتها وخارجها، معتمدًا على 132 مصدرًا ومرجعًا، و166 وثيقةً، و60 مقالة باللغات العربية والفرنسية والإنكليزية والإسبانية، وعلى إحالات عدة من مجلات وجرائد مختلفة، وعلى 166 وثيقة من الأرشيف الفرنسي في مدينة نانت، ومن أرشيف الرابطة الإسرائيلية في باريس، فضلًا عن وثائق بالعربية من أرشيف المكتبة العامة والمحفوظات في تطوان، ومديرية الوثائق الملكية في الرباط، والخزانة الحسنية بالقصر الملكي في الرباط، وأرشيف المغرب، وهذا كله شكّل أكثر من 400 مادة مصدرية، يضاف إليها مجموعة من إحصاءات وصور وخطاطات واستبيانات.
يضمّ كتاب التجربة المغربية فصلَين؛ يحتوي الفصل الأول "تغيير المعتقد الديني في المغرب" على أربعة مباحث؛ يبحث الأول منها "بواعث تغيير المعتقد الديني في المغرب" في اختيار تغيير الدين طوعًا ونتائج الخلاف حول عودة صاحبه إلى دينه الأصلي، وفي ظاهرة الزواج المختلط وتأثيرها في تغيير المعتقد الديني. أما المبحث الثاني "ردّات فعل سلطات الإقامة تجاه تغيير المعتقد الديني في المغرب"، فيتحدث عن إصدار سلطات الإقامة الفرنسية قوانين تحدّ من حركية طلبات الانتقال إلى الإسلام واليهودية من أصحاب الديانة المسيحية، الدِّين الرسمي للجماعة المهيمنة باسم الاستعمار، برغم ما تدّعيه هذه السلطات من علمانية وإيمان بحرّية التدين. ويتناول المبحث الثالث "المغاربة اليهود ومخاوف اعتناق الإسلام" الخلاف حول إسلام بعض الشخصيات اليهودية أو عودتها عنه قبل موتها وتحول قبورها مزارات لكلتا الديانتَين، كما يتناول التوتر الذي كان ينتشر بينهما بسبب قبول المسلمين إسلام القُصَّر اليهود. أما المبحث الرابع "استنتاجات"، فإحصائي يتناول الأرقام حول معتنقي الإسلام واليهودية وجنسياتهم وتوزّعهم وبواعث اختيارهم ديانة أخرى.
ويتناول الفصل الثاني "التكافل الاجتماعي بين المسلمين واليهود والمسيحيين زمن المجاعات والأوبئة" في خمسة مباحث التكافل الاجتماعي الفريد بين أتباع الديانات الثلاث في المغرب؛ إذ يتناول المبحث الأول منها "ردّات الفعل تجاه أزمة 1867-1868"، أزمة الجفاف في المغرب سنة 1867 وتسبّبها بغلاء الأسعار وانتشار المجاعة، وما تلاها من انتشار التيفوئيد والكوليرا اللذين حصدا أرواح كثيرين في المغرب، وتحدّي حاكم الصويرة عمارة عبد الصادق، وهي من المدن التي بقيت آمنة نسبيًّا، قرار الهيئات القنصلية عدم استقبال المدينة أيَّ وافدين من جهات موبوءة، عبر سماحه بإدخال عائلتين يهوديتين بلغتا أسوار مدينته في ظروف مزرية جدًّا، وفي تلك الحادثة خير دليل على تضامن سلطات المخزن مع الجماعات اليهودية خلال الأزمات، برغم حرف الرحالة الأوروبيين الحقائق في كتاباتهم عن هذه المسألة، تعزِّزها حوادث أخرى، كاستضافة الأخوين اليهوديين أبرهام ويعقوب قرقوز في منزلهما بالصويرة ولدَي الصدر الأعظم العائدين من الحج بعد تبديل سفينتهما خط سيرها نحو المدينة بسبب وباء الكوليرا، وكذا "الصداقة" بين رجال الدين المسيحيين ونظرائهم المسلمين، ودفاع الراهب الإنكليزي روبير كير عن وزير الخارجية فضول غرنيط في شكوى ضده من المخزن، واتخاذ السلطانِ الراهبَ خوسيه ليرتشوندي "عزيزًا عنده، يرافق سفراء حضرته الشريفة" إلى إسبانيا، ومساهمة البعثات المسيحية المقيمة في المغرب في علاج المرضى ومساعدة الجياع المغاربة من اليهود والمسلمين.
ويتناول المبحث الثاني "أشكال التضامن بين مكونات المجتمع المغربي خلال أزمة 1877-1883"، وهي الأخطر في تاريخ المغرب، ففيها انتشر الجفاف والمجاعة والأوبئة والجراد والغلاء الفاحش، وهلك بسببها كثير من المغاربة والأجانب، حتى إن القنصلين البريطاني هاي والفرنسي فو نجَوَا من الموت بأعجوبة بعد إصابتهما بالتيفوئيد، في حين قضى قنصل البرتغال وإيطاليا بوليلي بالمرض، فما كان من المخزن سوى أن أطلق عملية غوث كبيرة زوَّد من خلالها الأسواق بالحبوب ووزع الصدقات على المحتاجين، غيرَ مستثنٍ رعاياه اليهود ومدنهم، برغم المصاعب المالية الجمة التي كانت تواجهه، ومشكلاته المالية مع أوروبا والقرض الإنكليزي، كما أظهر التجار اليهود حسًّا عاليًا من المسؤولية، فأنشؤوا الجمعيات الخيرية لدعم فقراء اليهود والمسلمين، وانخرطت البعثات الدينية "الفرنسيسكانية" في الجهد المشترك للتخفيف من معاناة الأهالي.
ويستعرض المبحث الثالث "المغاربة اليهود وأزمات بداية القرن العشرين في عهد مولاي عبد العزيز" أحوال يهود فاس وتازة خلال أزمتَي المجاعة والوباء، وتسلط رجال الثائر بوحمارة المدعوم من الفرنسيين والإسبان، وتدهور الوضع الصحي داخل ملّاح فاس، وأشكال التضامن التي أبداها المغاربة المسلمون مع مواطنيهم اليهود وكذا التضامن الكبير الذي أبداه المخزن تجاههم، ما رسّخ في الذهنية الجماعية لليهود المغاربة حضورًا واحترامًا كبيرين للسلاطين المغاربة.
ويستعرض المبحث الرابع "الأوبئة والمجاعات خلال فترة الحماية" أشكال التدخل الشعبي لمكافحة مظاهر البؤس والمجاعة في تلك الحقبة، وتشريع نظام التويزة لترسيخ قيمة التضامن بين المسلمين واليهود، كما يسلط الضوء على أهداف نشاطات البعثات المسيحية المتمثلة في التكافل الاجتماعي والتبشير التنصيري، ودور الجمعيات الخيرية المغربية من الديانات الثلاث في التكافل الاجتماعي للتخفيف من آثار مجاعة 1945 (مجاعة رهيبة أواخر الحرب الثانية، سبّبها نقل فرنسا مواد غذائية إلى جبهاتها، ما أثر بحدّة في وضع المغاربة الغذائي والاجتماعي والصحي).
أما المبحث الخامس (الأخير) "ردات الفعل المشتركة بين المسلمين واليهود والمسيحيين"، فيتحدث عن اضطرار الساكنة المغربية اليهودية والمسلمة والمسيحية إلى اللجوء إلى ممارسات اجتماعية لتجنّب شبح الموت؛ ما أكسب التعايش معنى آخر أكثر واقعية، كاللجوء إلى طقوس استجلاب المطر، ومبادرات التكافل الخيري التي تجعل التعايش أكثر واقعية، رغم أحداث نهب وقتل كانت تحدث بين فينة وأخرى، شملت اليهود والمسيحيين والمسلمين.
يستخلص الكتاب أن عناصر الدِّين والثقافة والتاريخ الخاصة بكل جماعة دينية لم تشكّل أيَّ مصدر إزعاج للمسلمين واليهود والمسيحيين على أرض المغرب في ماضيهم القريب وحاضرهم، في وقت كان المغاربة المسلمون يعون مع الزمن أن مصدر قوّتهم هو في قبول الآخر، فاختاروا في لحظات تاريخية مفصلية التعايش مع غير المسلمين، وهم الفئة الأقل عددًا ولكنها الأكثر تأثيرًا، من دون أن يُفقدهم ذلك روابط الاتصال بعقيدتهم.