أخذت جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) المشتغلين بالفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية على حين غرّة، وأرغمتهم على التفكير أو إعادة التفكير في العديد من الظواهر، من قبيل المرض والصحة، والسياسات الصحية والعمومية، والاقتصاد النيوليبرالي، والعلاقات بين الدولة والمجتمع، ومؤسسات الرعاية، ومستقبل المؤسسات التعليمية، والعمل، والأيديولوجيا التقنية، وأشكال التضامن، والبيئة وتغيراتها، والتقنية ومخاطرها، والأخبار الكاذبة ونظريات المؤامرة؛ أي في المصير الإنساني عمومًا. واختلفت أشكال التفكير والنظر في الجائحة، فمنها ما تحلّى بالحذر، مدركًا أن علينا تجنب إغراءات "التفلسف السريع"، لأن التفكير يحتاج إلى كثير من الوقت، سواء أكان فلسفيًا أم علميًا، من أجل معالجة كل المعلومات التي نتوصل إليها، وخصوصًا في أوقات الكوارث، ومنها ما انساق في تفكيره إلى نظريات المؤامرة وشعبويات اليمين المتطرف ووجدها فرصة لمهاجمة الديمقراطية، وصولًا إلى تلك "البكائيات" المرتبطة بأمراض الحضارة المادية، التي في نحيبها ونشيجها تؤكد مرة بعد أخرى ما ذهب إليه مارتن هايدغر من أننا لم نبدأ بعد في التفكير.

ومن أجل تعميق النقاش حول الجائحة التي تضرب الإنسانية منذ أشهر، وفي تسليط الضوء على أبعادها المختلفة، خصصت مجلة تبين للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية، في 23 كانون الثاني/ يناير 2021، ندوتها السنوية لهذه الجائحة بعنوان "الفلسفة والجائحة والمرض" تم تقديمها عبر تطبيق زووم ومنصّات التواصل الاجتماعي التابعة للمركز، شارك فيها باحثون من مشارب وتخصصات مختلفة، ذهبوا في طروحاتهم إلى ما وراء البعد البيولوجي للجائحة أو للمرض الذي يُلمّ بجسد الإنسان فيُعطل بعض وظائفه أو كُلها، مُتجاوزين الفهم الذي يقدمُه الطب للمرض أو للجائحة، وذلك من خلال البحث في تاريخها، وأبعادها الاجتماعية، وأسئلتها الإيتيقية، وتلك المرتبطة بالحضارة التقنية عمومًا.

وقد توزعت الندوة على ثلاث جلسات؛ ففي الجلسة الأولى التي أدراها رئيس تحرير مجلة تبين الدكتور رجا بهلول وعنوانها "الفلسفة والجائحة والمرض"، قدّم الباحث زواوي بغوره في محاضرته بعنوان "المرض بوصفه تجربة وخطابًا: بحث في سياسات المرض عند ميشيل فوكو ودورها في الفلسفة الاجتماعية المعاصرة" مقاربةً لمفهوم المرض عند ميشيل فوكو ولمفاهيمه الأساسية، موضحًا كيف أن موضوع المرض شغل فوكو طوال حياته، بدءًا من كتابه المرض العقلي والشخصية (1954)، مرورًا بـ مولد العيادة (1963) حتى دروسه التي ألقاها في الكوليج دو فرانس. في حين وقف الباحث رشيد بوطيب في محاضرته وعنوانها "المرض، المجتمع والحرية: مقدمات للفهم" على النقاشات داخل الفلسفة الاجتماعية الألمانية حول "المرض الاجتماعي"، وخصوصًا عند حوار آكسيل هونيث النقدي مع سيغموند فرويد وألكسندر ميتشرليش. أما الباحث مشير باسيل عون فانبرى في محاضرته التي حملت عنوان "كورونا وتجليات الانعطابية في الكائن الإنساني المعاصر" لمناقشة المرض باعتباره سؤالًا أنطولوجيًا بالأساس، ليقف على أشكال ثلاثة لما يسميه انعطابية الإنسان المعاصر: البيولوجية والأنطولوجية والوجدانية النفسية. وأخيرًا في هذه الجلسة، وقف الباحث عادل حدجامي في محاضرته: "’آلام إنسان الديجيتال‘: عن الجسم الحي ومسألة الحدود في العالم المعاصر" على التحديات المختلفة التي يواجهها إنسان الحاضر، مسافرًا بنا في عوالم وأزمنة فلسفية مختلفة، ومحذرًا – على طريقة تذكّرنا بجيل دولوز – من اختزال الفلسفة في الصحافة واليومي كما فعل ويفعل ذلك "الفلاسفة الجدد".

أما الجلسة الثانية فحملت عنوان "قضايا الصحة وأخلاقيات الحياة"، وأدارها الباحث عمر المغربي، فجاءت أكثر تنوعًا في مقارباتها. وفي هذا السياق سافر بنا الباحث محمد مرقطن في محاضرته الموسومة بـ "الأوبئة والجوائح في الشرق الأدنى القديم منذ أقدم العصور إلى طاعون عمواس: دراسة في تأثيراتها في العمران البشري" إلى عوالم الوباء في الشرق القديم، مسلطًا الضوء على حضارات مختلفة عصف بها الوباء، ومؤكدًا ضرورة أن نأخذ التجربة التاريخية للإنسان في الحسبان في عملية فهمنا اليوم لجائحة كورونا. في حين قدّم الباحث معتز الخطيب في محاضرته "فلسفة الوباء: من اللاهوت العملي إلى الأخلاق التطبيقية" وجهة نظر الأخلاق الإسلامية، مسلّطًا الضوء على التاريخ الطويل من تعامل "الكلام" مع قضايا الجوائح، ومؤكدًا الانتقال من "الكلامي" إلى "الأخلاقي" اليوم في مناقشة الجائحة داخل الخطاب الإسلامي. أما الباحث كمال طيرشي فوقف في مداخلته المعنونة بـ "المرض طريق الموات: تأملات كيرككَوردية" على تصور الفيلسوف الدنماركي سورين كيرككَورد للمرض والمرض الروحي، وتأثيره في الفلاسفة الوجوديين من بعده. واختتمت الجلسة بمحاضرة الباحث المولدي عزديني: "الطب الحيوي بين السياسي والإيتيقي"، وقف فيها على أشكال الخلل الذي يعتور التوظيفات المؤسساتية للطب والعلوم عمومًا، وتأثير ذلك في الإنسان، مؤكدًا ضرورة البيوإيتيقا بالنسبة إلى الطب المعاصر، ومنافحًا عن فلسفة نقدية للقيم تُفكّك المسكوت عنه سياسيًا في مجال الطب الحيوي.

وختامًا المحاضرة العامة لأستاذة الفلسفة الأخلاقية والأخلاق التطبيقية في جامعة لافال بكندا، ماري هيلين باريزو، بعنوان "وباء كوفيد-19: بين الهشاشة الاجتماعية والمنطق التقني"، وأدارتها الدكتورة أمل غزال، عميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية في معهد الدوحة للدراسات العليا. سلطت باريزو الضوء على العديد من أشكال الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحتى البيئية في سياق وباء "كوفيد-19"، محللة التوتر القائم اليوم بين قضايا الرعاية والاستجابات التقنية، وربطت في مناقشتها الجائحة وتأثيراتها بين نظرية الرعاية للفيلسوفة الأميركية جوان ترونتو، وتصور عالم الاجتماعي الفرنسي جاك إيلول المتعلق بـ "النظام التقني" الذي يتميز بالفاعلية والسرعة والأتمتة والاستقلالية .وترى باريزو أنه حتى لو أدركت العديد من الحكومات أهمية تقديم الرعاية بالنسبة إلى أي مجتمع، فقد اختارت هذه الحكومات، إلى حد بعيد، حلولًا تقنية، من أجل الحفاظ على النشاطات الاقتصادية، كما أوضحت كيف أن اللجوء إلى التحول الرقمي كان له انعكاسات كبيرة على التعليم العالي والفنون والإنتاج الثقافي وقطاع الشغل والديمقراطية. ومن خلال تقديم العديد من الأمثلة، أوضحت باريزو في محاضرتها كيف تُجهز الحلول التقنية على العلاقات الإنسانية، وعلاقات الرعاية أساسًا، وتنزع عنها طابعها الإنساني، معمقة أشكال اللامساواة والإقصاء الاجتماعي.

وتخلل الندوة نقاش ثريّ، شارك فيه الباحثون في المركز العربي، وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا وطلبته، وأساتذة باحثون من الوطن العربي وخارجه، كما شارك فيه جمهور المتابعين عبر وسائط التواصل الاجتماعي.