جانب من المشاركين في الندوة عبر تطبيق المحاضرة عن بعد
رشيد بوطيب مديرا الجلسة الأولى في الندوة
محمد أوريا
جوني عاصي
منير الكشو
من الندوة
مراد دياني مديرا الجلسة الثانية في الندوة
رضوان زيادة
عبد الوهاب الأفندي
عبد الفتاح ماضي
من الندوة

نظَّم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون بين مشروع التحول الديمقراطي ودورية "تبيُّن للدراسات الفلسفية والنظريات النقدية"، ضمن سيمنار التحول الديمقراطي، ندوة حول الكتاب الأخير للمفكر العربي عزمي بشارة، الذي يحمل عنوان: الانتقال الديمقراطي وإشكالياته: دراسة نظرية وتطبيقية مقارنة. وهو الكتاب الذي يبدأ "رحلته" النقدية من نظريات التحديث، مرورًا بدراسة الانتقال إلى الديمقراطية في بدايات العقد السابع من القرن العشرين، وانتهاء بتسليط الضوء على تجارب الانتقال الديمقراطي في السياق العربي، ليخلص - كما تعودنا من كتب بشارة السابقة - إلى تقديم رؤية جديدة للقضية المطروحة، ومساهمة عربية نقدية، هذه المرة، في نظرية الانتقال الديمقراطي.

الانتقال الديمقراطي: التجارب والدروس

امتدت الندوة على جلستين، وبدأت بمداخلة للدكتور محمد أوريا، أستاذ الفكر السياسي في جامعة قطر، تناولت العلاقة بين الثقافة السياسية والديمقراطية، ومدى تأثير هذه الثقافة في مسلسل الانتقال الديمقراطي، وقد عرج الباحث في حديثه على مسؤولية النخبة عن المسلسل الديمقراطي وترسيخ ركائز الديمقراطية الوليدة، كما حاول وضع الكتاب في سياق الفكر العربي المعاصر، وإن لم يُفصّل في ذلك.


يؤكد أوريا أن الديمقراطية تم فرضها في السياق الأوروبي دومًا من طرف الحكومات الأوروبية على الشعوب، ويستشهد في ذلك بما ذهب إليه الفيلسوف الفرنسي مارسيل غوشي، مؤكدًا أن ذلك يلتقي أيضًا مع ما ذهب إليه عزمي بشارة في كتابه؛ من جهة أنه لا يمكن الحديث عن ثقافة متجانسة حتى نتحدث عن علاقة سببية بين الثقافة السياسية للشعب والانتقال الديمقراطي، كما أن الشعب لا يمثل حقيقة سياسية؛ فغالبًا ما تم إقصاؤه من السياسة، علاوةً على أن الدولة هي التي تحدد طبيعة العلاقة بينها والشعب والقواعد التي تقوم عليها هذه العلاقة.

أما الدكتور جوني عاصي، أستاذ القانون والعلوم السياسية في جامعة النجاح الجديدة بنابلس، فاعتبر أن إثارة الجدل حول مسألة الانتقال الديمقراطي يمتلك أهمية مزدوجة، إحداهما معيارية؛ لأن دراسة النظام العربي تهدف إلى تغييره بما يكفل كرامة المواطنين، وثانيتهما نظرية؛ لأن العالم العربي، بالنظر إلى التحولات التي يشهدها، أضحى ساحةَ اختبارٍ للعديد من المفاهيم والأدوات التحليلية التي تم تطويرها في مجال دراسات الانتقال الديمقراطي. ويؤكد عاصي مسألة مهمة مفادها أنه على القوى الشعبية - وليس النخب فقط - أن تكون يقظة ومعنية بالدفاع عن الانتقال الديمقراطي، وهو ما حدث مثلًا في التجربة التونسية. ولكي يفسر الدور الذي أدّاه الجيش خلال أحداث الربيع العربي، فإنه سيسلط الضوء على نشأة الدولة العربية وافتقارها إلى مجتمع مدنيّ قويّ، كما أشار أيضًا إلى الطابع الإثني الذي رافق نشأة هذه الدولة، والذي فرضه كلٌّ من الاستعمار البريطاني والفرنسي، وهو ما يفسر كذلك، في نظره، فرض الديني على السياسي في السياق العربي.

من ناحية أخرى، بدأ الدكتور منير الكشو، أستاذ الفلسفة بمعهد الدوحة للدراسات العليا، وبالجامعة التونسية، مداخلته بتأكيد موسوعية المقاربة التي يقدمها المفكر العربي عزمي بشارة لدراسات الانتقال، والتي تنهل مما هو فلسفي وسياسي واجتماعي وتاريخي، مُنوِّهًا، أيضًا، بانفتاح بشارة على أطروحات الفكر العربي المعاصر. وقد ركز الكشو، في مداخلته، على مسألة المنوال التنموي الخاص بنظرية التحديث التي ناقشها بشارة بتفصيل، وبروح نقدية في كتابه، وما إذا كان هذا المنوال عائقًا أو محفزًا ومشجعًا على الانتقال الديمقراطي. وفي هذا السياق، يعرض خصوصًا لرأي المفكر السياسي سيمور مارتن ليبسيت والشروط التي وضعها للانتقال إلى الديمقراطية، ومناقشة بشارة لها، مُنوِّهًا برأي بشارة أو استدراكه الذي يقول بغياب حظوظ كبيرة للتنمية والتحديث في ظل أنظمة ديكتاتورية. وفي سياق متصل، يعتبر الكشو أن المشكلة التونسية أكثر ارتباطًا بالمنوال التحديثي الذي اختطَّته تونس لنفسها من الجانب السياسي؛ لأننا أمام نظام اقتصادي يقوم على قطاع عام متضخم ومهيمن، ولأن النشاط الاقتصادي في البلد مرتبط بالإدارة وتراخيصها.

الأبعاد النظرية والتطبيقية

في الجلسة الثانية، تداخل رضوان زيادة طارحًا أنّ هذا الكتاب لا يشكّل أطروحة أكاديمية نقدية لحقل التحول الديمقراطي فحسب، بل إنه يجيء أيضًا استجابة لحاجة عربية خلقتها انتفاضات المجتمعات العربية وثورات الربيع العربي التي جوبهت بعنفٍ وتعنّتٍ من الدولة. اعتنى الكتاب بالبحث في ما وراء العوامل التي تسببت في إرجاء آمال الإصلاح، وعززت تعنت نُظم الحكم العربية ضد فكرة تداول السلطة وتحرير المجال السياسي، بما أفشل مساعي المجتمعات العربية نحو الديمقراطية. ركز زيادة على النقد الواسع الذي افتتح به بشارة كتابه الضخم، ووجّهه لنظرية التحديث، بوصفها المقدمة التي نشأ عنها حقل دراسات التحول الديمقراطي ورسمت أطاريحه الأولى، تأثرًا بأطروحات رواد نظرية التحديث. وخص نقد بشارة لمقولات ليبست عن أثر التحديث في نشوء الديمقراطية، والذي جاء من العمق؛ بحيث كشف مَكمن العيب في دراسات التحول الديمقراطي التي تبعت خُطى ليبسيت. ثم تحدث عن ارتباط نقد بشارة بأولوية الجماعة السياسية، كشرط مسبق لنشوء ديمقراطية؛ جنبًا إلى جنب مع الملمح المؤسسي. ووقف زيادة عند المفهوم الفلسفي للديمقراطية الذي تبناه بشارة، وبعده عن المفاهيم المتعلقة بالإجراءات والمؤشرات على نحو تقني وكمي لا يستوعب الطابع الإنساني للتحولات، وعرج على الاستنتاجات التي قدمها بشارة لدراساته السابقة المتعلقة ببلدان الربيع العربي، والتي أعاد توكيدها وتعميقها نظريًّا في هذا الكتاب. كذلك، أظهر بشارة توافق النخب وقدرتها على الوقوف على مبادئ أساسية لإدارة الانتقال، كشرط لوقايته من التعثر، ويتصل به ما يخص نوعية الثقافة السياسية التي تتمتع بها هذه النخب وانفتاحها على التعلم الديمقراطي.


أمّا الدكتور عبد الوهاب الأفندي، فقد وصف الكتاب بأنه "عدة كتب"؛ فهو كتاب لطلاب العلوم السياسية والدراسات العليا، إذ يقدم مدخلًا متكاملًا لدراسة موضوع التحول الديمقراطي، مبينًا موضوعاته وأبرز طروحاته النظرية، وأن الوقوف على السجالات التي تدور في هذا الحقل يُمكّن من تشكيل فهمٍ عريض ومعمق للموضوع، كما أنه كتاب للباحثين المتمرسين، بما يعرضه من اشتباكات نقدية مع أبرز النظريات والمقولات التي تروج في هذا الحقل العلمي، أعاد بشارة قراءتها وتفكيكها، وأعاد تركيبها أيضًا على نحو أظهر عيوبها، بل أنصف بعضها، وبيَّن إمكانية إعادة النظر فيها، وأنصف كذلك من قدموها. وأشار الأفندي إلى أن بشارة يفهم كيف أن محاولة الإجابة عن سؤال التغيير وعوامل حدوثه شكّل الحافز الأبرز لتطور العلوم الاجتماعية؛ بدءًا من مقاربة التحول من المجتمعات التقليدية للمجتمع الصناعي، وصولًا إلى التحول من الاستبداد إلى الديمقراطية. وتوقف عند مسألة الثقافة السياسية كشرط مسبق لنشوء ديمقراطية، وكيف أن الأدبيات التي قالت به تجاهلت الحقيقة التاريخية المتمثّلة بأن نشوء الديمقراطية في الديمقراطيات الراسخة لم يبدأ من نقطة كانت عندها ملامح لثقافة ديمقراطية قد تبلورت من قبلُ، بل يمكن القول إنّ السائد حينها من قيم وتصورات كان معاديًا لما نُسلِّم اليوم به كقيم ديمقراطية، والحال أن الثقافة السياسية في الديمقراطيات قد طورتها الممارسة خلال الانتقال، ومع التعايش الواقعي وما تفرزه سياقات التحولات. وتوقف الأفندي عند تفنيد بشارة لعلاقة الليبرالية بالديمقراطية، وذلك الطرح الذي يقول بأولوية الليبرالية على الديمقراطية، وهو ما أنتج ما يمكن تسميته "وصاية ليبرالية" على المجتمعات، وضرب الأفندي أمثلة من تونس البورقيبية، وتركيا الكمالية، إضافةً إلى محاولة بلدان عربية (الإمارات مثلًا) ترسيخ ليبرالية منزوعة من الديمقراطية. كذلك، عرج الأفندي على مسألة تمتع النخب بثقافة ووعي ديمقراطيين، ومساهمته في الجدل المعنون عن وجود "ديمقراطية بغير ديمقراطيين"، وكيف عوّل في الأخير على وجود قدر من الوعي الديمقراطي يسمح في المراحل الأولى، على الأقل، بتمسك النخب بإطار التحولات المطلوب؛ لتجاوز النظام السابق، والعبور إلى جهة مجالٍ سياسي ديمقراطي.

من جهة أخرى، استهل الدكتور عبد الفتاح ماضي مداخلته بالحديث عن مكامن القوة الكثيرة في الكتاب، مشيرًا إلى أنه يجمع بين النظري والتطبيقي، وأنه انتقد الأفكار الرئيسة التي قدمت، وكذلك النقد الموجه إليها. ووقف عند إدراك الكتاب للإشكاليات الناجمة عن نقل المصطلحات والمفاهيم من الغرب إلى العرب من دون فهم السياقات المختلفة، مؤكدًا أن الكتاب كشف - وهذا أمر نادر في الكتابات العربية - تحيز الباحثين الغربيين إلى الدولة الصهيونية، وعدّهم إيّاها من الدول الديمقراطية، وتجاهلهم حقيقة أنها كيان استيطاني إحلالي. ووقف ماضي عند ربط ما قدَّمه الكتاب عن دراسات الانتقال الديمقراطي بحقل أوسع، هو تغير نُظم الحكم، وهو يُعنى بالتحولات التي تشهدها نُظم الحكم التي لا تتجه بالضرورة نحو الديمقراطية، مشيرًا إلى أهمية دراسة القسم المعني بفشل الانتقال إلى الديمقراطية، والذي هو الأقرب إلى ما حدث في الحالات العربية. وأشار ماضي إلى أن الكتاب كان محقًّا عند التركيز على أهمية الإجماع على الدولة، وقبول النخب قواعد اللعبة الديمقراطية، بوصفهما شرطين مسبقين للانتقال، مؤكدًا أهمية إضافة وجود قدر من الإجماع الوطني على الديمقراطية كنظام حكم منشود أو ما أسماه "ماذا نريد تحديدًا؟"، وأيضًا تكتل القوى السياسية المنادية بالديمقراطية، ضاربًا المثل بالعديد من الدول التي ما نجحت في الانتقال إلا بعد أن ظهر ائتلاف أو تكتل عابر للأيديولوجيا أو أكثر، كما هو الشأن في تشيلي والبرازيل وبولندا وجنوب أفريقيا، بل في الهند وماليزيا أيضًا. واختتم ماضي مداخلته بالحديث عن الحالة المصرية، موضحًا أن الكتاب أسهب في الحديث عنها، وقارن بينها وبين الحالتين التونسية والتشيلية، فجاء التحليل شاملًا، مضيفًا إلى أن من الأسباب التي أدت إلى إجهاض المسار الديمقراطي في مصر أيضًا متمثّل بوقف هذا المسار بالقوة المدعومة ماليًّا من جهة الإقليم المعادي للديمقراطية، وأنه لولا هذا العامل القهري لكان من الممكن تصور استمرار المسار على الرغم من حدة الاستقطاب الذي كان موجودًا آنذاك.

شهدت الجلسة تعقيبات ونقاشات من الجمهور تطرقت إلى أهمية الاستفادة من الكتاب في فهم الموجة الثانية من الثورات العربية في السودان والجزائر ولبنان والعراق، وأهمية التطرق إلى أثر بنية النظام الدولي في مسارات الانتقال في العالم العربي، فضلًا عن أهمية دراسة العامل السيكولوجي لمسألة العامل الاجتماعي، وموقع هذا الكتاب من كتابات بشارة السابقة، وغير ذلك من الموضوعات.