Author Search
أكاديمي جزائري مختص بالتاريخ الحديث والمعاصر. درّس التاريخ بجامعات الجزائر وجامعة آل البيت (الأردن)، وجامعة الكويت. له العديد من الدراسات والمؤلفات المنشورة تتعلق بتاريخ الجزائر والعالم العربي الحديث والمعاصر. حاصل على دكتوراه دولة في الآداب والعلوم الإنسانية من كلية الآداب بجامعة إيكس-آن-بروفانس، فرنسا (1988).
الدكتور مراد دياني يقدم المحاضر
الباحث ناصر الدين السعيدوني
المحاضر أثناء تقديم العرض

استضاف برنامج سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات يوم الأربعاء الموافق 10 تشرين الأول/ أكتوبر 2018، أستاذ التاريخ المعاصر، الجزائري والباحث الزائر في المركز العربي، الدكتور ناصر الدين السعيدوني، الذي قدم محاضرةً بعنوان "مدرسة الحوليات الفرنسية".

استعرض المحاضر التطور التاريخي لظهور المدرسة التاريخية الأوروبية المهتمة بالنشاط الإنساني والمعروفة بمدرسة الحوليات، وشرح أطروحات أبرز روادها. وقد كانت هذه المدرسة بمنزلة ردة فعل على توجهات المدرسة الوضعية التي هيمنت على الكتابات التاريخية في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، والتي حدَّت من أفق التاريخ وضيّقت اهتماماته، واستغرقته في التاريخ الحدثي، وقصرته على معالجة الوثائق، عن طريق النقد والتحليل، بعيدًا عن الحالات الاجتماعية التي تعبّر عنها التطورات الاقتصادية والثقافية والعقلية التي ركزت عليها مدرسة الحوليات؛ لتكون بذلك بديلًا من المدرسة الوضعية. وأشار المحاضر إلى أهمية المقالات التاريخية النقدية التي دأب في نشرها كل من مارك بلوخ ولوسيان فيفر في مجلة حوليات التاريخ الاقتصادي والاجتماعي Annales d’histoire économique et sociale، منذ نشأتها عام 1929؛ من أجل التأسيس لمدرسة الحوليات. وقد بيّن السعيدوني أنّ بلوخ وفيفر كانا يهدفان من تأسيس مجلتهما هذه، التي أصبحت تُعرف اختصارًا بـ "الحوليات" Annales، إلى فتح آفاق جديدة لتاريخ اقتصادي - اجتماعي ينقذ الكتابة التاريخية من إرث مؤرخي جامعتَي السوربون وبرلين الوضعيين الذين لم يستطيعوا تجاوز التاريخ السياسي والدبلوماسي الضيق الأفق. وقد عرف هذا المنحى في البحث التاريخي وهذا النهج في دراسة التاريخ نسبةً إلى هذه المجلة التي عبرت عنه، فاصطلح على تسميته "مدرسة الحوليات"، وإن كانت تسميته "مدرسة النشاط الإنساني" أولى؛ بالنظر إلى اهتمام المؤرخين الملتزمين به بالإنسان، وجعلهم إيَّاه - بجميع نشاطاته وجوانب حياته - موضوعًا رئيسًا لأبحاثهم التاريخية.

في هذا السياق، رأى المحاضر أنّ مدرسة الحوليات قد تجاوزت النظرة الجامدة للمدرسة الوضعية؛ فهي لم تتوقف عند عملية نقد الوثيقة، بل تخطتها إلى تحليل المعطيات التاريخية المتصلة بجوانب حياة الإنسان، كما أنها لم تعتمد أساليب المدارس الملتزمة والتوجهات الليبرالية واليسارية التي غلب عليها المنظور الأيديولوجي؛ فكانت مدرسة الحوليات بذلك استجابة موفقة للأزمة التي عرفتها الدراسات التاريخية في أوروبا، في مطلع القرن العشرين، من حيث المنهج والأسلوب ومعالجة الأحداث. لقد نقل مشروع مدرسة الحوليات الفرنسية في البحث التاريخي، الذي أشرف عليه فيفر وبلوخ، التاريخَ من الأحداث السياسية إلى دراسة النواحي الاقتصادية والاجتماعية وأحدث تحولًا حقيقيًا بشأن التاريخ الحدثي - السياسي وتاريخ الوقائع؛ أي تاريخ السرد والحدث والفرد، فذهب فيفر إلى أن التاريخ "الدبلوماسي" مجرد "أحجيات" لخلوّه من الأحداث العميقة، ومن ثمّ يجب تجاوزه إلى تاريخ "اجتماعي" ينطلق من واقع الحياة بشموليتها، وهو التوجه نفسه الذي عبّر عنه الفيلسوف الفرنسي بول ريكور بقوله إنّ مواضيع "الحوليات" تتصف بالواقعية الاجتماعية الشاملة.

وفي القسم الثاني من محاضرته، طرح الباحث تساؤلًا مهمًا بشأن تأثير مدرسة الحوليات في تطور الدراسات التاريخية في العالم العربي. فهل كان لها أثر في تجديد المنهج وطرح التساؤلات حول قضايا التاريخ العربي؟ أم هل انحصر أثرها في إبداء الإعجاب من جانب بعض المؤرخين العرب وتتبعهم لما أنتجته هذه المدرسة؟ لقد مال المحاضر إلى الطرح الثاني باستثناء ما قدمته بعض الرسائل الجامعية التي تم إنجازها في فرنسا، وفي بعض الجامعات العربية.

وخلص المحاضر إلى أنّ العالم العربي يعيش أزمةً مضاعفة؛ سواء كان ذلك من حيث المنهج وطريقة المعالجة، أو من ناحية حقول البحث ومضمون الدراسات. وهذا ما أشار إليه بعض المؤرخين العرب، ومنهم قسطنطين زريق الذي نقد استخدام مناهج بلوخ بشيء من الضمنية في كتاباته، وكذلك ما كتبه بعض المؤرخين الأكاديميين لاحقًا من أمثال وجيه كوثراني ووليد نويهض اللذين حاولا التعريف بمنهج مدرسة الحوليات وتوجهاتها، بينما ظلّ مجمل الإسهام التاريخي العربي غير متجاوبٍ مع ما طرحته مدرسة الحوليات، وأرجع المحاضر ذلك إلى صعوبة تواصل الدراسات التاريخية العربية بين الجيل القديم المخضرم والجيل الجديد الناشئ، إن لم نقُل انقطاعه؛ فالجيل القديم حافظ على المستوى الأكاديمي باعتماده المنهج التاريخي المستمد من المدرسة الوضعية التي تعبر عنها مؤلَّفات منهجية كثيرة موجهة إلى الطلاب الجامعيين بالبلاد العربية، في حين أنّ الجيل الجديد حاول التعرف إلى واقع الدراسات التاريخية في الغرب، من دون أن ينجح في الاستفادة منها بشأن تجديد مقارباته ومناهجه؛ وهو ما أفضى بالباحث إلى القول إنّ المشتغلين بالتاريخ في العالم العربي ظلوا بعيدين عن تفاعل مثمر وحوار بنَّاء، باستثناء بعض المؤرخين الذين سمحت لهم الظروف أن يمارسوا البحث التاريخي في الأوساط العلمية الأوروبية، أو أن يحضروا رسائل جامعية بإشراف أساتذة يأخذون بمنهج مدرسة الحوليات وطريقة تناولها ومنظورها.

إثر المحاضرة، جرى نقاشٌ ثريٌّ أسهم فيه جمهور الحضور.