استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 27 آذار/ مارس 2024، الأستاذ إيهاب محارمة، الباحث في المركز العربي، والذي قدّم محاضرة عنوانها "مسارات السلب ومسارات المقاومة في عصر الاستعمار الاستيطاني النيوليبرالي"، ناقش فيها كيفية اندماج النيوليبرالية مع الاستعمار الاستيطاني في الحالة الإسرائيلية، وإسهام هذا الاندماج في تكثيف العنف الاستعماري لسلب أرض السكان الأصليين من الفلسطينيين ومواردهم.
استهل الباحث السيمنار بتقديم لمحة عن آليات سلب الأرض في فلسطين، وعرض المواقع الاستيطانية التي تأسست منذ عام 1878، والآليات والديناميات التي جرى من خلالها إحلال المستوطنين اليهود محل الفلسطينيين عبر عمليات الهجرة والتهجير القسريين. وتناول كذلك البنية التحتية لعزل الفلسطينيين، كشبكة الطرق وجدار الفصل العنصري وحواجز التفتيش، موضحًا الكيفية التي تسعى بها إسرائيل من خلال سياسة إنتاج "المعازل" في الضفة الغربية إلى إقصاء الفلسطينيين ومحوهم وتقويض قدرتهم على البقاء والمقاومة.
وفي تحليله لسلب الفلسطينيين سياسيًا، تطرق إلى القيود التي فرضتها إسرائيل بعد الانتفاضة الثانية تحت عنوان "بناء الدولة"، حيث جرى التركيز على إنشاء بيروقراطية أمنية على حساب قطاعات التعليم والصحة والعمل، ومن ثم أدى الانقسام الفلسطيني إلى تبنّي نموذج أمني يعتمد على التنسيق مع الاحتلال، وقمع الحراك الشبابي والنقابي. أما اقتصاديًا، فقد ظلت إسرائيل تتحكم في موارد الفلسطينيين وتعزز اعتمادهم على السوق والمساعدات، بما يجعل هدف التحرر من الاستعمار رهينة لنموذج بناء دولة نيوليبرالي تحت الوصاية الدولية والإسرائيلية.
وفي سياق سلب العمل والعمّال الفلسطينيين، تناول الباحث كيفية إعادة إسرائيل، وفق منظور أمني، إنتاج الفلسطينيين بوصفهم جيش احتياط تحت الطلب الاستعماري، يمكن استدعاؤه والتخلص منه وفقًا للاحتياجات النيوليبرالية المتقلبة. وأشار إلى تطوير إسرائيل تقنيات أمنية متقدمة لمراقبة العمال وضبط سلوكهم، من بصمات العين والوجه إلى تطبيقات الهواتف، معتبرًا ذلك شكلًا من أشكال إنتاج الموت والقتل البطيء للفلسطينيين.
في المقابل، استعرض الباحث صور المقاومة المتنوعة التي يمارسها الفلسطينيون، من الفردية إلى الجماعية، ومن العفوية إلى المنظّمة، مركّزًا على مفهوم "الرفض" بوصفه منطقًا جذريًا يتجاوز الخضوع لشروط الاستعمار ويؤكد سيادة السكان الأصليين. ومن خلال مقابلات ميدانية مستفيضة، قدّم الباحثة أمثلة عديدة على ذلك، مثل رفض العمال تسمية مكان عملهم بالمستوطنة، والاستعاضة عن ذلك بذكر أسماء القرى الأصلية التي بُنيت المستوطنة على أنقاضها، وتحدّث أيضًا عن الإضرابات العامة عن العمل، ورفض تحويل الأجور عبر البنوك، والتظاهر ضد إقامة منطقة صناعية استيطانية، معتبرًا هذه الأفعال اليومية تجسيدًا لجدوى المقاومة في تحدي السيادة الاستعمارية النيوليبرالية.
وخلُص الباحث إلى دعوة للتفكير النقدي في منطق الثنائيات القائم في دراسات الاستعمار الاستيطاني، وفي الفصل بين هذه الظاهرة والأبنية السياسية والاقتصادية القائمة، وفي تهميش المقاومة وإمكانية إنهاء الاستعمار، مشيرًا إلى جدوى النضال المستمر في مواجهة العنف الاستعماري الاستيطاني النيوليبرالي.
وقد عقّب الدكتور طارق دعنا، أستاذ مشارك ورئيس برنامج إدارة النزاع والعمل الإنساني في معهد الدوحة للدراسات العليا، على المحاضرة، مشيرًا إلى أهمية النظرة التاريخية لكيفية استغلال الاستعمار الصهيوني لقطاع العمل والعمال أداةً فاعلةً لفرض هيمنته وتأمين استمراره، من خلال إنتاج شروط طمس الهوية الفلسطينية عبر الاستبعاد والإقصاء. وأكد على ضرورة مراعاة بعض الاختلافات الجوهرية بين النموذجين الإسرائيلي والأبارتهايد في جنوب أفريقيا، خصوصًا جهة كون الأبارتهايد هدفًا في حد ذاته في جنوب أفريقيا، في حين يُعتبر وسيلة مؤقتة بالنسبة إلى إسرائيل، إضافة إلى الاختلاف في مدى الاعتماد على العمالة المحلية. ولفت دعنا الانتباه إلى ظاهرة "سماسرة التصاريح" وكيفية استغلال ملف العمل والعمال لأغراض الابتزاز المالي وإعادة إنتاج "مواطن أوسلو"، متسائلًا عن تجليات إعادة الهيكلة النيوليبرالية بعد الانتفاضة الثانية في ظل استمرار الاحتلال ودعمه للمستوطنات والصناعة والزراعة الإسرائيلية.
وقد أعقب المحاضرة نقاش مستفيض، شارك فيه نخبة من باحثي المركز العربي وأساتذة معهد الدوحة، تناول ثيمات العمل والمقاومة والاستعمار، وآفاق تجاوز الواقع الاستعماري في فلسطين.