ضمن سلسلة محاضرات "التفكير في أزمة كورونا وأبعادها"، التي يعقدها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، وتُبثّ عبر منصاته على مواقع التواصل الاجتماعي، ويقدّم فيها عدد من الخبراء والأكاديميين محاضرات علمية حول جائحة كورونا وتداعياتها على مختلف المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ قدم الدكتور تيسير الردّاوي، يوم الأحد 26 نيسان/ أبريل 2020، المحاضرة الثانية بعنوان "أثر الأوبئة في الاقتصاد: دراسة مقارنة".

استهل الباحث محاضرته بالإشارة إلى أنّ التكهنات الراهنة حول مستقبل العالم بعد وباء فيروس كورونا المستجد غير دقيقة، وأنّ التنبؤ بالمستقبل لا يكون دقيقًا إلّا حين "تنتهي العاصفة"، ممّا يتيح جرد نتائجها وتحليلها وتقييم أثرها. وبيّن أنّ المحاضرة ستعتمد أسلوب المقارنة بين تجربتين تاريخيتين ومقابلة نتائجهما بالواقع الراهن، هما وباء الطاعون الأسود الذي اجتاح العالم سنة 1334، والإنفلونزا الإسبانية سنة 1919؛ والمشترك بين هاتين التجربتين، في رأي الباحث، هو اتهام الصين بنشرهما، وذلك كونهما انتقلا من الصين إلى أوروبا، ومنها نحو العالم.

يرى المحاضر أن العالم بعد الطاعون الأسود الذي راح ضحيته ما بين 70 و200 مليون شخص، عرف تغييرات جذرية اجتماعية واقتصادية وسياسية؛ إذ انتقل من نظام العبودية إلى نظام الحرفية، وتطوّرت أساليب التصنيع باكتشاف تقنيات جديدة، كالفحم والحديد والنقل البحري. وأدّى الطاعون أيضًا، في رأي الردّاوي، إلى نشوء الدولة القومية الحديثة التي تغذّت في مراحلها المبكّرة بأفكار المرحلة التجارية ودفعتها الحاجة إلى المعادن الثمينة. وفي مقابل التغيّر الكبير الذي أحدثه الطاعون، لم تُحدث جائحة الإنفلونزا الإسبانية تغييرًا كبيرًا في العالم، على الرغم من تأثيرها المأساوي في حياة البشر بسبب عدم تقيّد الناس بالحجر الصحّي خاصة في فرنسا، وفي الولايات المتحدة الأميركية التي فقدت نحو 700 ألف شخص. وتشير الإحصائيات التي ذكرها الباحث إلى أنّ العالم فقد ما بين 50 و100 مليون ضحيّة (منهم 17 مليون شخص في الهند).

وأوضح الباحث أنّ نتائج وباء فيروس كورونا المستجد ستكون مختلفة تمامًا وأقلّ حدّة مقارنةً بآثار الطاعون الأسود والإنفلونزا الإسبانية؛ ويُعزى ذلك إلى الاهتمام العالمي بالوباء، وتشديد الدول الرقابة المجتمعية، ذلك أنّ العالم لم يتعامل بجدّية مع الأوبئة السابقة. والأهم ممّا سبق، هو تطوّر الطبّ والرعاية الصحية في العالم، إضافة إلى نجاح إجراءات الحجر الصحّي نتيجة تطوّر تقنيات تبادل المعلومات وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي بين الناس. ومن تأثيرات وباء كورونا المستجد المحتملة، في رأي الباحث، حدوث تبدل في علاقات الدول وتغيّرات داخل الأنظمة الديمقراطية تظهر في مزيد من التشدد المدفوع بالسلامة العامّة، إضافة إلى ما يسميه "فشل العولمة"، معلّلًا ذلك بـ "نجاح الفيروس في عبور الحدود الوطنية للدول في مقابل فشل الكمامات الطبية في ذلك"، في إشارة إلى ندرة العتاد الطبّي والمنتجات الصحية من كمامات ومعقّمات، التي يشهدها العالم حاليًا.

أفرد الردّاوي مساحة تحليلية واسعة خلال محاضرته، تتعلق بقضية ترافق الوباء مع تبادل الدول الاتهامات؛ إذ رأى أنّ اتهام الصين سابقًا أثّر فيها، بحيث وُضعت عقبات أمام تقدّم البضائع الصينية، وقطع طريق الحرير. وقد عادت الصين من جديد في سياق جائحة كورونا إلى قفص الاتهام، حيث اتهمها الرئيس الأميركي دونالد ترامب بأنها أخفت المرض، وتواطأت مع منظمة الصحّة العالمية. إضافة إلى ذلك، أشار الباحث إلى الهزّة التي تعرّض لها الاتحاد الأوروبي، بسبب طغيان الأنانية الوطنية على حساب التعاون الإقليمي في معالجة الجائحة، حيث إنّ الدول الأوروبية لم تتمكّن من مساعدة إيطاليا التي تعدّ الضحية الأبرز أوروبيًا لهذا الوباء.

وأشار الباحث إلى أنّ جميع التغييرات المحتملة في المجالات السياسية والاجتماعية والاقتصادية تتوقف على طول مدة الوباء وانتشاره وعدد ضحاياه، وعلى احتمال حدوث تغيرات تكنولوجية خارقة. وقد استشرف أنّ الرأسمالية ستصبح أقل ليبراليةً وديمقراطيةً، مع تراجع السياسة لصالح الأمن، نتيجة الفلسفة التي تعتقد "بإنسان أقل حرية ومشاركة سياسية خير من إنسان نزيل قبر". ويرى الباحث أن شعبية نظام ما قد تتضاعف، نتيجة نجاحه في مجابهة الوباء، كالنظام الصيني مثلًا الذي أعلن عن نجاحه في ذلك. والجانب المضيء للوباء من وجهة نظره هو إرغام الدول على أداء دورها الاجتماعي في توفير الرعاية الصحية قبل توفير الأمن والتسلح والتعاون والتبادل العالمي. ولكن ذلك لا يعني عدم احتمال تعرّض العالم للخطر الذي لن يأتي بالضرورة من الصين، وإنما من دولة تستطيع امتلاك أسلحة تهدد العالم. خلاصة القول، يرى تيسير الردّاوي أنّه: "سيكون هناك تغييرات بسيطة في العالم، ولكن ليس من المؤكد أن كل وباء يؤدي إلى تغيرات سياسية واقتصادية كبرى، فالتغيرات الكبرى لا تحدث إلّا بفعل الحرب أو تغيرات تقنية وبشرية كبرى".

وفي الختام، أجاب الردّاوي عن الأسئلة التي طرحها المتابعون عبر منصات التواصل الاجتماعي، حيث لقيت المحاضرة تفاعلًا واسعًا وأسئلةً متنوعة ومداخلات ثرية.