عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الإثنين 23 كانون الثاني/ يناير 2023، في إطار محاضرات وندوات وحدة الدراسات الاستراتيجية، ندوةً لمناقشة كتاب من السلاح إلى السلام: التحولات من العمل المسلح إلى العمل السياسي السلمي، الذي ساهم في تأليفه مجموعة مؤلفين، وحرّره المؤلف المشارك فيه عمر عاشور. شارك في الندوة، التي عُقدت بطريقة مزدوجة حضوريًّا وعن بُعد، وأدارها أحمد حسين، الباحث في المركز العربي ومدير تحرير دورية "سياسات عربية"، خمسة باحثين متخصصين في الموضوع ومساهمين في تأليف الكتاب، هم: عمر عاشور، رئيس وحدة الدراسات الاستراتيجية ورئيس برنامج الدراسات الأمنية النقدية بمعهد الدوحة للدراسات العليا؛ وحيدر سعيد، رئيس وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي ورئيس تحرير دورية "سياسات عربية"؛ وحمزة المصطفى، المدير العام لتلفزيون سوريا، والباحث في العلوم السياسية والعلاقات الدولية؛ وأسامة رشدي، مدير مؤسسة نجدة لحقوق الإنسان؛ وروني كاسريلز، أحد مؤسسي الجناح العسكري لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي "رمح الأمة" ووزير الاستخبارات السابق في جنوب أفريقيا.

التحولات الجماعية المقارنة ومحاولات نبذ الراديكالية

في البداية، نوّه عمر عاشور بسياق الكتاب وإطاره النظري العام، موضحًا أنّه كتاب يهدف إلى الإجابة عن الأسئلة الآتية: متى تقرر منظمة مسلحة، كانت تسلك العمل المسلح بوصفه وسيلةً للتغيير الاجتماعي والسياسي، أن تتخلى عن العنف وتؤطر ذلك أيديولوجيًا لشرعنة التغيير؟ وكيف تقرر هذا الأمر؟ ولماذا تقرر ذلك؟ لقد جرى التطرق إلى هذه المسائل من خلال معالجة عشرين حالة لمنظمات مسلحة تحولت إلى أحزاب سياسية أو حركات اجتماعية غير عنيفة في 15 بلدًا، هي: أفغانستان، والجزائر، والأرجنتين، وتشيلي، وكولومبيا، ومصر، والسلفادور، وإثيوبيا، والعراق، وليبيا، وجنوب أفريقيا، وإسبانيا، وسورية، والمملكة المتحدة، والأوروغواي. ثمّ إن الباحث انتقل إلى عرض خلاصات الكتاب الرئيسة، وهي: أولًا، تبقى القيادة - سواء كانت ممثلة بقائد كاريزمي واحد أو هيكل قيادة مركزي - متغيرًا حاسمًا في نجاح انطلاق عمليات التحول الجماعي ونبذ الراديكالية أو فشل ذلك. ثانيًا، تُحدث تكاليف القتال وضغوطه تغيرات سلوكية وأيديولوجية وتنظيمية - مؤسسية وحتى قانونية - ودستورية لدى الدولة والأطراف دون الدولة، بغض النظر عن نتيجة التمرد (هزيمة، أو تعادل، أو انتصار). ثالثًا، للتفاعلات (الخارجية) مع المنظمات والأفراد المغايرين في التفكير، وضمن طبقات المنظمات نفسها (الداخلية) تأثيرٌ حاسم في صوغ الأيديولوجيا المحدَّثة والتحولات الخطابية والسلوكية والتنظيمية. رابعًا، تعزز الحوافز، المُقدمة من طرف السلطة الحاكمة أو المجتمع الدولي، موقف القادة الداعمين لنبذ العمل المسلح الجماعي مقارنةً بأولئك الذين يعارضون العملية داخل منظمة مسلحة. وإذا استمرت هذه الحوافز، فإنها تعمل أيضًا على كبح الانتكاس نحو العنف. خامسًا، تؤثر الدمقرطة في عمليات التحول من صناديق الرصاص إلى صناديق الاقتراع إيجابيًا عمومًا لجهة بدء التحول واستدامته. سادسًا، يُعدُّ الدعم الدولي والإقليمي (أو عدمه) لعمليات التحول نحو السلام متغيرًا حاسمًا آخر على المستوى الكلي، فإما أنْ يعزز بدء عمليات نبذ الراديكالية الجماعي واستدامتها، وإمّا أنْ يؤدي إلى تقويضها.

التحولات الجماعية للفاعلين المسلحين دون الدولة في سورية والعراق

قدّم المداخلة الثانية حيدر سعيد، وقد تطرّق فيها إلى أن الفصائل المسلحة التي درسها الكتاب تُصنَّف إلى نوعين: ميليشيات خالصة، نشأت بوصفها قوة مسلحة واستمرت كذلك، أو أذرع مسلحة لتنظيمات سياسية، أُنشئت بعد وقت لاحق على نشوء التنظيم السياسي الذي تتبعه، وبقرار واعٍ منه، وهي ترتبط به بنيويًا. إلّا أنّ الإطار النظري للكتاب الذي قدمه عاشور في الفصل الأول، لا يُميّز إنْ كان الفصيل المسلح قد نشأ تنظيمًا مسلحًا، أو كان ذراعًا مسلحة لتنظيم سياسي. لهذا السبب، أشار سعيد إلى أنه اعتمد هذا التمييز، في فصله المتعلق بجيش المهدي (الوجه المسلح للظاهرة الصدرية بحسب تعبيره) في العراق؛ لكون الفصائل المسلحة في التجربة الحزبية العربية تاريخيًا، كانت – في الأساس – أذرعًا مسلحة لتنظيمات سياسية، وكانت تؤدي وظائفَ حزبية، من جهة أنها أداة الأحزاب في الوصول إلى السلطة، في ظل سيطرة المخيال الانقلابي. وبيّن سعيد، أنّ حالة جيش المهدي تُثبت الافتراضات النظرية التي اقترحها عاشور؛ ذلك أن الهزيمة تقود الفصيل المسلح إلى تبني خيار الإصلاح السلمي التدريجي من داخل النظام، وهذا ما حصل للتيار الصدري الذي – على الرغم من أنه خاض الانتخابات النيابية لعام 2005 وشارك في حكومة نوري المالكي الأولى في عام 2006 – بات عمله وتمسكه بإطار العملية السياسية القائم أكثر وضوحًا، بعد معارك صولة الفرسان في ربيع 2008. وفي مطلع عام 2009، خاض انتخابات مجالس المحافظات التي حقق فيها فوزًا، وكانت نقطة مهمة في دخوله إدارة الدولة، قبل أن تتوسع مشاركته في حكومة المالكي الثانية في عام 2010.

وكانت المداخلة الثالثة لحمزة المصطفى، وقد أشار فيها إلى أن الحالة السورية في إمكانها الإسهام في حقل تحوّلات الحركات الإسلامية المسلحة، بالنظر إلى ما تقدمه من خلاصات نظرية قابلة للتعميم، موضحًا أن هذا الحقل المعرفي يُعدُّ جديدًا نسبيًّا، وأن الدراسات فيه ازدهرت بعد انخراط الحركات الإسلامية في العمل السياسي في عدد من البلدان العربية، خاصةً بعد دخول الإخوان المسلمين في الانتخابات البرلمانية السورية؛ ومن ثم انخراط حركة المقاومة الإسلامية (حماس) في العمل السياسي. ثمّ إن دراسات الحقل بدأت بالتركيز على تفسير راديكالية بعض هذه الحركات، وتحوّلت إثر ذلك إلى معالجة عمليات الاعتدال ونزع الراديكالية، باستخدام المنهج المقارن في أغلب الأحيان. واختتم الباحث مداخلته منوّهًا بالقيمة المعرفية التي يقدمها الكتاب من خلال فتح آفاق للدراسات العربية من أجل فهم هذه التحولات، ولا سيما مع ضرورة إيجاد مفاهيم بديلة تناسب السياق العربي؛ فمفهومَي "الراديكالية" و"نبذ الراديكالية" وما ينطويان عليه من حمولة معيارية مثلًا، لا يتناسبان مع حالات العالم العربي وخصوصيتها. لذا، من الضروريّ فهمُ ديناميات تغيير الحركات الإسلامية وتحوّلها، بدلًا من التركيز على مخرجات عملية التحوّل فقط.

من المواجهة المسلحة إلى العمل السياسي: شهادتان من مصر وجنوب أفريقيا

في المداخلة الرابعة، تطرق أسامة رشدي إلى تجربة تحوّل الجماعة الإسلامية في مصر إلى العمل السياسي، موضحًا أنّ مبادرة وقف العنف ليست إعلانًا للهزيمة، كما يذهب بعضهم، بقدر ما كانت تعكس رؤية إسلامية وسياسية استراتيجية، انتهت إلى قناعة كاملة مفادها أن العنف لم يساهم إلّا في تكريس الاستبداد والانهيار على كل المستويات السياسية والاقتصادية وملف الحريات وحقوق الإنسان، وأن العنف أيضًا ليس هدفًا في حد ذاته. وأشار الباحث إلى أن تعامل نظام الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك مع المبادرة ظلّ دون المستوى المطلوب، حتى جاءت أحداث أيلول/ سبتمبر 2001؛ إذ تحولت الولايات المتحدة إلى طرف يأمر ويريد من الجميع الطاعة، وجرى تحديد نظام مبارك بوصفه مسؤولًا عن تصدير الإرهاب، المتولّد من الغضب الناتج من الاستبداد، وهو ما دفع هذا النظام، منذ آذار/ مارس 2002، إلى التركيز الإعلامي على نجاح المبادرة، باعتبارها واحدة من إنجازات النظام؛ ومن ثمّ، بدأت سياسة جديدة في التعامل مع المبادرة، شهدت تحوّلات في سياسات وزارة الداخلية والسماح لقادة الجماعة الإسلامية بزيارات السجون المختلفة من أجل شرح المبادرة، وتكوين رأي عامّ داعم لها.

وفي السياق ذاته، تحدّث روني كاسريلز عن تجربة انتقال حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وجناحه العسكري إلى النشاط السياسي السلمي في جنوب أفريقيا، مبينًا كيف أنّ كفاح جنوب أفريقيا يقدّم دروسًا في فاعلية شكلَي الكفاح المسلح وغير المسلح: في فن المفاوضات، ودور القادة، والمصالحة، والتحول في موقف الجيش، وصياغة دستور شامل، والنشاط السياسي الجماهيري، وضرورة التفاعل مع الدول الأجنبية، من دون السماح لها بإدارة قضايا الكفاح. ولفت الباحث الانتباه إلى أنّ التحوّل نحو التخلي عن السلاح في بعض الحالات لا يكون إيجابيًا؛ مثلما هو الحال مع منظمة التحرير الفلسطينية، وأنه لا يمكن كذلك تجاهل أن الدعم الذي تلقته أفريقيا من منظمة الوحدة الأفريقية في الكفاح ضد الاستعمار لا مجال لمقارنته بحالة الدول العربية التي خان كثير منها القضية الفلسطينية.

أعقب المداخلات الخمس نقاش ثري، شارك فيه الباحثون في المركز العربي، وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا. واختتمت المناقشة بتعقيب لمحرر الكتاب، عمر عاشور، تعرض فيه لجملةٍ من القضايا والأسئلة التي أثارتها التعقيبات.