بدون عنوان

عقد فرع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت ورشة عمل عن "دور الغاز القارّي اللبنانيّ: من النزاعات إلى وضع القوانين والسياسات".

افتتحت الورشة أعمالها بعد ظهر يوم 2 أيار/ مايو 2013 في مقرّ فرع المركز في بيروت، بكلمة ترحيب بالمشاركين ألقاها رئيس الفرع الدكتور وجيه كوثراني، أوجز فيها نشاطات المركز العربيّ الذي يرأسه الدكتور عزمي بشارة من الدوحة؛ فأشار إلى ثلاث مهمات رئيسة منها: عقد ندوات ومؤتمرات دورية تتناول القضايا العربيّة الراهنة، ونشْر كتب تتناول أبرز الموضوعات من وجهات نظر مختلفة (45 كتابًا حتّى الآن)، وإصدار ثلاث مجلّات فصلية تعنى بالفلسفة والعلوم الاجتماعية والقضايا الإستراتيجية (تبيّن، وعمران، وسياسات عربية)، إلى جانب التأكيد على نشاطاتٍ ومشاريعَ أخرى، من بينها: تأسيس معهد جامعي للدراسات العليا، والجائزة العربيّة السنويّة، والمعجم التاريخي للّغة العربية.

شرح الدكتور كوثراني في كلمته مهمات المركز، من رصدٍ ومتابعة للأحداث والتطوّرات العربيّة والإقليمية والدولية، مشيرًا إلى قسم الترجمة الذي يُشرف على تعريب الكتب والمقالات من لغاتٍ ثلاث، أو نقل البحوث العربيّة إلى لغاتٍ أجنبية تسهيلًا للتواصل الثقافي من خلال موقع المركز العربيّ الإلكتروني.

بعد كلمة الافتتاح، بدأت الورشة أعمالها؛ فأدار الجلسة الأولى الدكتور ناجي أبي عاد الذي قال إنّ الحديث عن اكتشاف الغاز اللبنانيّ سابق لأوانه. ودعا إلى "إيجاد ثقافة بترولية عند اللبنانيّين"، مطالبًا "بالتروّي في انتظار معرفة وجود غاز ونفط أم لا"، مشيرًا إلى "حالتَي السعودية والبحرين المتجاورتين جغرافيًّا، إذ تملك الأولى أعلى احتياطي نفطي ولا تملكه الثانية". ثمّ ألقى الدكتور فادي مغيزل محاضرةً تحت عنوان "الملابسات القانونية في إنتاج الغاز اللبنانيّ"، فأكّد أنّ بحثه يستثني الموارد البترولية البرّية مشيرًا إلى "أنّ لبنان يتجّه بخطًى ثابتة نحو الشروع في أنشطة استكشاف البترول ضمن مياهه البحريّة، وقد أحرز مؤخّرًا تقدّمًا ملحوظًا على الصعيدين التنظيمي والتشغيلي فيما يتعلّق بإطلاق الأنشطة البترولية البحريّة".

 وذكر مغيزل أربع خطوات في هذا الصدد، وهي: إصدار لبنان القانون رقم 132 المتعلّق بالموارد البترولية في المياه البحريّة بتاريخ 24 آب / أغسطس 2010. وصدور المرسوم رقم 7968 الذي ينظّم هيئة إدارة قطاع البترول في 7 نيسان / أبريل 2012. وتعيين الحكومة أعضاء هيئة إدارة قطاع البترول في 7 تشرين الثاني / نوفمبر 2012. وأخيرًا تأليف هيئة إدارة قطاع البترول من ستّ وحدات (التخطيط الإستراتيجي، والشؤون الهندسية والفنّية، والجيولوجيا والجيوفيزياء، والشؤون القانونية، والشؤون الاقتصادية والماليّة، ووحدة الجودة والصحّة والسلامة والبيئة).

وأعلن مغيزل أنّ يوم 2 أيار / مايو يوافق إطلاق بدء العمل على الاكتشاف وفق برنامج زمني تنتهي مدّته في 4 تشرين الثاني / نوفمبر المقبل.

 بعدها انتقل مغيزل إلى شرح الإطار القانوني لعملية الاستكشاف مركّزًا على ثلاثة مستويات: الأوّل مسألة ترسيم حدود لبنان البحريّة؛ والثاني الإطار القانوني والتعاقدي للأنشطة البترولية؛ أمّا الثالث فهو النظام القانوني المعتمد للأنشطة البترولية في ضوء قانون الموارد البترولية في المياه البحريّة.

 بالنسبة إلى حدود لبنان البحريّة، أشار مغيزل إلى اتفاقية الأمم المتّحدة لعام 1982 المتعلّقة بقانون البحار التي وُقّعت في جامايكا ودخلت حيّز التنفيذ في 16 تشرين الثاني / نوفمبر 1994 بعد أن صدّقت عليها 165 دولة بينها لبنان وقبرص. وفي المقابل، لم تنضمّ إليها سورية وإسرائيل.

وشرح مغيزل البنود الرئيسة التي تتضمّنها الاتفاقية. إذ تقسّم المناطق البحريّة إلى منطقة المياه الداخلية، والبحر الإقليمي، والمنطقة المتاخمة، والمنطقة الاقتصادية الخالصة، والجرف القارّي، وتشكّل المناطق الأخرى جزءًا من أعالي البحار.

وذكر مغيزل أنّ "لكلّ دولة الحقّ في تحديد عرض بحرها الإقليمي إلى حدٍّ لا يتجاوز 12 ميلًا بحريًّا". و"بمحاذاة البحر الإقليمي توجد المنطقة المتاخمة التي قد تمتدّ إلى 24  ميلًا بحريًّا". أمّا المنطقة الاقتصادية الخالصة، فهي منطقة واقعة وراء البحر الإقليمي وملاصقة له. وهي تمتدّ "إلى حدّ أقصى 200 ميل بحريّ".

 اعتمادًا على بنود الاتفاقية الدولية، ذكر مغيزل أنّ "هناك ثلاث مناطق تحتاج إلى ترسيم للحدود بين الدول ذات السواحل المتقابلة (مثل لبنان وقبرص) والدول ذات السواحل المتلاصقة (مثل لبنان وسورية، لبنان وفلسطين المحتلّة). والمناطق الثلاث تشمل البحر الإقليمي، والمنطقة الاقتصادية الخالصة، والجرف القارّي".

تبدأ عملية ترسيم حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة والجرف القارّي بأن "يجري تحديد الخطّ الوسطي الموازي، ومن ثمّ تحديد ما إذا كان يوجد عوامل يقتضي أخذها بعين الاعتبار للوصول إلى نتيجة عادلة"، وأوضح مغيزل "أنّ خطّ تساوي البعد هو الخطّ الذي تكون كلّ نقطة منه على مسافة واحدة إلى أقرب النقاط على خطوط الأساس التي يُقاس منها عرض البحر الإقليمي لكلٍّ من الدولتين".

 وتكمن أهمّية ترسيم الحدود البحريّة برأي مغيزل في "أنّ شركات النفط في حاجة إلى رؤية قانونية واضحة بحيث تستثمر مواردها في المناطق المثبتة بموجب اتفاقية أو حكم قضائي أو قرار تحكيمي". وبناءً على هذه الضرورة القانونيّة، رسم لبنان حدوده البحريّة في ضوء اتفاقية الأمم المتّحدة لقانون البحار، فأصدر القانون رقم 163 بتاريخ 18 آب / أغسطس 2011، وصدر في 1 تشرين الأوّل / أكتوبر 2011 المرسوم رقم 6433 الذي يحدّد المنطقة الاقتصادية الخالصة و "تقدّر المساحة الواقعة ضمن الحدود البحرية اللبنانيّة بما فيها المنطقة الاقتصادية الخالصة بـ 22،730 ألف كلم2". وأدّى ترسيم الحدود البحريّة إلى "نزاع بين إسرائيل ولبنان على منطقة تمتدّ إلى 850 كلم2 تقريبًا".

ثمّ انتقل مغيزل إلى شرح الإطار القانوني والتعاقدي للأنشطة البحرية موضّحًا الفروق بين نظام الامتياز الذي يُعدّ من العقود الإداريّة (جزء منه مبنيّ على نصوص تنظيمية، والجزء الآخر على نصوص تعاقدية). ونظام الرخصة وهي بمنزلة عقد إيجار تمنحه دولة إلى شركة نفط، ونظام تقاسم الإنتاج وهو علاقة تعاقدية بين الدولة وشركة النفط (عقد خدمة بمقابل عينيّ).

في ختام محاضرته، انتقل مغيزل إلى شرح قانون الموارد البترولية في المياه البحريّة مشيرًا إلى أنّ القانون المعتمد في لبنان هو أقرب إلى النظام المختلط "بين نظام الامتيازات أو التراخيص والنظام التعاقدي" مع حقّ الدولة في أن تحتفظ لنفسها "بحقّ القيام بالأنشطة البترولية أو المشاركة فيها وفقًا لشروطٍ محدّدة، كما يمكن في هذا الإطار إنشاء شركة بترول وطنية"، مؤكّدًا أنّ لبنان لا يزال "في طور استكمال الإطار القانوني والتنظيمي للأنشطة البترولية" والنجاح في هذه المهمّة يتوقّف على مدى الالتزام بالنصوص القانونية والتنظيمية "بعيدًا عن الاصطفافات السياسية والطائفية".

وعقّب القاضي الدكتور طارق المجذوب على محاضرة مغيزل، فأشار إلى "نماذج وتقنيات لرسم نقاط الأساس في ترسيم الحدود، لافتًا إلى "أخطاء عديدة ارتُكبت إلى الآن، والقضيّة شائكة في مسألة الغاز في حوض البحر الأبيض المتوسّط"، وسأل عن "روح الصراع العربيّ - الإسرائيليّ في هذا الموضوع، مطالبًا بترسيم الحدود مع إسرائيل، وعن مساحة الـ870 كلم2، حسب الدولة المتنازع عليها مع إسرائيل، ولمن ستكون الغلبة القانونية، للشركات العالمية أم للدولة؟"
 

اقتصاد الريع والخدمات

بعد أن عقّب المجذوب على ورقة الأستاذ مغيزل ناقدًا بعض ما جاء فيها، قدّم المحاضر الثاني الدكتور بطرس لبكي ورقته التي تناولت موضوع الغاز اللبنانيّ من جانب احتمال تأثيره في انتقال لبنان "من اقتصاد الخدمات والريع إلى اقتصاد الإنتاج والتنمية"، مشيرًا إلى إشكالية البحث انطلاقًا من احتمالين: الأوّل "أن تشكّل المداخيل المتأتّية من الغاز ريعًا جديدًا يضاف إلى الريوع الأخرى"، والثاني "أن يشكّل إنتاج الغاز في المياه الإقليمية والأراضي اللبنانيّة عنصرًا لتطوير القطاعات المنتجة للسلع"، مذكّرًا بأنّ "الوظيفة الهيكلية للاقتصاد اللبنانيّ اتّجهت منذ قرنين نحو اقتصاد يطغى عليه الطابع الخدماتي، ثمّ الخدماتي الريعي الذي أصبح له وظيفة إقليمية وحتّى دولية في بعض جوانبه".

ولعرض إمكانات استيعاب البنية الاقتصادية القائمة أساسًا على الخدمات والريع لهذا القطاع الجديد المنتج للسلع، عاد الدكتور لبكي إلى التاريخ وتطوّر اقتصاد لبنان وتحوّله ليصبح اقتصاد خدمات ثمّ خدمات وريع، فأشار إلى تكوّن "القطب البيروتي" في الفترة العثمانيّة وتحوّله إلى وسيط بين دول الغرب الصناعي والمشرق العربيّ ابتداءً من القرن التاسع عشر إلى فترة الانتداب حين أصبحت بيروت "العاصمة الاقتصادية والسياسية لدول المشرق الخاضعة للانتداب الفرنسيّ" ما أعطى لبنان دورًا مميّزًا في مرحلة الاستقلال وصولًا إلى حرب 1975.

يرى لبكي أنّ هناك عدّة تطوّرات تراكمت لصالح نموّ قطاع الخدمات ودوره الإقليمي (الانفصال الجمركي والنقدي عن سورية، ونكبة فلسطين، والانقلابات العسكرية في مصر والمشرق، وتزايد عائدات النفط، ونموّ الاصطياف العربيّ، وانتهاج سياسة الباب المفتوح في التجارة الخارجية، وانفتاح الأسواق العربيّة على لبنان، والسرّية المصرفية، وحرية حركة الرساميل، وضعف الحماية ونموّ تحويلات المغتربين).

ثمّ انتقل لبكي إلى مرحلة ما بعد الطائف (1990) إذ ساهم تسارع عجلات العولمة في تقوية المنحى الخدماتي والريعي للاقتصاد اللبنانيّ بسبب اتّباع سياسة الباب المفتوح من خلال اتفاقات التبادل الحرّ مع أوروبا والدول العربيّة، ما عرقل تطبيق الأفضلية القانونية للإنتاج في مشتريات الدولة لفائدة المنتجات المستوردة، الأمر الذي رفع حجم الديون من مليارَي دولار في نهاية عام 1990 إلى أكثر من 60 مليار دولار في عام 2012. ونجم عن هذه التطوّرات موجات من الهجرة اللبنانيّة بأعداد سنوية تمثّل نحو ضعف أعداد المهاجرين سنويًّا أثناء الحرب (1975 - 1990) إذ فاق مجموع المهاجرين بين 1975 و 2005 ثلاثة ملايين لبنانيّ.

 بعد الوصف التاريخي للموقع الاقتصادي اللبنانيّ في إطاره العربيّ، انتقل لبكي للبحث في إمكانات استيعاب البنية الحاليّة لهذا القطاع الجديد، ومدى احتمال استخراج الغاز وتسويقه وتوظيف عائداته المودعة في الصندوق السيادي ووجهة استخدامها في تطوير القطاعات المنتجة للسلع (صناعة، وطاقة، وزراعة، وإنتاج حيواني، وبناء وأشغال عامّة).

واقترح لبكي في ورقته خطّة عمل تعتمد آليّات لتوظيف المردود المالي لهذا القطاع الجديد، فأشار إلى أولويات لتطوير مناطق في البقاع والجنوب والشمال وأطراف جبل لبنان المحتاجة إلى فرص عمل إضافية لسكّانها. واقترح أيضًا إيصال الخدمات الصحّية والتربوية والثقافية والإسكانيّة إلى كلّ الفئات الاجتماعية المحتاجة في كلّ المناطق.

 وشرح لبكي احتمال استعمال الغاز مادّة أوّلية للتنمية الصناعية والزراعية في مجالات سلعية أخرى، إذ يمكن تحويل قطاع "الغاز والكيمياء" باستخدام العديد من الموادّ الأوّلية لإنتاج السلع من الفروع الصناعية (البلاستيك، والنسيج، والكيمياء، والدواء، والموادّ المستعملة للبناء، والمفروشات، والدهانات، والمصنوعات الميكانيكية والكهربائية)، لأنّ مشتقّات الغاز "تدخل عمليًّا في كلّ نشاط صناعي وزراعي كما في قطاعات البناء والأشغال العامّة والطاقة".

بعدها انتقل لبكي إلى شروط استيعاب البنية الاقتصادية اللبنانيّة قطاع الغاز، فذكر أنّ الشرط الأوّل يتطلّب وجود قرار سياسي لدى النخب السياسية والاقتصادية والفكرية باعتماد سياسات اقتصادية وماليّة بهذا الاتّجاه، وذلك باستكمال إنشاء الصندوق السيادي ووضع خطّة لتنمية القطاعات السلعية بالأولوية ومناطق الأطراف الأقلّ تطوّرًا وتنمية طاقات الفئات الاجتماعية الفقيرة والمتوسّطة. والشرط الثاني استكمال البنى التحتية اللازمة في قطاعات النقل والمواصلات والطاقة والريّ والتعليم والصحّة وشبكات الأمان الاجتماعي والثقافي والبيئي.

ورأى لبكي في نهاية ورقته أنّ الخطّة التنفيذية لتوظيف مردود القطاع الجديد في تطوير الاقتصاد تتطلّب مراجعة دورية لها ولنتائجها حتّى تتوافر فرص دمج قطاع الغاز الناشئ في الاقتصاد اللبنانيّ لكي يكون عنصرًا في تصويب مساره ونقله من الخدمات والريع إلى اقتصادٍ متكامل القطاعات.

وعقّب الدكتور ألبير داغر على محاضرة لبكي. ووافق على "توصيف لبكي احتمالات الاستفادة من هذه الثروة الغازيّة"، شارحًا "معنى ما يسمّى بالداء الهولندي أي النتائج السلبية لقطاع البترول على القطاعات التقليدية المنتجة"، مركّزًا على "أهمية الاستفادة من استخدام ريع الغاز والبترول لخلق شروط بقاء اللبنانيّين في أرضهم، وفي بناء اقتصاد منتج، وفي تغيير قواعد اللعبة المعتمدة منذ 150 عامًا في السياسة والاقتصاد، وخاصّةً الاقتصاد في مجالات الإخفاق التنموي، التضحية بالمنتجين لمصلحة المستوردين، وسياسة اليد المرفوعة بما لا يسمح للدولة بتحقيق النموّ، والخروج من سياسة أصحاب الريوع الماليّة على حساب المنتجين".

ودعا الدكتور وليد الخدوري إلى "التفاؤل بوجود طاقة غازيّة ونفطية في لبنان طالما أنّ 42 شركة عالمية قد تقدّمت للحصول على تراخيص"، وتحدّث عن "تنازل حكومة لبنان عام 2007 عن اتفاقيّة النفط مع قبرص".

وأبدى الدكتور نجيب عيسى مخاوفه من "التعاطي السياسي مع احتمال وجود الثروة النفطية، وعن نوعية نماذج التنمية التي ستُعتمد".

وانتقد سفير لبنان السابق في واشنطن الدكتور رياض طبارة "الاقتصاد الريعي المعتمَد في لبنان، فذلك تسبّب في هجرة ثلاثة ملايين لبنانيّ بين أعوام 1975 و2005"، وتحدّث عن "الخطوط التي رُسمت ويجب أن تُرسم وتلك التي ننتظر ترسيمها"، منتقدًا "اختيار لبنان الخطّ الأسوأ بينها، والتي ربّما تؤدّي إلى خسارة هذه الثروة".

 وردّ أبي عاد ومغيزل ولبكي على الأسئلة التي أثارها الأساتذة زهير حامدي ورياض طبارة وميشال نوفل وأحمد بعلبكي عن مدى فعاليّة الاكتشافات في تطوير البنى التحتية ودفع عجلة القطاعات المُنتجة إلى الأمام.

الغاز والمجال الجيوسياسي

ترأّس السفير السابق رياض طبارة الجلسة الثانية. وقدّم الأستاذ زهير حامدي ورقته التي تطرّقت إلى موضوع "إنتاج الغاز اللبنانيّ في مجال جيوسياسي مضطرب"، فبدأ بتعريف مصطلح "الجيوسياسي" بوصفه من فروع العلوم السياسية ويهتمّ بالعلاقة ما بين الإقليم والقوّة وتأثير الجغرافيا في سلوك الدولة.

انطلاقًا من التعريف النظري، أخذ حامدي في دراسة وضع لبنان الجيوسياسي الجديد وتحليله بعد الاكتشافات المحتملة انطلاقًا من أربعة مستويات: اهتمّ الأوّل بالبعد السياسي الداخلي (المنظومة الاجتماعية السياسية الطائفية)؛ واهتمّ الثاني بعلاقات لبنان مع الدول المجاورة؛ واهتمّ الثالث بالمحيط الإقليمي والدولي؛ أمّا الرابع فقد اهتمّ بموقع الاتّحاد الأوروبي ودور القوى الخارجية في المنطقة عمومًا ولبنان خصوصًا.

بدأ حامدي ورقته بالمشهد الإقليمي للطاقة، فذكر أنّ دائرة المسح الجيولوجي الأميركيّة أعلنت في نيسان / أبريل 2010 أنّ الحوض الشرقي للبحر المتوسّط يحتوي على احتياطيّ متوسّط غير مكتشف يقدّر بنحو 1،7 مليار برميل من النفط القابل للاستخراج تقنيًّا، وأنّ الاحتياطيّ المتوسّط من الغاز القابل للاستخراج تقنيًّا هو 122 ترليون قدم مكعّب وقد يصل إلى 227 ترليون قدم مكعّب.

وأشار حامدي إلى أنّ الحكومة اللبنانيّة بدأت تهتمّ بالموضوع بعد اكتشاف "إسرائيل" الغاز في السواحل المحاذية للبنان، ما دفعها للتحرّك حتّى تستفيد من هذه الثروة اقتصاديًّا وتتطلّع إلى تحقيق اكتفاء ذاتي في إنتاج الطاقة. وترجّح الحكومة اللبنانيّة أن تصل التقديرات الأوّلية لاحتياطيّ الغاز على سواحلها إلى 25 ترليون قدم مكعب، الأمر الذي شجّعها على تكليف شركتين نرويجيّتين بإجراء أوّل مسح زلزالي على طول سواحلها في مياهها الإقليمية. كما نشرت الجدول الزمني الخاصّ بمراحل الترخيص لاستكشاف النفط والغاز وإنتاجهما، وأنهت مرحلة التأهيل المسبق بنجاح إذ شاركت 54 شركة نفطية عالميّة اختارت منها 46 شركة من بينها شركات نفطية عالميّة.

وحدّد حامدي في ورقته الجدول الزمني الذي طرحته الحكومة اللبنانيّة كما يلي:

         1) مرحلة التأهيل المسبق: شباط / فبراير، نيسان / أبريل 2013.

        2) مرحلة قبول طلبات الراغبين في المشاركة: أيار / مايو، تشرين الثاني / نوفمبر 2013.

        3) مرحلة تقييم الطلبات: تشرين الثاني / نوفمبر 2013، كانون الثاني / يناير 2014.

        4) مرحلة منح الحقوق البترولية للاستكشاف والإنتاج: شباط / فبراير 2014.

وتطرّق حامدي إلى موضوع الطاقة في إطار المشهد الإقليمي، فذكر خطط إسرائيل ونشاطها في هذا المجال من شواطئ عسقلان (حقل نوح) إلى سواحل حيفا (حقل لفياتان)، وخطط سورية والاحتياطي المؤكّد لديها من نفطٍ وغاز، ومدى تأثير الثورة في نشاطها في حقل الطاقة، مشيرًا إلى البروتوكول بين سورية وتركيا الذي وُقّع في 8 آب / أغسطس 2009 ويقضي بربط أنبوب الغاز العربيّ بالأنبوب العابر للأناضول الذي ينقل الغاز من حقل شاه دنيز في بحر قزوين من سواحل أذربيجان إلى تركيا ثمّ إلى السوق الأوروبيّة.

وتوسّع حامدي في ورقته، لتشمل قضايا الطاقة في تركيا وتطوّر علاقاتها الاقتصادية مع روسيا (تضاعفت بين سنوات 2003 و 2008)، وقبرص، وجزيرة كريت اليونانية، والمياه الإقليمية بين قبرص وإسرائيل، مشيرًا إلى أنّ العوامل الأمنيّة تفرض شروطها لتسهيل تصدير الغاز إلى الأسواق العالميّة (الاتّحاد الأوروبي)، وهو ما دفع الدول الثلاث (إسرائيل، وقبرص، واليونان) إلى عقد مشاورات رسمية من أجل دراسة الجدوى الاقتصادية لتصدير الغاز وتقييمها.

بعد استعراض الجانب الاقتصادي للاكتشافات، انتقل حامدي إلى الخريطة الجيوسياسية والوضع الجديد الذي قد ينتج بعد الإعلان عن الاكتشافات المحتملة، فذكر أنّه لغاية اليوم "ما زال الوضع السياسي في لبنان غير مستقرّ نظرًا للتجاذب المستمرّ والمزمن بين الرموز السياسية والطائفية وخاصّةً منذ بداية الثورة السوريّة". ولبنان يعاني "من خللٍ هيكلي في مؤسّسات الدولة، فهي ضعيفة بسبب الصراعات والتوازنات الطائفية الداخلية، ولا تسيطر أمنيًّا على جميع التراب الوطنيّ".

وبالنسبة إلى الوضع الداخلي، أشار حامدي إلى "الجوار المباشر للبنان وهو سورية في الشمال والشرق، وإسرائيل في الجنوب" وما يتركه التوتّر الحدودي والأزمة السوريّة من مشكلات لا تسمح بالاستفادة من الاكتشافات في المرحلة الراهنة في انتظار أن يستتبّ الوضع الأمنيّ المتدهور في سورية ويجري التفاهم مع "إسرائيل" على خريطة ترسم الحدود الإقليمية - البحريّة للبلدين.

وفي نهاية الورقة، استنتج حامدي أنّه "ليس من مصلحة الولايات المتّحدة أن ينشب نزاع في شرق المتوسّط بعد الخلافات التي برزت بين دول المنطقة على حدودها البحريّة جرّاء الاكتشافات الأخيرة للغاز في كلٍّ من إسرائيل وقبرص". ورأى أنّ واشنطن تأمل "أن تكون هذه الاكتشافات حافزًا من أجل حلّ عقد المنطقة والاستفادة المشتركة من ثروة الغاز"، لذلك سارعت أميركا بصورةٍ لافتة إلى تبنّي "الاقتراح اللبنانيّ للأمم المتّحدة لترسيم الحدود البحرية اللبنانيّة - الإسرائيليّة"، كما أنّها تعمل على تهدئة الأوضاع بين تركيا وقبرص وإسرائيل. وهي نجحت مؤخّرًا "في إعادة العلاقات بين تركيا وإسرائيل". ودعا حامدي في الخلاصة لبنان إلى توظيف هذه الثروة في إطار مشروع تنموي شامل وعدم الوقوع في فخّ الاعتماد المفرط على دخول الثروة النفطيّة.

وفي ختام ورشة العمل، عقّب الدكتور وليد خدوري والدكتور ناجي أبي عاد على الورقة. وفتح رئيس الجلسة رياض طبارة المجال للأسئلة والردود من الحضور والمشاركين، فجاءت تعليقات بطرس لبكي، وأحمد بعلبكي، وميشال نوفل، وطارق المجذوب، ومارلين نصر، وناجي أبي عاد، ونجيب عيسى، لتسلّط الضّوء على جوانبَ غامضة من موضوعٍ يرجَّح أن يكون له شأنه الخطير في الجغرافيا السياسية في المشرق العربيّ في السنوات المقبلة.