بدون عنوان

استُهل مؤتمر "العرب: من مرج دابق إلى سايكس – بيكو (1916-1516): تحوّلات بُنى السلطة والمجتمع - من الكيانات والإمارات السلطانية إلى الكيانات الوطنية"، في يومه الثاني بجلسة برئاسة فهمية شرف الدين، ألقى فيها سيار الجميل، محاضرة عنوانها "كيف نقرأ تاريخ العرب الحديث 1516-1916؟ إعادة الرؤية في أبعاد التكوين"، ثم ألقى محمد جمال باروت محاضرةً بعنوان "من اتفاقات سايكس - بيكو إلى معاهدة لوزان: عقد التحولات الكبرى وآثاره البنيوية في نشوء الدولة في المشرق العربي".

بحسب الجميل، كان العرب من أكبر تكوينات العثمانيين التي تفككت في إثر مؤتمر فرساي (1919). ولم يكن العرب مسؤولين عما جرى على أرضهم وبحارهم على امتداد 400 عام، "فالعثمانيون هم المسؤولون الحقيقيون عن تاريخنا من خلال التعايش مع الملل الأخرى في ظل السلطنة". كما لم تتبلور تأثيرات العثمانيين في القرن الثامن عشر من خلال التبعية للمركزية العثمانية، بل من خلال أنماط حكومات محلية أوجدوها في البيئات العربية، متمثلة بأُسر سلالية محلية، كآل العظم في دمشق وآل الجليلي في الموصل، أو بحكم باشوات مماليك في بغداد وبكوات مماليك في مصر، أو الإثنيات كالمعنيين والشهابيين في لبنان، أو أوليغارشيات عسكرية كضاهر العمر في فلسطين، أو حكم بايات تونس أو دايات الجزائر، أو القرمانليين في طرابلس الغرب.

أما باروت فقال إن المرحلة بين توقيع اتفاقات سايكس – بيكو وتوقيع معاهدتي سيفر ولوزان حاسمة في التحول من نظام الإمبراطوريات إلى نظام الدول - الأمم الأوروبي؛ إذ انهارت الإمبراطوريات العثمانية والنمساوية - المجرية والروسية القيصرية. ومثّل هذا الانهيار أساس وجهة النظر التي ترى في هذه الحقبة نهاية العصر الوسيط وميلاد عصر جديد يقوم على الدولة – الأمة. أضاف: "كان كل من هذه الإمبراطوريات مركزًا لكرسي رسالي إمبراطوري ديني كوني: إمبراطورية آل هابسبورغ وريثة السيادة الكونية للكنيسة الرسولية الكاثوليكية، وإمبراطورية آل رومانوف في روسيا وآل عثمان وريثتي الإمبراطورية اليونانية - الرومانية الشرقية القديمة، من زاوية انتماء روسيا القيصرية إلى كنيسة القسطنطينية البيزنطية، ووراثة الإمبراطورية العثمانية مركز العالم الإسلامي". وما كان ما فعلته سايكس – بيكو سوى تكريسٍ مناطق نفوذ اشتملت عليها الاتفاقات العثمانية- الأوروبية قبل الحرب، محولة منطقة النفوذ الألمانية فيها بعد دخول الدولة العثمانية الحرب إلى فرنسا وبريطانيا.

انعقدت الجلسة الأولى في اليوم الثاني، وعنوانها "السلطنة العثمانية ومسائل من المجتمع الأهلي العربي"، برئاسة د. أحمد مفلح، ومشاركة د. فاضل بيات (الزعامات المحلية العربية وتعامل الدولة العثمانية معها: رؤية جديدة في ضوء الوثائق العثمانية)، ود. فاطمة الزهراء قشي (السلطة العثمانية والزعامات القبلية والحضرية في إيالة الجزائر (القرن السادس عشر - القرن التاسع عشر))، ود. جوزيف أبو نهرا (مسيحيّو المشرق من مرج دابق إلى سايكس - بيكو: بين نظام الملل وحماية السلطان ونظام الامتيازات والحماية الأوروبية)، ود. علي درويش (الصراع العثماني - الصفوي وتأثيره على الشيعة في البلاد الخاضعة للعثمانيين).

قال بيات إن تجاهل الوثائق والمصادر العثمانية جعل تاريخ الزعامات المحلية في البلاد العربية وعلاقة الدولة العثمانية بها مجهولًا. وكان ثمة زعامات تتمتع باستقلال ذاتي أُزيل بعضها من الوجود، وبقي بعضها الآخر يصارع للبقاء بخضوعه للدولة حين تقوى، أو بتمرده عليها حين تضعف.

كما كان ثمة زعامات اتخذت طابعًا دينيًا - سياسيًا اضطرت الدولة العثمانية إلى مجاراتها، وزعامات عشائرية بدوية اعتادت الترحال، وأخرى أُجبرت على الاستيطان في مناطق حددتها الدولة.

وقالت قشي إن أهل الجزائر لم يطلبوا الانفصال عن السلطنة العثمانية، لكنهم رفضوا أسلوب الحكام في التعامل معهم، واستنجد أمراء المدن الساحلية بالإخوة بربروسة للذود عن الإسلام في مواجهة الإسبان. إلا أن الزعماء المحليين رفضوا التنازل عن نفوذهم وسلطانهم للوافدين الجدد، فكانت المواجهة عنيفة وصلت إلى حد التصفية الجسدية. ولم يتمكن العثمانيون من تأسيس دولة حديثة في الجزائر تستوعب الزعامات القبلية والدينية المحلية بصهرها في مشروع قطري وحدوي.

ورأى أبو نهرا في مرج دابق نقطة تحوّل بالنسبة إلى مسيحيي المشرق. قبلها، اعترف السلطان محمد الفاتح لأهل الذمّة بثلاث ملل: الروم والأرمن واليهود، وبعدها ارتفع عدد الملل المسيحية إلى 16 في القرن التاسع عشر. لم تنتج المضايقات التي تعرّض لها المسيحيون من مواجهة مع السلطة الحاكمة أو من نزاعات طائفية مع غير المسيحيين، بل أيضًا من نزاع بين القسطنطينية وروما. ارتفعت نسبة زيادة عدد المسيحيين في منطقة الهلال الخصيب من 7% في 1517 إلى 26.4% في 1914.

قال درويش إن العثمانيين والصفويين تجاوروا في بداية قيام دولتيهما، وانطلقوا من رحم الحركات الصوفية التي نظرت بإجلال إلى آل البيت، واتخذوا من علي بن أبي طالب مثالًا للزهد. وعندما أنشأ الصفويون دولتهم، اتخذوا المذهب الإمامي الاثني عشري مذهبًا رسميًا، بينما ذهب العثمانيون المذهب الحنفي. واتخذ الصراع سمة النزاع المذهبي بين السنة والشيعة، فكان تتمة للصراع الذي زخر به التاريخ الإسلامي. ودار نقاش في نهاية الجلسة.

في الجلسة الأولى من اليوم الثاني انعقدت في القاعة الثانية، كان المحور "مآلات جديدة ما بعد العثمانية". رئس الجلسة د. عصام نصار، وشارك فيها د. ياسر جزائرلي (لورنس وبريمون واستراتيجية سايكس - بيكو)، ود. بلال شلش (بين الواقع والمُسَوّدَة! "سايكس - بيكو" الاتفاقية، ومآلها فلسطينيًا "إعلان بلفور"، بعيون نُخب "فلسطين" 1918-1948)، وقرأ نصار كلمته لتغيبه، ود. مونية آيت كبورة (الهوية واليوتوبيا: المشروع الإسلاموي والمشروع القومي ما بعد سايكس - بيكو).

قال جزائرلي إن اتفاقية سايكس-بيكو تمثل استراتيجيا استعمارية لا مجرد معاهدة، بوضعها في سياق السياسات التي اتبعتها الدول الاستعمارية منذ بدء سيطرتها على أجزاء من العالم العربي، وفي سياق الخطاب الاستشراقي الذي طُوّر في القرن التاسع عشر. وعندما ندرس المجريات التاريخية والسياسية التي أدت إلى سايكس - بيكو يجب دراسة الخطاب الذي نتج عن هذه السياسات وجعلها ممكنة. فسايكس - بيكو امتداد للخطاب الأوروبي بعدما اتضح ضعف الإمبراطورية العثمانية عقب حملة نابليون على مصر ودخول جيش محمد إلى سوريا.

وقدم نصار ورقة شلش، فقال إنه تم تجاوز "سايكس- بيكو" كاتفاقية مسودة للمشروعات الاستعمارية البريطانية في فلسطين لمصلحة مشروع استعماري جديد أساسه "وعد بلفور". فقد حضر إعلان بلفور في كتابات ومواقف نُخَب فلسطين بوصفه استمرارًا لحضور "سايكس – بيكو"، وأنموذجًا للغدر والخيانة والظلم والعدوان. وكان هذا الوعد مدخلًا لكتابة احتجاجية مقاومة للسلطات الاستعمارية ومحرضة عليه، واستخدم في التأكيد على مركزية الاستعمار البريطاني أصل البلاء، في ظل السعي إلى ربط قضية فلسطين بالصهيونية وحدها.

أما آيت كبورة فقالت إن الفكر القومي والإسلام السياسي صنع من لحظة سايكس – بيكو لحظة تآمر وغدر، ومرجعية لتفسير الهزائم والاختلالات السياسية والاجتماعية، وإعادة قراءة هذه اللحظة التأسيسية قراءة تاريخية وإبيستيمولوجية ضرورة لتفسير الراهن السياسي العربي، بعيدًا عن الجدل الأيديولوجي البراغماتي. ويعتبر القوميون العرب ما بعد الربيع العربي لحظة ثانية لسايكس - بيكو، ومؤامرة غربية جديدة لإعادة تفتيت المنطقة العربية من خلال الداعشية التي تعمل على اجتثاث أشلاء القومية العربية. وانتهت الجلسة بجولة نقاش تناولت أهم النقاط فيها.

انعقدت الجلسة الثانية في القاعة الأولى، بعنوان "علاقات سياسية وثقافية". رئسها د. مهند مبيضين، وشارك فيها د. محمد أحميان (القرصنة بساحل الريف وانعكاسها على أوضاع المغرب الأقصى الاقتصادية وعلاقاته الخارجية أثناء القرن التاسع عشر)، ود. أحمد السعداوي (العمارة الرسمية في الإيالات المغاربية العثمانية: دراسة في صلة المركز بالأطراف)، ود. شير علي خان (الترجمة من العربية واللغات الأخرى إلى التركية والعكس في العهد العثماني الأول (عهد الازدهار) والعهد الثاني (عهد الانحطاط): دراسة تاريخية مقارنة).

قال أحميان: "تحولت محاور التجارة من المتوسط إلى الأطلسي بعد الاكتشافات الجغرافية، فانتقل مركز الثقل الاقتصادي نحو المحيط". وبعد شق قناة السويس، عادت الحياة إلى المتوسط، على الرغم من تهديد قراصنة الساحل الأفريقي للبواخر الأوروبية. جرّمت مقررات مؤتمر فيينا (1814-1815) القرصنة، وأجازت ملاحقة سفن القراصنة، لكن قبائل الريف استمرت في القرصنة كنوع من الجهاد الشعبي ضد الأطماع الأوروبية.

ورأى السعداوي أن المنجزات المعمارية المغاربية في الفترة العثمانية بقيت وثيقة الارتباط بالتراث المحلي الوسيطي في أبعاده الأفريقية والمغاربية والأندلسية، ويقتصر التأثير العثماني على بعض التفصيلات أو العناصر الجزئية التي نجدها في المباني الرسمية أو بعض المباني الدينية الخاصة بالجالية العثمانية التي كانت تحكم البلاد. فقد تفوق التأثير الأوروبي على التأثير العثماني في مجال استخدام الرخام ونحته. وكان الرّخام يورّد من البلدان الأوروبية، ولا سيما إيطاليا. وساهمت الأعراق المختلفة المستوطنة في الإيالات المغاربة من محليين وأتراك ومشرقيين وأندلسيين وأوروبيين ويهود سفارديم في إنتاج فنون مغاربية متميزة ومنفتحة على الأقاليم المجاورة.

أما علي خان، فرأى أنه بتلاقح العرب مع الأتراك، بدأت اللغة التركية تتأثر بالعربية وتترك أثرها القوي فيها، وبدأ الأتراك يترجمون ميراثهم الثقافي إلى العربية، ونقلوا الشعائر الدينية الإسلامية والآيات وكتب التفسير وجميع الفنون الأدبية والإسلامية إلى التركية. وللترجمة في العصر العثماني دوران مهمان: الترجمة من العربية إلى التركية، والترجمة من اللغات الرومانية والفارسية والتركية بلهجاتها إلى العربية، والترجمة من التركية إليها.

ترأس د. أحمد دلاّل الجلسة الخامسة في القاعة الثانية، وعنوانها "في مسألة الخلافة". يشارك فيها د. أحمد أبو شوك (الخلافة العثمانية في نصف قرنها الأخير 1924-1874 م: صراع السلطة وجدل المصطلح)، ود. صاحب عالم الندوي (موقف مسلمي الهند من حركة الجامعة الإسلامية وتأثيرها في حركة الخلافة في الهند: دراسة تاريخية في ضوء المصادر الهندية والوثائق البريطانية)، ود. عبد الرزاق السعيدي (مسألة الخلافة العثمانية وانعكاسها على علاقة الإمبراطورية بالمغرب الأقصى (دراسة في جدلية الديني والسياسي في صيرورة تاريخ المغرب الأقصى الحديث)).

قال أبو شوك: "بدأ التحدي السياسي للخلاقة العثمانية بظهور الثورة المهدية في السودان التي نادى مؤسسها بقيام الإمامة المهدوية الكبرى بدلًا من الخلافة العثمانية، وبالثورة العربية في الحجاز التي سعت إلى تأسيس خلافة عربية تهدف إلى تصفية الوجود العثماني في العالم العربي". وبرأيه، تنامى نفوذ الكماليين في تركيا وخطوا بجرأة حيال فصل السلطنة عن الخلافة، ما ولّد جدلًا فقهيًا واسعًا بين معارضي الفصل ومؤيديه، وكان في مقدم المعارضين الشيخ محمد رشيد رضا الذي تصدى لأطروحة الشيخ علي عبد الرازق، واصفًا كتابه "الإسلام وأصول الحكم" بأنه هدم لحكم الإسلام وشرعه من أساسه.

ورأى الندوي أن نضال الخلافة السياسي والديني أثار جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية، إذ كتب النقاد أنها كانت تحريضًا سياسيًا قام على أساس مبادئ الأصولية في الدول الإسلامية، وإنها لم تبالِ بقضية استقلال الهند. ويضيف: "أخفقت حركة الخلافة في جبهاتها الدينية والسياسية في الهند، لكنها تمكنت من نشر التوعية السياسية بين المسلمين وتشكيل قيادتهم السياسية، وتركت نمطًا معينًا من النظريات السياسية التي حاول مسلمو الهند السير عليها قبل استقلال الهند وبعده".

قال السعيدي إن القوتين العثمانية والسعيدية تنافستا على مصادر الاقتصاد المغاربي والمتوسطي العالمي، على الرغم من عدم التكافؤ بينهما، وهذا التنافس تعبير عن اختلاف بين مرجعيتين مختلفتين في النمط السياسي: الأنموذج العثماني القائم على دولة الجهاد ومفهوم الأمة، والأنموذج المغربي والمغاربي القائم على مفاهيم محلية تقليدية. وانتهت الجلسة بجولة نقاشية.

أما الجلسة الختامية فكانت برئاسة د. ناصر الدين سعيدوني، ويشارك ومشاركة د. صالح علواني (بلاد المغارب ما بين 1518 و1920: مجال فريد لتقاطعات المحورين مشرق - مغرب وشمال - جنوب وتأثيراتها الاجتماعية والسياسية والثقافية)، ود. مسعود ديلمي (تبلور الدولة - الأمة في تركيا والدولة القطرية في المشرق العربي نتيجة الحرب العالمية الأولى)، ود. محمد الأزهر الغربي (خير الدين التونسي والمسألة الاقتصادية)، ود. سيمون بدران ("المملكة الدستورية العثمانية" وتداعياتها على طلائع الفكر الدستوري العربي).

قال علواني: "تشكلت الدول المغاربية بنهاية القرن السادس عشر من رحم الصراعات مع الضفة الشمالية للمتوسط، من دون إغفال الحضور الفاعل للسلطنة العثمانية وتأثيره في تشكل التاريخ الحديث للإيالتين التونسية والجزائرية، بينما بقي المغرب الأقصى خارج النفوذ العثماني". وبرأيه،

لم تمس المسألة الشرقية منطقة شمال أفريقيا، لكنها بينت تحديدًا كيف اصبح نظام اسطنبول عاجزًا عن الدفاع عن نفسه. ومنذ احتلال فرنسا للجزائر، ظهر مصطلح شمال أفريقيا عوضًا عن المغرب الإسلامي أو بلاد المغرب.

قال ديلمي إن مقاومة مصطفى كمال أسست الجمهورية التركية كدولة - أمة وفق مبدأي العلمانية والقومية، وأُلغت الخلافة الإسلامية. واستطاع الأتراك تشكيل الدولة - الأمة التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، بينما وجد العرب أنفسهم أمام خيار الدولة القطرية التي سترسخ الحدود التي رسمتها سايكس-بيكو.

ورأى الغربي أن خير الدين التونسي تميّز من غيره من المماليك بدوره التنظيري للإصلاحات التي رأى من الضروري القيام بها لحسن "حال الأمة الإسلامية".

أما سيمون بدران، فرأى أن على المؤرخ الغوص في دراسة التنظيمات العثمانية قبل تمحيص دستور 1876 العثماني. فقد ظهرت طلائع الفكر الدستوري العثماني مع حراك العثمانيين الجدد خلال الحقبة الأخيرة من مرحلة "التنظيمات"، وهم أقاموا "ثقافة دستورية للإسلام". ورأت جمعية الإتحاد والترقي في تكريس نهج الدسترة حجر الزاوية لتشييد حكم قوي وفاعل، لكن انتهت تعديلاتهم إلى تدعيم صلاحيات البرلمان والباب العالي، مقابل تقليص سلطات القصر السلطاني.