بدون عنوان

بدأ اليوم الثالث والأخير من مؤتمر "خمس سنوات على الثورات العربية: عسر التحول الديمقراطي ومآلاته"، الذي أقامه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالتعاون مع معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، بمحاضرتين عامتين: ألقى الأولى الناشط المصري خالد العلي من مصر بعنوان "التحديات التي تواجه الربيع العربي"، وقال فيها إن المنطقة تمر بوضع إنساني عبثي ومرعب ليس له ما يبرره فالصراع أنتج موجة من اللجوء علينا البحث في حلول جذرية لها، ومعالجة تداعياتها. وأكد انحيازه إلى الرأي القائل إن الثورات لم تتوقف، وإن التحركات الجماهرية ستنفجر ثانية.  واعترف بأنه فوجئ بشخصيات اتخذت بعد الثورة مواقف معارضة لكل ما كانت تقوله قبل الثورة، فتراجعت الثقة بها وبشخصيات كانت تسير في الثورة فوصلت إلى السلطة وصارت تمارس ممارسات نظام مبارك. وقال إن تسمية "المرحلة الانتقالية" خاطئة لأنها مرحلة تأسيسية تنقل البلاد من مرحلة الثورة إلى مرحلة تثبيت الشعارات، بينما رأيناها مرحلة لوأد شعارات الثورة. ووصف ميدان التحرير اليوم بالثكنة العسكرية، خوفًا من روح ثورة 25 يناير.

وألقى المحاضرة الثانية أحمد دلّال من لبنان بعنوان "اللاهوت السياسي لتنظيم داعش"، بدأها بالقول إن الخوف حلّ محلّ الأمل في ثورات الربيع العربي، وإنَّ داعش جسّدت هذا الخوف كقوة ثورة مضادة. وتطرّق إلى عدم دقة ترجمة "ثيولوجيا" بـ "لاهوت" في السياق الإسلامي، ورأى أن لدى داعش سردياتها الثيولوجية السياسية التي تبني وتشكّل تدخلاتها في العالم. وتناول إسلاميّة داعش، وأشار إلى أنه لا يمكن إنكارها، مبيّنًا في الوقت ذاته أنّ الانتماء إلى الإسلام هو أمرٌ محلّ جدال ونزاع، وأن إسلام داعش يجسّده مسلمون محدّدون لا يشاركهم جميع المسلمين قِيَمهم وفهمهم. والتفت الباحث بعد ذلك إلى الطرائق والمفاهيم التي تستخدمها داعش: ممارساتها النوعية أيديولوجيًا وسياسيًا وعسكريًا، واقتصاداتها، وعلاقاتها مع المجموعات الأخرى، واستخدامها للتقنية ومنتجات الحداثة، واستخدامها للعنف. وحاول أن يستشف مشروع داعش من مرجعيّاتها وإصداراتها مثل أعمال أبي مصعب السوري ولسان حالها "دابق"، وكتب مثل "إدارة التوحش" و"المذكرة الإستراتيجية". وتوصّل في النهاية إلى أنّ لداعش مشروعًا ليس نقده بالأمر البسيط، إذ لا يكفي مجرّد نقد العنف والقسوة، ولا بدّ من تبيّن الثيولوجيا السياسية التي أقامتها ولوَتها باتجاه معيّن.

وعقدت جلستان صباحيتان متوازيتان، جاءت أولاهما بعنوان "من الثورة إلى مأزق التحوّل الديمقراطي"، ترأسها سعود المولى وألقى فيها ريموند هينبوش من إسكتلندا محاضرة بعنوان "في تفسير المسارات والتطورات المتباينة للانتفاضات العربية وفهمها في سورية ومصر وتونس"، حاول فيها مقاربة التنوّع ما بعد الثورات العربية سوسيولوجيًا وتاريخيًا.

وجاءت المداخلة الثانية لمراد المهني من تونس بعنوان "القوى الثورية في مواجهة التحوّل الديمقراطي: قراءة سوسيوسياسية للمثال التونسي"، تتبّع فيها تطوّر الثورة التونسية ولحظاتها البارزة وتبيَّنَ أنّ التحوّل الديمقراطي كان شكليًّا مقتصرًا على الدستور والبرلمان جرّاء توافقات جرت على حساب الثورة. وألقى بعده أحمد إدعلي من المغرب مداخلة بعنوان "التحول الديمقراطي في اليمن وليبيا: بحثٌ في أسباب الإعاقة"، ورأى أنّ في البلدين مسيرة متعثّرة لم تؤسس لمرحلة جديدة أفقها الحرية. وأخيرًا ألقى محمد عزت رحيّم من مصر مداخلة عنوانها "خمس سنوات على الثورة: مجالٌ عامّ جديد في مصر؟"، تساءل فيها أين نقف الآن من النقطة التي بدأت منها الثورة؟ وحاول الإجابة من خلال أربعة موضوعات: علاقة الدولة-المجتمع قبل الثورة وبعدها وانتقالها من دولة فوق المجتمع إلى الحرية التامة والسيولة البالغة طوال 2011، ثم العودة لمحاولة السيطرة على المجتمع والرجوع إلى البداية، والمجال العام في فترات التحول والثورات الذي يحدث فيه الصراع بين الدولة والمجتمع ويختلف باختلاف الأنظمة السياسية سلطويّةً كانت أم شموليّةً أم ديمقراطية، ورمزيّة البُعد المكاني وعلاقة المكان بالهوية، والمجال العام الافتراضي وتجليّاته وأثره خصوصًا الإنترنت بوصفه وسيلة للحشد والتعبئة ومصدرًا للأخبار وفضاءًا للنقاش وتبادل الخبرات.

وكانت الجلسة الأخرى بعنوان "في معوقات التحول الديمقراطي في الدول العربية"، برئاسة حازم الأمين، تحدثت فيها ليلى قبلان وعمرو قطب في ورقة مشتركة عنوانها "التحالف بين القوى العلمانية والإسلامية في مرحلة ما بعد الثورة: حالتا مصر و تونس"، فقالت قبلان إن بورقيبة كان أتاتورك تونس، "لكنه لم يكن وحده في تحرير تونس، وكان معه صالح بن يوسف، وبعد مقتل صالح بن يوسف أصبح بورقيبة وحده وأعطى فكرة أن العلمانية هي وجه الاعتدال، معتمدًا الاقصاء. وشعر اليساريون في أثناء الثورة أن الإسلام السياسي ليس هو العدو، بل نظام بن علي، وعندما عادت النهضة إلى استلام الحكم، أعطت فكرة أن الاسلاميين لن يستمروا إلى الأبد في السلطة". وقال قطب إن الاخوان المسلمين في مصر أرادوا ان يستأثروا بالسلطة، وكانوا قد قاطعوا التظاهرات أثناء الانتفاضة، وتحالف الجيش معهم، واستأثر العسكر بالسلطة واستبعدوا مكونات المجتمع المدني، وكان سلوك الإخوان خيانة لمبادئ الثورة ولحليفهم السابق الجيش. وتدخلت قبلان وقالت: "في تونس كان هناك أيضًا عنف كما في مصر، لكن كان هناك إطار دستوري مؤسسي تستطيع المعارضة الاتكال عليه".

وقدّم عبد الوهاب أفندي ورقة بعنوان "حالة مناعة مرتدّة: تجليات المرض العربي في تنازعات ما بعد الربيع العربي"، وقدّم الحسن بن نجيم "قراءة حول عسر التغيير داخل الفضاء العربي"، ثم قدم جوهر الجمّوسي مداخلة بعنوان "العنف السياسي الممنهج عبر الشبكات الإلكترونية ومعوقات التحول الديمقراطي في بلدان الثورات العربية"، مقومًا دور التواصل الاجتماعي في الثورات.

إحدى جلسات اليوم الأخير من المؤتمر

ثم انعقدت جلستان متوازيتان جديدتان، هما حلقتان تحملان العنوان نفسه: "مأزق الانتقال الديمقراطي: دور البنى الاجتماعية". ففي الجلسة الأولى، التي رئسها ناصر ياسين، قدمت هبة رؤوف عزت ورقة عنوانها "بين صحوة القبيلة وسطوة المدينة: قراءة في مشهد القرون الوسطى الجديدة"، رصدت فيها صعود القبيلة وسطوة المدينة والتحولات التي قادت إليها إخفاقات الدولة في العالم العربي، وعجزها عن تحقيق مشروع الاستقلال، وكيف أدى عجز الدولة عن الوفاء لمنطقها وتحقيق السيادة الحقيقية على مناطقها، إلى ديمومة منطق القبيلة حتى داخل مؤسساتها، بل داخل التنظيمات التي نشأت لمعارضة الدولة ذاتها، حتى في الدول التي لا تعرف ظاهرة القبلية السافرة. وقالت: "لم تعد القبيلة تصورًا بدائيًا بالمعنى السلبي لكلمة بدائي، وبعض الطوائف تحول إلى قبائل، ففقدت رسالتها الدينية". وأضافت: "تحولت المؤسسة العسكرية في بعض الدول إلى قبيلة، تصنف الحق في الحياة والمكانة والسلطة بحسب الانتماء إلى هذه المؤسسة – القبيلة، والقضاء في بعض الدول تحول إلى قبيلة، فكرسي القاضي تورّث لأولاده". وقدم مازيار غيابي دراسة بعنوان "دول بلا شعوب: الحرب الأهلية ونزوح السكان في الشرق الأوسط"، درس فيها الحرب الأهلية بوصفها نماذج للحكم. كما قدمت ريهام خفاجي ورقة بعنوان "الهويات الفرعية في المجتمعات العربية، الغياب المتوهم والحضور المؤلم"، قالت فيها إن المشكلة تبدأ عندما تتحول الهوية الفرعية إلى مؤسسة ينتمي إليها الناس وينفصلون عن المجتمع. ورأت أن الاكراد والأمازيغ انتموا إلى دول لم يقبلوها.

ترأس الجلسة الأخرى شارل حرب وشارك فيها نعيم شلغوم من الجزائر بمداخلة عنوانها "تأثير السياق الاجتماعي في مسار التحول الديمقراطي في ظلّ تحولات الحراك العربي الراهن: قراءة سوسيولوجية في واقع التجربة الجزائرية"، وتساءل فيها عن الأسباب التي أبقت الجزائر استثناءً لم يمسّه الربيع العربي. وجاءت المداخلة الثانية لعصام الخفاجي من العراق بعنوان "المدن والبلدات والمهمّشون في السباق إلى دمشق" حاول فيها تجاوز ثنائية سنّي-علوي وتجاوز التفسير الطبقوي وفهم حركة الجماعات السورية المختلفة وديناميتها التي تتشارك حقدها على النظام. وألقت رباب المهدي من مصر مداخلة بعنوان "الانتقال الديمقراطي وخواص الطبقة الوسطى العربية" رأت فيها أنّ المهمّشين هم الذين حولوا الحراك إلى ثورة، وأنّ "التحوّل الديمقراطي" ليس سوى منظور ضيّق خَطّي يتصوّر أن المجتمعات تنشد الديمقراطية كغاية تمرّ إليها بمراحل محدّدة. إن التحوّل الديمقراطي لم يكن هدف الثورات، ومن خرجوا يطالبون بالحرية والكرامة والعدالة كانت الديمقراطية كنظام بالنسبة إليهم أداة وليست غاية. وهذه هي الخلفية التي ترى منها الحالة المصرية التي تتناولها بالنظر إلى تكوينات المجتمع الطبقية وانعكاسها على خياراته السياسية مع تركيز على الطبقة الوسطى التي ترى أنها تختلف في مصر عن صورتها في الكلاسيكيات الليبرالية.

في الجلسة الأخيرة في المؤتمر التي حملت عنوان "مسارات الثورات العربية: الاستقطابات الإقليمية والدولية"، وترأسها رامي خوري، قدم ياسر جزائرلي المداخلة الأولى بعنوان "احتواء الثورات العربية والحفاظ على النظام الدوليّ"، ثم قدّمت فيليسيا براتو وفؤاد بوزين الدين مداخلة مشتركة بعنوان "التهديدات الخارجية للانتفاضات العربية: مفارقات بين رؤى العالم المستقر وغير المستقر". وأتت بعد ذلك مداخلة موريل أوزبورغ "الاتحاد الأوروبي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: المتفرّج العاجز والدور غير الفعّال في نشر الديمقراطية أو تحقيق الاستقرار". أما المداخلة الأخيرة في المؤتمر فكانت لنتاليا برينكوفا بعنوان "المقاربة الروسية للفاعلين غير الحكوميين في المشرق العربي خلال الربيع العربي"، تناولت فيها نهج روسيا حيال منظمات غير دولتيّة، مثل حزب الله وحماس، وتغيّر سياسة روسيا في الشرق الأوسط وموقفها من الربيع العربي، مع الإشارة إلى أنّ موسكو تُبدي ارتياحًا أكبر عند التعامل مع الدول والحكومات.

وفي ختام المؤتمر، شكر طارق متري المشاركين والحضور، وأشار فيها إلى أهمية البحوث والمناقشات التي جرت والنجاح اللافت للتعاون بين معهد عصام فارس والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.