بدون عنوان

أربعة أشهر مرّت على بداية الأزمة في سورية. أزمة كان يمكن معالجتها منذ البدء، إلاّ أن السلطة اختارت الحلّ الأمني في مواجهة الحراك الاجتماعي الذي يطالب بالحرية والكرامة. وأُخِذ الشعب السوري كلّه رهينة، مع مخاوف شتّى من الفتنة الطائفية إلى التدخّل الأجنبي، وحتّى انهيار مؤسسات الدولة.

ولا تبدو ملامح الخروج من الأزمة و"التحوّل" واضحة اليوم، إلاّ أنّ تحليل عناصر الأزمة يسمح بمقاربة إمكانيات حدوث هذا التحوّل وأسسه، وإن لي يأتِ بسرعة أو بسهولة.

جوهر الأزمة، كما في بقية البلدان العربية، هو تسونامي لشباب يشكلون اليوم الجزء الأكبر من السكان وتركوا لمصيرهم اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، فأتوا غاضبين ليطيحوا بمنظومة "السلطة فوق الدولة"، التي اعتمدت للاستمرار هكذا على الأجهزة الأمنية وعلى التقاط الريوع الاقتصادية. وأيّ "حوار وطني" له معنى يجب ألا يغفل هذا الجوهر: أن من أطلق الحراك الشعبي ويحافظ بشجاعة وبعزم -رغم القمع والقتل والاعتقالات- على استمراريته هم أولئك الشباب وتنسيقياتهم؛ وأن الطرف الآخر من الصراع ليس لا البعث ولا الجبهة الوطنية التقدمية ولا الحكومة، بل قمّة هرم السلطة: رئيس الجمهورية وقادة الأجهزة الأمنية والقمعية.

هذا لا يعني أن الحوارات غير مفيدة. على العكس، لا بدّ للزمن السياسي أن يأخذ مداه، حتّى يضع ملامس الجروح والهواجس، حتّى لو كان الزمن الاجتماعي أسرع وأقوى وتيرة. بل لا بدّ أيضاً من مراجعات كثيرة ضمن ما يسمّى قوى المعارضة نفسها، وقوى الموالاة ذاتها، كلّ على حدة وسويّةً. فهذه المراجعات ضرورية، بل حاسمة، لأنّ مخرج الأزمة لا يمكن أن يكون عسكرياً، بل هو أوّلاً وأخيراً سياسي.

وهناك أسئلة أساسية يجب أن تطرح وتجد لها أجوبة: هل يجب توحيد ما يسمّى "المعارضة السياسية"، حتّى ولو كان جزء منها قد انغمس في السابق بسياسات دموية، أو له اليوم خطابات طائفية أو يرتبط بقوى خارجية؟ وهل بالمقابل يجب على حزب البعث أن يبقى موحّداً متشبّثاً بصفته "قائداً للدولة والمجتمع" بحسب نص الدستور، علماً أن فيه ما هو وطنيّ، كما فيه استزلام ومنافع، وعلماً أنّ ضمنه من هو مسؤول عن الأوضاع الحالية في جذورها أو في معالجتها؟ واضحٌ من صيغة طرح السؤال، أنّ الإجابة التي تحفظ البلاد ومنعتها على كلا السؤالين هي الفرز هنا وهناك؟ الفرز، بمعنى أنّ المشروع السياسي لبرّ الأمان لا يمكن أن يتجاهل أموراً كتلك المذكورة، ويجب أن يتخذ موقفاً فيها. بل إنّ هذا الموقف هو الذي سيحدّد إمكانيات الخروج من الأزمة. وما ينطبق على حزب البعث ينطبق أيضاً وأساساً على السلطة وقمّتها، وعلى مؤسسة الدولة الرئيسة: الجيش الوطني.

في هذا السياق، ساهم ما عقد في الآونة الأخيرة من مؤتمرات في الخارج في خلق هذا الفرز ضمن ما يسمّى المعارضة بدلاً من التوحيد المستهدف. وقد تمّ بفعل الوعي الشعبي إسقاط محاولات البعض زجّ الأزمة السورية في مجلس الأمن، ثمّ دفع تدخّلات أجنبية، أو القفز فوق الانتفاضة والادّعاء أمام الخارج بقيادتها.

يبقى أنّ مشروعاً سياسياً وطنياً يجب أن يوضع أمانةً لكلّ التضحيات المقدّمة، ويصيغ إطار مرحلة "التحوّل": ويجب أن يتضمّن هذا المشروع:

  • ميثاق شرف وطني يحمل طموحات جميع مكوّنات وأطياف الشعب السوري، بعيداً عن أيّ حديث عن أكثرية أو أقلية، نابذاً كلّ خطاب أو ممارسة طائفية، مشدّداً على دور سوريا الوطني والإقليمي، غير انتقامي وإنّما بناءً لمرحلة استقلال جديد؛
  • وبرنامج مرحلة "التحوّل"، يتضمّن أسساً عملية للتعامل مع واقع الأمور آخذاً بعين الاعتبار سقوط الدستور الحالي من ناحية، وضرورة الحفاظ على استمرارية الدولة كمؤسسة، التي لا حرية ولا ديمقراطية دونها.

وضع هذه الأسس لا يعني أنّ "التحوّل" سيأتي غداً، لأنّ التحوّل يتطلّب فرزاً ضمن السلطة وضمن القوى الموالية لها، كي يتوقّف الحلّ الأمني وكي يوضع حدّ لتدهور وضع البلاد مع هذه الأزمة، داخلياً وفي العلاقات مع الخارج. هناك لحظة انتقال لهذا التحوّل يجب ترقّبها وتحضير الأسس السياسية، والاجتماعية أيضاً، للشروع بها.

أهمّ ما تتضمّنه لحظة الانتقال إلى التحوّل هذه فهو مصالحة بين الجيش والقوى الأمنية، التي زجّ بها في معركة لا معنى لها، وبين الشعب والشباب. وتقع على عاتق القيادة العامّة للجيش والقوّات المسلّحة مسؤولة تحقيق هذه المصالحة التي لا بدّ منها للحفاظ على منعة البلاد، وتنسيقها مع الأهالي ضروري لنبذ أي محاولة استفزاز أو فتنة.

أمّا برنامج التحوّل فيتضمّن بالضرورة عدّة عناصر أساسية، تشكّل المادة للتسوية أو للانتقال الآمن:

  • الموقف من رئيس الجمهورية، الذي لا معنى لاستمراره "إلى الأبد" في مهامه، وفقاً لالتزامه بمسار التحوّل وبتحقيق إرادة الشعب السوري؛
  • طريقة الإدارة الحكومية لمرحلة التحوّل الانتقالية، تأتي بسياسات تضمن التحوّل الديمقراطي من ناحية، والأمن الاقتصادي والبرامج الاجتماعية الطارئة؛
  • آلية وضع دستور جديد للبلاد؛
  • طريقة معالجة القضايا الأساسية للأمن القومي خلال فترة التحوّل؛
  • وأخيراً وليس آخراً التحقيق العادل والمستقلّ في أحداث الأزمة ومسبّباتها وتجاوزاتها وآلية محاسبة المسؤولين عنها وإنصاف الضحايا والمتضرّرين.