العنوان هنا
تقارير 31 يناير ، 2012

الثّورة العربيّة والدّيمقراطيّة: جذور النّزعات الطّائفيّة وسبل مكافحتها

الكلمات المفتاحية

تواجه البلدان العربيّة التي شهدت ثورات واحتجاجات شعبيّة مطالبة بالديمقراطيّة حالةً من الاحتقان الطائفيّ على هامش الأحداث، تبرز أحيانًا في قلب المشهد؛ وتعاني بلدان عربيّة أخرى كالعراق أزمةً طائفيّة منذ الاحتلال الأميركيّ، فيما يتعايش لبنان مع حالة طائفيّة مستمرّة منذ استقلاله. وفي محاولةٍ لطرح هذه الحالة المجتمعيّة والسياسيّة المنتشرة في المشرق العربيّ على وجه الخصوص على محكّ التحليل والدراسة، عقد المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات ندوةً علميّة يوم السّبت (28/01/2011) بعنوان " الثورة العربيّة والديمقراطية: جذور النّزعات الطائفيّة وسبل مكافحتها". وكان الهدف من النّدوة بحث جذور الطائفيّة في الوطن العربيّ وأبعادها السياسيّة وإيجاد صيغ معرفيّة تحدّد الظاهرة وأسباب نشوئها وخطرها على مسيرة بناء الدولة والأمّة وعلى مسيرة التحوّل الديمقراطي النّاجمة عن الثورات العربيّة المطالبة بالحرّية والعدالة والمواطنة.

وعُقدت النّدوة على جلستين، ترأّس الأولى المدير العامّ للمركز العربي الدكتور عزمي بشارة وألقى محاضرةً حدّد من خلالها ملامح الظّاهرة الطائفية والمغالطات التي ترتبط بها وحريّة الانتماء إلى الطائفة والإشكاليّات التي تطرحها على الديمقراطيّة كنهجٍ وممارسة. وشارك في الجلسة الأولى أيضًا الدكتور وجيه قانصو الذي قدّم محاضرةً بعنوان: "مخاطر الانحراف الطائفيّ على الثورات العربية في المشرق". أمّا الدكتور سمير مرقس فقد كانت محاضرته بعنوان: "25 يناير: بين الحراك الوطنيّ والعراك الدينيّ". وفي الجلسة الثانية التي ترأّسها الأستاذ عبد العزيز آل محمود، قدّم الدكتور محمد الشنقيطي مداخلة بعنوان: "السنّة والشّيعة صناعة القطيعة"، واستعرض الأستاذ جمال باروت منشأ الطائفيّة في بلاد الشّام في محاضرته التي عنوانها: "الطائفيّة: الصّناعة والوعي الزّائف".

وأكّد الدكتور عزمي بشارة في افتتاح النّدوة أنّ الهدف منها هو مناقشة موضوع الطائفيّة من زاوية المنهجيّة العلميّة والبحث وليس كردّ فعل على الأحداث السياسيّة الجارية في الوطن العربيّ، وإنّما مساهمة من المركز في هذا الوقت بالذّات في دراسة الفعل الجماهيريّ لتغيير نُظم الاستبداد والتحوّل نحو الديمقراطية، مشدّدًا على أنّ الندوة لن تخرج بالضرورة بحلولٍ قطعيّة لمشكلة الطائفيّة، كما أنّها لا تهدف إلى تقديم موقف سياسيّ. وأشار إلى أنّ النظام الطوائفي التوافقيّ قد لا يكون استبدادًا، لكنّه ليس في الوقت نفسه ديمقراطيًّا. وأوضح أنّ المركز ارتأى تناول موضوع الطائفيّة بمشاركة باحثين مختصّين من لبنان ومصر وسورية بمنهجيّة تركّز على النّسق الاجتماعيّ للمجتمعات العربيّة وبالتّساوق مع الحالة الثوريّة العربيّة واستقطاباتها السياسيّة.

وقال عزمي بشارة إنّ الهدف من الثورات هو بناء نظامٍ ديمقراطيّ وإنّ هذا النّظام لا يتّفق مع ثقافة الأغلبيّة القائمة على التعبير الطائفيّ لأنّها ليست مبدأً للديمقراطيّة. وأوضح أنّ الطائفية ظاهرة حديثة وإسقاطها مفاهيميًّا على الماضي لا أساسَ له من التّاريخ، فلا يوجد معنًى سلبيّ أو إيجابيّ للطائفيّة في استخداماتها المصطلحيّة التاريخيّة، إذ كانت تعني "الجزء من الكلّ" أو "تجزيء الكلّ". وحتّى عند الحديث عن الشّيعة والسنّة وغيرها، لا يحقّ في الماضي الحديث عن طوائف، لأنّ اكتمال المذهب الشيعيّ مثلا لم يكن يعني تكوّن الطّائفة. وتابع بالقول إنّ المعنى السلبيّ المعاصر للطائفيّة ظهر مع مصطلح ملوك الطّوائف في الأندلس. وشدّد الدكتور على تدخّل الاستعمار في تشكيل الطائفيّة وتسييسها، وقومنة الطائفيّة، وبذلك تحويل الطّوائف من كياناتٍ اجتماعيّة إلى كياناتٍ سياسيّة.

وأوضح عزمي بشارة أنّ الطائفيّة تستند إلى الدّيماغوجيا كونها قائمة على مجموعة مغالطات لكنّها تبدو منطقيّة، وأنّها في الحقيقة هي التعصّب لجماعة سواء كانت تضمّ متديّنين وغير متديّنين أو متديّنين حصريّين من فهمٍ معيّن للدّين. ومن جملة المغالطات التي تقوم عليها الطائفيّة والنظام الطائفيّ القول إنّ التعدديّة الطائفيّة هي التعددية الديمقراطيّة ومحاولة مطابقة هذه بهذه، إلا أنّ التعدّدية الطائفيّة تميّز الإمبراطوريّات لا الدّول القوميّة ولا الديمقراطيّات، وأنّ نظام المِلل العثمانيّ كان أرقى أشكال قوننة الطائفيّة في تلك الفترة. موضّحًا أنّ اعتبار التعدديّة الطائفية تعدّدية ديمقراطيّة لا أساسَ له، لأنّ التعدّدية الديمقراطية تَنافسُ أفكارٍ سياسيّةٍ وبرامج بخصوص أفضل سبل تمثيل مصالح الأمّة، أمّا الطائفيّة فهي أبعد ما تكون عن تحديد مصالح الأمّة بل تسعى إلى ضمان مصالحَ ضيّقة للطّائفة وأفرادها وتؤدّي إلى تهميش المصالح والقضايا الوطنيّة والقوميّة. ونبّه في هذا الصّدد إلى أنّ تعدّد الهويّات لا يميّز الحداثة.

ولفت الدكتور عزمي إلى أنّه لا يوجد في التّراث الإسلاميّ شيءٌ اسمه أكثريّة طائفيّة وأقليّة طائفيّة، مشيرًا إلى أنّ سلوك السنّة الطائفيّ حديثٌ جدًّا ولم يظهر إلّا في العشرين سنة الماضية، وأنّ مفهوم التعدّد الطائفيّ أيضًا أقرب إلى التصوّرات الاستشرافيّة التي ترى في الطائفيّة نوعًا من التعدّد، إلا أنّ هذه التعدّدية تبقى في حدود سيطرة الأكثريّة الطائفية وليس الأكثريّة السياسيّة، ولو كانت الحالتان عبر صناديق الانتخابات.

ومن بين المسائل التي تثبّت الطائفيّة، سياسةُ تعامل الدولة مع الطّوائف، مشيرًا إلى مثال الحاكم الأميركيّ للعراق بول بريمر الذي كان أخطر ما فعله هو أنّه كرّس الطائفيّة بتقنين تعامل الدولة مع المواطن على أساس كونه شيعيّا أو سنيّا وجعل المواطن يتعامل هو معها على هذا الأساس. وعليه، فإنّ الطائفية تلغي مفهوم الأمّة، وبروز التّعابير الطائفية يدلّل أيضًا على أنّ مؤسّسات الدولة الحداثيّة كانت قشريّة وغير ضاربة جذورها في ثقافة المجتمع.

وفي محاضرته التي كانت بعنوان "مخاطر الانحراف الطائفيّ على الثورات العربيّة في المشرق"، أكّد الدكتور وجيه قانصو أنّ خطر الطائفيّة على الثّورات العربيّة ليس تهديدًا وشيكًا بل هو "واقع قائم"، مستدلًّا بأنّ النّخب الجديدة التي كانت في صلب أجيج الثّورة ليست ممثّلة في المجالس المنتخبة بعد الثّورات، ممّا يثير القلق من أن تعود القوى التقليدية والطائفيّة للاستحواذ على نتائج الثورة.

وأشار إلى أنّ الثورة حملت مضمونًا ثقافيًّا وأحدثت منطقًا جديدًا جعلها في موقعٍ يؤهّلها لتصفية الحسابات مع الوعي العربيّ القائم في سبيل الانتقال إلى نقطة توازنٍ جديدة وإنشاء براديغم (أنموذج) جديد. ونبّه إلى أنّ هذا الإنجاز الأساسيّ للثورات العربية أصبح مهدّدًا بفعل عودة القوى التقليديّة والطائفيّة وتصدّرها لمشهد ما بعد الإطاحة بالأنظمة السابقة. وأضاف أنّ الطائفيّة هي الشكل الحديث لرابطة العشيرة التي كانت تضع جدارًا عازلًا للفرد عن الدولة، ومثلها تضع الطائفيّة عازلًا للمواطن عن الدّولة.

وأشار الدكتور سمير مرقس في محاضرته "25 يناير: بين الحراك الوطنيّ والعراك الدينيّ" إلى بعض المظاهر الطائفيّة في أحداث ما بعد تنحّي حسني مبارك في مصر واشتداد جذوة الخطاب الطائفيّ. وقال إنّ الثورة المصريّة قد فكّكت البنى الطائفيّة في 25 كانون الثاني / يناير والأيّام الأولى للثّورة، وجرى تجاوز الاستقطاب وحصلت المصالحة وتوحّد المصريّون بصرف النّظر عن انتماءاتهم، فقد تحرّك الشّبّان من دون انتظار قرار المرجعيات الدينيّة والطائفية التي كانت متردّدة في المشاركة في تظاهرات 25 يناير، فالشبّان الأقباط مثلا لم ينتظروا قرار الكنيسة للمشاركة في التّظاهرات.

وعلى الرّغم من الأحداث التي وقعت بعد 11 شباط / فبراير 2011 (تنحّي مبارك) بعودة النّعرات الطائفيّة، يرى الدكتور سمير مرقس أنّ نهاية عام 2011 شهدت عودة المدّ الثوريّ إلى الشارع المصريّ من أجل المطالبة باستكمال الثورة وتحقيق التغيير الفعليّ والقطيعة النّهائية مع الممارسات الماضية.

وفي محاضرته الَّتي عُنوانُها "الطَّائفيَّة: الصِّناعَة والوَعي الزَّائف" تناولَ الأستاذ محمّد جمال باروت، مراحل نشأةِ الطَّائفيَّة في بلاد الشَّام. وأكّد على خطأ الفكرة الرّائجة بأنّ نظام المِلل العثمانيّ هو ما أنشأ الطائفيّة السياسية، لأنّ الدولة العثمانيّة تعاملت على نحوٍ متساوٍ مع جميع مكوّنات المجتمعات التي خضعت لسلطتها ولم تفرض سيطرة طائفةٍ على أخرى.

ويُرجع باروت نشأة الطائفيّة السياسية في البلاد العربية - وخصوصًا في بلاد الشّام - إلى السياسة الغربيّة تجاه المنطقة. وكان المشروع الاستعماريّ لنابليون الثالث فاتحة "فبركة" الطائفيّة السياسية، مشيرًا إلى أنّ أوّل تقنينٍ للطائفيّة السياسيّة حدث تحت حكم الدولة العثمانيّة ولكن أُرغمتها على ذلك القوى الاستعماريّة، بإنشاء "النّظام الأساسيّ لمتصرّفية جبل لبنان" في عام 1860.

وذكر المحاضر دور الاستعمار الفرنسيّ في تأجيجِ الطائفيّة السياسيّة في بلاد الشّام، من أجل حمايةِ مصالحه في التَّعديل الَّذي أرادت بريطانيا إدخالَه على اتِّفاقيَّة سايكس- بيكو. وكان من قبيل ذلك أنّ قوانين الأحوال الشخصيّة التي وُضعت طوال مراحل الانتداب الأجنبيّ لبلاد الشّام بُنيت على أسسٍ طائفيّة وكرّستها.

وقدّم الدكتور محمد الشنقيطي عرضًا تاريخيًّا لحقيقة الصّراع الطائفيّ بين السنّة والشّيعة، مشدّدًا على أنّ الخلاف بين الطّرفين سياسيٌّ تاريخيٌّ وليس عقديًّا ولا حتّى على مستوى الشّعائر. وأوضح أنّ التّحريض والتّقاتل الطائفيّ بين السنّة والشّيعة لم يكن هو السّائد في التاريخ إنّما كان السّائد تواصل واحترام الاختلاف. مشيرًا إلى أنّ التاريخ رصد في بدايات الصّراع الطائفيّ السنّي الشيعيّ صراعًا بين حيّ باب البصرة السنّي الحنبليّ وحيّ الكرخ الشيعيّ الإماميّ في العراق، غير أنّ التاريخ الحديث يشهد تأجّجًا للخلاف السياسيّ بين الفريقين ومن بين عوامل ذلك ما يسمّيه الشنقيطي بـ"حنبلة السنّة" و "سمعلة الشّيعة الإماميّة"، حيث أصبحت الثّقافة الحنبليّة المحرّضة ضدّ الشيعة هي السّائدة لدى السنّة حتّى وإن لم يكونوا حنابلة، وأنّ المذهب الإسماعيليّ المحرّض ضدّ السنّة أصبحت أفكاره طاغية على الشّيعة.

وأكّد الشنقيطي أنّ هناك فرصًا لتحقيق التّواصل بين السنّة والشّيعة بدل القطيعة وأنّ البداية يجب أن تكون من تفكيك الخلاف السّياسيّ بينهما. وأردف بالتّشديد على ضرورة الانتقال من فكرة التّسامح إلى فكرة المساواة التي لا منّة فيها، لا للحاكم على الشّعب ولا لأغلبيّةٍ على أقليّة. وأضاف أنّه يجب الوعي بأنّ الدولة ليست قائمة على الطائفيّة ولكنّها قائمة على عقدٍ اجتماعيّ أساسه الجغرافيا لا على أساس الدّين أو اللّغة أو العرق، وعند تحقّق هذا الوعي نكرّس المساواة بين من يعيشون على الرّقعة الجغرافيّة للدّولة نفسها وننهي الطائفيّة.