العنوان هنا
مقالات 25 يوليو ، 2013

في أنّ الثورة ثورة والانقلاب انقلاب

الكلمات المفتاحية

عمرو عثمان

أستاذ التاريخ بقسم العلوم الإنسانية في جامعة قطر. تتركز اهتماماته البحثية في التاريخ الإسلامي والهيستوريوغرافيا واللغة والقانون والدراسات الإسلامية. له العديد من المقالات المنشورة في مجلات أكاديمية محكّمة. شملت كتاباته مؤلفات عن تاريخ المذهب الظاهري وأصول فقهه، ومقالات عن التاريخ العالمي، والتاريخ الفكري، والمنعطف اللغوي وأثره في الدراسات التاريخية، فضلًا عن مقالات أكاديمية في فروع الدراسات الإسلامية المختلفة.

من المحزن أن يضطر أكاديمي للحديث عن الفرق بين الثورة والانقلاب ردًا على وصف بعض الأكاديميين لانقلاب الجيش المصري يوم الثالث من تموز/ يوليو 2013 على قائده الأعلى المنتخب بأنه ثورة. قد نفهم حماسة المشاركين في تظاهرات الثلاثين من يونيو لوصف ما أنجزوه بأنه ثورة، ولكن يتعذر فهم أن يتنازل الأكاديمي عن علميته وموضوعيته ليحاول إثبات أنّ مشهدًا يقف فيه قائد عسكري بزيه الرسمي ليعلن عزل رئيس منتخب هو في الحقيقة ثورة. وقد نفهم أن يذهب أكاديمي ما إلى القول بأنّ ذلك الانقلاب كان حميدًا، ولكننا نصرّ في الوقت نفسه على أنّ القاعدة هي أنّ أي انقلاب خبيث، وأنّ إثبات العكس يقع على المدعي. ونصر في الوقت نفسه على القول بأنّ انقلابًا في دولة لم تفرغ بعد من بذر الديمقراطية يعد بمنزلة اقتلاع للبذرة وتبوير للأرض، وهذا ضرر لا يعدله ضرر آخر في عالم السياسة كما يفهمها الكثيرون.

نجد أنفسنا إذًا مضطرين لشرح الفرق بين الثورة والانقلاب، وبين ما حدث في الخامس والعشرين من كانون الثاني/ يناير 2011، وما حدث في الثالث من تموز/ يوليو 2013. الفرق الأول والجوهري أننا نتحدث عن رئيس غير منتخب انتخابًا حرًا؛ أي غير شرعي حسب النظام الحديث، في الحالة الأولى، ورئيس منتخب انتخابًا حرًا وإن كان ذلك بفارق صوت واحد في الحالة الثانية. ومن العجيب أن يدعي البعض أنّ شرعية الانتخابات لا تكفي، ففي كل النظم الديمقراطية الحديثة لا يستطيع الشعب في دولة ذات نظام رئاسي سحب الشرعية من رئيس منتخب فور انتخابه، وحتى إن اعتقد البعض أنّ سياساته قد تترك آثارًا اقتصادية مدمرة وبعيدة المدى، أو حتى لو اعتقد البعض أيضًا أنّ سياساته قد تعرِّض الأمن القومي للدولة للخطر. أيّ معرفة عابرة بخطاب الديمقراطيين في الولايات المتحدة الأميركية ضد سياسات جورج بوش الابن، وخطاب الجمهوريين ضد سياسات باراك أوباما كفيلة بحسم هذه النقطة. كما يدل على الشيء نفسه إصرار توني بلير رئيس وزراء بريطانيا السابق على دخول الحرب بجانب الولايات المتحدة في العراق عام 2003 على الرغم من المعارضة الشعبية الكاسحة واعتراض الكثير من وزرائه. واليوم، تتدنى شعبية الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند إلى أدنى مستوياتها لأي رئيس فرنسي في عامه الأول في الحكم. لم تخرج مظاهرات في فرنسا تدعو إلى سقوطه، ولم تدع المعارضة الجيش إلى التدخل. وفي الحالة المصرية، قد يكون مبدأ تأسيس سابقة احترام أول خيار ديمقراطي للشعب مهما كان مؤلمًا وأول انتقال سلمي لها من مدني لمدني أولوية تعلو على أي أولوية أخرى.

ثانيًا، ثورة الشعب المصري في عام 2011 كانت ضد نظام بلغ الشك في مدى فساده وظلمه وفشله درجة اليقين بعد ثلاثين عامًا كاملة، وبعدما أيقن الجميع بجدية مشروع توريث الحكم من مبارك الأب إلى مبارك الابن بعلاقاته المشبوهة برجال الأعمال وإصراره على استمرار بوليسية الدولة. وفي عام 2013، تمت إطاحة رئيس منتخب بعد عام واحد فقط من انتخابه، وهو إن ثبتت عليه تهمة الفشل (أو السقوط في مخطط الإفشال) أو ممارسة الخداع أو الكذب السياسي (وهي ممارسات تدخل في باب "المباح" في عالم السياسة نظرًا لـ "عموم البلوى" بها)، فلم تثبت عليه تهمة فساد أو أي تهمة جنائية من قتل أو اعتقال أو تعذيب. أما تهمة أخونة الدولة، فلا يمكن أخذها بجدية؛ فمن الصعب تصديق أنّ رئيسًا لا يملك سلطات حقيقية على الجيش والشرطة والقضاء (بمعنى استعداد القضاء للتعاون معه) والإعلام والجهاز البيروقراطي الفاسد يستطيع في أربع أو حتى عشر سنوات أن يغيِّر من هوية هذه الأجهزة بأيّ طريقة جذرية.

ثالثًا، ربما تكون أعداد المتظاهرين في عام 2013 أكبر منها في 2011، ولكن لا يمكن مقارنة الانقسام الحادث في حالة عام 2013 بالتوحّد المثالي في حالة عام 2011. في ثورة 25 يناير،  مثّل المتظاهرون كل طوائف الشعب المصري، ولم تتعد التظاهرات المؤيدة للنظام القائم وقتها المئات أو الآلاف على أكثر تقدير. أما في 30 يونيو، فقد بلغ الانقسام درجة من الحدة بحيث لا يمكن اليوم التعميم عن موقف الشعب المصري (وأرجو ألا أكون بحاجة إلى الرد على دعوى الثلاثين مليون متظاهر، فهذه مجرد أسطورة من الأساطير المؤسِّسة لانقلاب جنرالات الجيش المصري وأعوانهم من المدنيين كما أثبتت التقارير في هذا الشأن والتي اعتمدت على حساب أعداد المتظاهرين بناء على مساحات الشوارع والميادين التي تظاهروا بها). وفور تنحي رأس النظام في عام 2011، تلاشت تلك المئات المؤيدة له ولم يبق لها أثر، بينما استمرت اعتصامات واحتجاجات مؤيدي الرئيس المخطوف في عام 2013 حتى تاريخ كتابة هذه المقالة على الأقل، ولا يبدو أنّ لها نهاية قريبة.

رابعًا، في عام 2011، تنحى رأس النظام بعدما أدرك أن استمراره مستحيل أمام إصرار شعبي حاسم أدى إلى شلل في كل المرافق الحيوية في الدولة. وفي عام 2013، تم خطف الرئيس المنتخب من قبل قادة الانقلاب العسكري بعد يومين فقط من بدء التظاهرات. وفي عام 2011، لم يكن هناك بديل من القوات المسلحة لإدارة شؤون الدولة في ظل وجود مؤسسات لم ينتخبها الشعب انتخابًا شرعيًا (كان تزوير انتخابات مجلس الشعب في عام 2010 أحد أسباب الثورة الرئيسية). وفي عام 2013، كان هناك مجلس نيابي منتخب انتخابًا شرعيًا حسب الأصول الديمقراطية الحديثة. جرى حل هذا المجلس، وتحولت سلطة التشريع إلى الرئيس المعيّن ليجمع في يده السلطة التنفيذية (التي لا يملكها فعليًا) والسلطة التشريعية.

خامسًا، في عام 2011، لم يكن الشعب المصري بحاجة إلى أن يبرهن للعالم أنّ ما حدث كان ثورة، ولا حتى إلى ذكر أعداد المتظاهرين، صدقًا أو تزويرًا؛ لإقناع العالم بذلك. وفي عام 2013، انقسمت دول العالم بين رافض للانقلاب (كالدول الأفريقية وتركيا وتونس)، وبين منتظر على استحياء (كالولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي). والمعروف أنّ هذه الأخيرة تمنعها حساباتها السياسية المعقدة مع دولة مركزية كمصر من الإدانة الصريحة للانقلاب.

سادسًا، أي متابع لأغلب التقارير الصحفية العالمية يعرف جيدًا أنّ الأغلبية العظمى من الأكاديميين والمفكرين والصحفيين على مستوى العالم يتعاملون مع ما حدث في مصر على أنه انقلاب عسكري أجهض أول تجربة ديمقراطية مصرية.

سابعًا، عندما نجحت ثورة 25 يناير 2011 كان الشعب كله، إلا قليلًا، فخورًا بما أنجزه، وارتفعت آماله عاليًا في مستقبل مشرق بعد ركود طويل. أما ما حدث في تموز/ يوليو 2013، فقد خلف شعبًا مكتئبًا، ومنقسمًا على نفسه، وكافرًا بالديمقراطية أو متوجسًا منها على أقل تقدير، وفاقدًا للأمل في دولة تحيا فيها أجياله القادمة وهي تعلم أنها صاحبة القرار وأن جيشها يسهر على حماية إقليم الدولة وليس استغلال انقسام الشعب لعزل رئيس منتخب وتعيين آخر محله.

أعتقد أنّ ما سبق يكفي للرد على من يحاول تسويق الانقلاب على أنه ثورة. ما حدث في مصر مؤخراً كان انقلابًا عسكريًا مكتمل الأركان يمكن تدريسه على أنه نمط مثالي ideal type للانقلابات العسكرية، تمامًا كما يمكن لثورة 25 يناير أن تدَّرس على أنها نمط مثالي للثورات الشعبية. اكتملت أركان الانقلاب عندما وقف قائد الجيش المعيّن بزيه العسكري ليتلو بيان الانقلاب، فيعزل رئيسه المنتخب الذي عينه ويعطي السلطة التي لا يملكها لمن لم ينتخبه الشعب، في وجود بعض الوجوه المدنية التي ليس من بينها منتخب واحد. أما القول بأنّ ما فعله وزير الدفاع المصري ليس انقلابًا لأنه لم يتول السلطة بنفسه، فهو كمن يقول أنّ دولة ما تحت الاحتلال العسكري حرةٌ ومستقلةٌ لمجرد أنّ أحد مواطنيها عينه المحتل رئيسًا عليها.

يبقى الزعم بأنّ ما حدث كان "انقلابًا حميدًا". والواقع أنّ الانقلاب بحكم تعريفه لا يمكن أن يكون حميدًا، وليس أدل على ذلك من حرص الانقلابيين ومن شايعهم على تسويق ما حدث على أنه ثورة وليس انقلابًا. والانقلابات العسكرية هي أسوأ ما يمكن أن يحدث في دولة ما. فالانقلاب العسكري يضرب دولة القانون في مقتل ويحوّل الدولة إلى دولة فاشلة رسميًا وفعليًا، ويفقد أي انتخابات مستقبلية صدقيتها، ويحوّل أي رئيس قادم إلى تابع للجيش وليس قائدًا عليه. الانقلاب العسكري يحوّل الدولة إلى دولة عسكرية، سواء كان ذلك بصورة فعلية مباشرة، أو بصورة ضمنية غير مباشرة. وفي الحالة المصرية، أدخل الانقلاب البلاد في نفق مظلم لا يبدو في آخره بصيص أمل لقيام دولة ديمقراطية حديثة تتداول فيها السلطة بصورة سلمية ولا يتحكم عسكرها في مدنييها، وتقوم على رعاية شعب يربطه نسيج اجتماعي قوي على اختلافاته، ويستطيع مع تمايزاته وتوجهاته المختلفة على العمل معًا لتحقيق ما فيه مصلحة الدولة. ومع أنّ ذلك لم يكن غالبًا ليحدث تحت حكم الإخوان المسلمين، فإنّ الشعوب تتعلم من تجاربها الديمقراطية وخياراتها الخاطئة، ولكنها لا تتعلم شيئًا من الانقلابات العسكرية. ولا أدري كيف يمكن لكل ذلك أن يكون أخف من أي ضرر آخر.

وأخيرًا، إذا كان الانقلاب العسكري هو أسوأ ما قد يحدث في بلد ما، فإن تشجيع الانقلاب العسكري ودعمه هو كبيرة الكبائر في الممارسة السياسية. في الدول الديمقراطية، قد تصل المعارك السياسية والحزبية إلى حد تكسير عظام الخصوم السياسيين، ولكنها لا تصل أبدًا - ولو تلميحًا - إلى درجة الاستنصار بقوة الجيش حتى لو كان ذلك بظهير شعبي قوي. فمجرد إعطاء شرعية ولو شعبية لتدخل الجيش في الحياة السياسية يعني أنّ السيادة الشعبية نفسها قد أصبحت "مزحة"، إذ لا يمكن للشعب بعدها أن يضمن عدم تدخل الجيش في خيارات الشعب الديمقراطية، كما لا يمكن لأي رئيس قادم أن يثق أنه في مأمن من غدر قادة جيشه إذا استطاع معارضوه يومًا حشد بعض الشعب ضده. لن يتأخر اليوم الذي يدرك فيه من رحب بالانقلاب أنه قد استجار من الرمضاء بالنار.

أنهي كتابة هذه المقالة وأنا أتابع تصريح قائد الانقلاب المصري الذي يدعو فيه بنفسه، وليس رئيسه المعين أو رئيس وزرائه، الشعب إلى التظاهر حتى يعطي قائد الجيش تفويضًا ببدء حرب أهلية. ألا يكفي هذا التصريح من قائد الانقلاب لإثبات أنّ ما حدث في مصر كان انقلابًا عسكريًا، ليس إلا.