العنوان هنا
تقدير موقف 27 فبراير ، 2013

الأردن: الانتخابات النيابيّة والإصلاح السياسيّ

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

تشهد الساحة السياسيّة الأردنيّة منذ أكثرَ من أسبوعين مداولاتِ تشكيل حكومةٍ جديدة تنفيذًا للاستحقاق الدستوريّ الذي يقضي باستقالة الحكومة التي أشرفت على إجراء الانتخابات النيابيّة. ومن الواضح أنّ الحكومة الجديدة لن تكون جاهزةً قبل الأسبوع الثاني من شهر آذار / مارس المقبل. لم يكن تشكيل حكومة جديدة في الأردن - على الإطلاق - عمليةً تستغرق مثل هذا الوقت أو هذا الجهد في المداولات، فالأردن اعتاد على تغيير الحكومات باستمرار، ما جعل مثل هذا الحدث "إجرائيًّا" وحسب[1]. إلا أنّ المتغير الجديد هو إشراك مجلس النواب أوّل مرةٍ منذ ما يزيد عن نصف قرن في مداولات تسمية رئيس وزراءٍ جديد. ومن المتوقّع أن يصبح للمجلس دورٌ مهمّ نسبيًّا في تحديد اسم رئيس الوزراء، ودور أكبر أهمية في اقتراح وزراء ليكونوا في قائمة الحكومة الجديدة.

يعدّ لجوء النظام السياسيّ إلى إجراء مداولاتٍ مع الكتل النيابيّة لتشكيل الحكومة جزءًا مما التزم به من إجراءاتٍ ضمن عملية الإصلاح السياسيّ في الأردن، فمنذ بداية الحراك الشعبيّ في الأردن في بداية عام 2011، ركّزت قوى الحراك الشعبيّ والقوى السياسيّة المعارضة على مطالب الإصلاح المتعلقة بإجراء تعديلات دستورية تعظّم صلاحيات مجلس النوّاب وتحميه من الحل، وتغيّر آليات تشكيل الحكومة لتصبح الحكومات برلمانيةً. إضافةً إلى المطالبة بهذه التعديلات الدستوريّة، فقد أجمعت هذه القوى على ضرورة إصدار قانون انتخابٍ يتجاوز مبدأ الصوت الواحد[2] من ناحية، ويتضمّن انتخاب نسبةٍ مهمةٍ من أعضاء مجلس النوّاب (تتراوح بين ثلث الأعضاء ونصفهم) بنظام القوائم الوطنيّة. في المقابل، طَوّر النظام السياسيّ - في إطار التعامل مع الحراك الشعبيّ ومطالب هذه القوى - برنامجه الإصلاحيّ الذي اتّضحت معالمه منذ نهاية صيف 2011، ويرتكز على قيادة عمليةٍ إصلاحيّةٍ ضمن رؤيته وتوجّهاته بحيث تكون أجندة هذه العمليةِ ومخرجاتها مضبوطة. ولذا، فإنّ التعديلات الدستوريّة كانت تعكس رؤية النظام السياسيّ ولم تتضمّن المطالب الرئيسة لقوى الحراك وقوى المعارضة، ومثلها جاء قانون الانتخاب الجديد بعيدًا عن تطلعات هذه القوى.

إنّ توجّه النظام السياسيّ إلى إشراك مجلس النوّاب في عملية اختيار رئيس الحكومة يحقّق له مجموعةَ أهدافٍ على رأسها إثبات التزامه بتنفيذ وعوده في إطار الترويج لبرنامجه الإصلاحيّ بأنّ تشكيل الحكومات بعد الانتخابات النيابيّة سيكون بناءً على مداولاتٍ مع مجلس النوّاب. كما أنّ إجراء مشاوراتٍ مع البرلمان وتشكيل حكومةٍ بناءً على مقترحات النوّاب من شأنه أن يوحي بأنّ النظام السياسي قد التزم بتشكيل "حكوماتٍ برلمانيّة" وأنّ العملية الإصلاحيّة قد وصلت إلى مبتغاها، فيكون بذلك قد سحب البساط من تحت أقدامِ القوى السياسيّة المعارضة التي قاطعت الانتخابات وهي التي ظلّت تشدّد على أنّ جوهر الإصلاح هو تشكيل "حكومات برلمانيّة". كما أنّ مشاركة البرلمان في تشكيل الحكومة تعني بالضرورة أنّ الأغلبيّة البرلمانيّة التي سوف تمنح ثقتها للحكومة سوف تتحمل مسؤولياتِ قرارات الحكومة الجديدة، خاصةً في ظلّ توقّعِ اتّخاذها إجراءاتٍ اقتصاديّة لا تلقى قبولًا شعبيًّا للحدّ من العجز في الميزانية. والمنطلق - كما يبدو - هو أنّ مشاركة البرلمان في تشكيل الحكومة تعني توسيع قاعدة مسؤولية إدارة البلاد ليتحمّل البرلمان حصّة من تبعاتها بعدما كانت محصورةً في القصر والحكومات وأجهزتها.

مع أهمية هذا المتغيّر، إلّا أنّه من غير المتوقّع أن يُؤدّي دخول مجلس النوّاب في عملية تشكيل الحكومة إلى حكومة تختلف نوعيًّا عن الحكومات السابقة. وليس من المنتظر أن تكون الحكومة الجديدة حكومةً برلمانيةً كتلك الحكومات البرلمانيّة المتعارف عليها التي تشكِّلها أغلبيّةٌ نيابيّة أو ائتلافُ تكتلاتٍ نيابيّة. إنّ عدم قدرة المجلس على إنجاز نقلةٍ في تشكيل الحكومات مرتبطٌ بما أفرزته الانتخابات الأخيرة من نتائجَ حدّدتها العملية الانتخابيّة بصفة عامّة وقانون الانتخاب بصفة خاصة.

 

انتخابات نيابيّة من دون برامج سياسيّة

لم تأت الانتخابات النيابيّة الأردنيّة بمفاجآت كبرى على صعيد تشكيلة مجلس النوّاب الأردنيّ الجديد، ولم يكن ذلك منتظرًا منها، إذ جرت هذه الانتخابات في ظلّ مقاطعة الإخوان المسلمين، أكثر الأطر السياسيّة تنظيمًا وتأثيرًا في الشارع الأردنيّ، إضافةً إلى مقاطعة الجبهة الوطنيّة للإصلاح ومعظم تجمعات الحراك الشعبيّ وكذلك بعض الأحزاب اليساريّة، احتجاجًا على قانون الانتخاب الذي اعتمد مبدأ الصوت الواحد في الدوائر الفرعيّة المتعددة المقاعد، واحتجاجًا أيضًا على ضآلة نسبةِ المقاعد النيابيّة التي خُصّصت للقائمة الوطنيّة، الأمر الذي أفرغ هذه الانتخابات إلى حدٍّ كبيرٍ من أيّ صراعٍ برامجيّ أو حتى تنافسٍ سياسيّ. ولم تستطع الأحزاب والتيارات السياسيّة التي آثرت المشاركة تحويل حملاتها الانتخابيّة إلى حملاتٍ ذات طبيعةٍ برامجيّةٍ أو سياسيّة، فمشاركة معظم تلك التيارات كانت مشاركةً خجولةً من حيث عدد المرشّحين، بل إنّ فوز جميع مرشّحي أحد هذه التيارات لم يكن ليمنحه الأغلبية في مجلس النوّاب. إضافةً إلى ذلك، فإنّ هذه القوى السياسيّة ليس لها امتدادٌ شعبيٌّ فعليّ، بل إنّ المعيار الأساسيّ لاختيار معظم هذه القوى السياسيّة لمرشّحيها كان مدى قوّة كلّ واحدٍ من هؤلاء ونفوذه في دائرته على أسسٍ عشائريّة وتقليديّة، وليس على أسس ما يتمتعون به من رصيدٍ سياسيّ. ولذا، فقد كان على مرشّحي التيارات السياسيّة إدارة حملاتهم الانتخابيّة بصورة منفصلةٍ موظِّفينَ ما يتمتعون به من دعمٍ تقليديٍّ اجتماعيٍّ أو عشائريّ. إن مراجعة ما طرحته أغلبية المرشّحين - المستقلّين وممثّلي الأحزاب - من شعاراتٍ وبرامج، تُظهر أنّ أغلب هذه الشعاراتِ كانت شعاراتٍ عامّة ولم ترتق إلى ما كان متوقّعًا من أوّل انتخابات تجري بعد عامين من الحراك الشعبيّ في الأردن والربيع العربيّ. وفي ظلّ غياب برامج المرشّحين بشأن قضايا الإصلاح السياسيّ أو مواقفهم بشأن الكيفية التي يجب أن تكون عليها إدارة البلاد، ركّزت الحملات الانتخابيّة على صفاتِ المرشحين ومؤهلاتهم، وتمتّعهم بالصدق والأمانة، وقدرتهم على حمل هموم المواطنين ومشاكلهم وإيصال صوتهم إلى مؤسسات الحكم. لقد تعاطت إستراتيجية غالبية المرشحين في حملاتهم الانتخابية مع مجلس النوّاب كمؤسسة وسيطة بين ناخبي دوائرهم والحكم، وليس على أساس أنّ هذا المجلس هو سلطة تضع السياسات العامّة.

لم يكن غياب البرامج والتنافس السياسيّ عن الانتخابات الأخيرة أمرًا مقلقًا للنظام السياسيّ، فقد تلخّصت أهدافُ الدولة من إجراء الانتخابات في هدفين رئيسين، أوّلهما الحدّ من أثر مقاطعة التيارات السياسيّة المهمة في نسب الاقتراع؛ والثاني استعادة ثقة المواطنين بإمكانيّة إجراء انتخابات لا تتدخل أجهزة الدولة - وبالذات الأمنيّة منها - في مجرياتها. ولقد استطاع نظام الحكم إلى حدٍّ كبيرٍ تحقيق هذين الهدفين، إذ إنّ نسبة التسجيل للانتخابات تجاوزت الثلثين من مجموع الذين يحقّ لهم الاقتراع، فيما كانت نسبة الاقتراع (56%)، وهي نسبةٌ مقبولةٌ مقارنةً بنسب الاقتراع في انتخابات سابقة. ولا شكّ في أنّ تسهيل عملية تسجيل المقترعين وتمديدها والحملة الدعائيّة والإعلاميّة قد ساهمت في نجاح النظام، ولا سيّما أنّ التيارات المقاطعة للانتخابات اكتفت باتّباع آلية المقاطعة السلبيّة متمثّلة في الامتناع عن التسجيل في قوائم المقترعين من دون أن يكون هذا ضمن إستراتيجية متكاملة لحثّ المواطنين على مقاطعة الانتخابات. وساهمت زيادة عدد المرشّحين خاصّة ضمن القوائم الوطنية (61 قائمة) في تحقيق مستوى اقتراع عالٍ نسبيًّا. أمّا على صعيد عدم تدخل أجهزة الدولة في الانتخابات، فإنّ الإجراءات التي قامت بها الهيئة المستقلّة المشرفة على الانتخابات من نشر قوائم الناخبين، واستخدام تقنيات مثل الحبر السريّ، وإتاحة الحرية للمراقبين المحليّين والدوليّين، وفرز الأصوات محليًّا في لجان الاقتراع؛ ولّدَت قناعةً بأن ما جرى في انتخابات 2007 و2010 من تزوير لم يتكرّر في هذه الانتخابات.

 

قانون الانتخاب وسيادة نمطٍ انتخابيٍّ تقليديّ

إضافةً إلى غياب الزَّخْم السياسيّ عن الحملة الانتخابيّة، فإنّ قانون الانتخاب قد ساهم في تكريس النمط التقليديّ العشائريّ وغير السياسيّ في العملية الانتخابيّة برمّتها. فقد جرت الانتخابات النيابيّة الأخيرة وفق قانون انتخابٍ[3] قسّم عدد أعضاء المجلس المئة والخمسين إلى قسمين : قسم أوّل يضمّ 123 مقعدًا (85% من إجمالي مقاعد المجلس) موزّعة على 48 دائرة انتخابيّة، تجري الانتخابات فيها بقانون الصوت الواحد، إذ يكون للناخب صوتٌ واحد يمنحه لمرشّحٍ واحدٍ بغضّ النظر عن عدد المقاعد المخصّصة للدائرة الانتخابيّة؛ أمّا القسم الثاني، فيتضمّن 27 مقعدًا (15% من مقاعد المجلس) وهي التي خصّصت للقوائم الوطنية، إذ يُؤخذ الأردن كدائرة انتخابيّة واحدة ويحقّ للناخب أن يصوِّت لإحدى القوائم الوطنيّة المتنافسة.

مثّل اعتماد نظامٍ انتخابيّ مختلطٍ ما بين دوائر محليّة وقوائم وطنيّة تطوّرًا مقارنةً بقوانين الانتخاب السابقة التي كانت تعتمد انتخاب جميع النوّاب من خلال الدوائر الفرعيّة، إلّا أنّ هذا التطوّر لم يُترجم في نقل العملية الانتخابيّة إلى مستوى أفضل ممّا كانت عليه، فإضافةً إلى مقاطعة أحزاب المعارضة، كانت قلّة عدد المقاعد المخصّصة للقائمة الوطنيّة تُنبئ بأنّ تشكيلة المجلس ستكون مرتهنةً بنتائج الدوائر الفرعيّة. علاوةً على هذا، اتّضح أنّ القوائم التي شُكّلت لخوض الانتخابات الأخيرة لم تكن حزبيّة، بل كانت مدفوعة بالتوافق الشخصيّ بين المرشّحين أكثر من توافقهم على البرامج. فقد عمل الذين قاموا على تشكيل هذه القوائم على تجميع مرشّحين ذوي قوّةٍ انتخابيّةٍ عشائريّةٍ أو جهويّةٍ في مناطقهم بحيث يكون ما تحصل عليه القائمة من أصواتٍ هو مجموع ما يستطيع أن يحصل عليه كلّ واحدٍ من مرشّحي القائمة في إطار محيطه الاجتماعيّ أو في منطقة سكنه. إذ جهدت أغلب القوائم في ضمّ مرشّحين يمثّل كلٌّ منهم مكوّنًا من مكوّنات المجتمع، أو جهةً أو محافظةً. ولأنّ هذا كان هاجس الذين خاضوا الانتخابات في القسم المخصّص للقوائم الوطنيّة، لم يكن مفاجئًا أنّ المحتوى البرامجيّ والسياسيّ لتلك القوائم كان في حدّه الأدنى. كانت هذه تجمعاتُ مرشحين محليّين وليست قوائم وطنيّةً سياسيّة كما يفترض أن تكون.

قائمتان كسرتا هذا النمط، وتبنّتا برنامجًا وخطابًا انتخابيًّا بمحتوى سياسيّ واضح يقوم على تقسيم المجتمع الأردنيّ بحسب أصوله (الأردنيّة والفلسطينيّة)، ويعتمد على تحفيز مشاعر الإقليميّة وتعظيم المخاوف المتبادلة بين مكوّنَي المجتمع. وكان من الواضح أنّ هذا الخطاب الإقليميّ لم يجد قبولًا لدى جمهور الناخبين، ومُني بخسارةٍ قاسيةٍ، إذ إنّ القائمتين حصلتا مجتمعتين على أقلّ من 1.8% من أصوات الناخبين. وهو ما يمكن أن يُقرأ بأنه نسبة المتعاطفين في حدّها الأعلى مع التيارات الإقليميّة مجتمعة، "الأردنيّة" منها و"الفلسطينيّة".

لقد فشل الرهان على أن تُحدث القوائم الوطنيّة نقلةً نوعيةً في العملية الانتخابيّة تتجاوز أنماط الانتخاب الجهويّ والعشائريّ، فبقي العنصر الأساسيّ المحدّد لتشكيلة مجلس النوّاب هو ما تفرزه الانتخابات على صعيد الدوائر المحليّة.

ساهم اعتماد مبدأ الصوت الواحد - الذي طبّق منذ عام 1993 - على مدار عقدين في تكريس نمطٍ انتخابيٍّ ينحاز فيه القطاع الأوسع من الناخبين إلى مرشّحي الأطر التقليديّة (أطر عشائريّة أو شبه عشائريّة مثل روابط بلدات الأصل) على حساب مرشّحي القوى والتيارات السياسيّة. وزاد من سيادة هذا النمط الانتخابيّ إعادة تقسيم الدوائر الانتخابيّة في المملكة في عام 2003 إلى دوائر أصغر[4]، فقد ضاعف هذا التقسيم - خاصّةً في دوائر المراكز المدينيّة الصغرى أو الأرياف - القوّة الانتخابيّة للأطر التقليديّة. وساهم صغر الدوائر الانتخابيّة واعتماد مبدأ الصوت الواحد في تكريس أنماط التصويت على أسسٍ عشائريّةٍ أو شبة عشائريّة، بل أكثر من ذلك، انقسم المجتمع على أساس الهوّية الفرعية المستندة إلى الانتماء القرابيّ أو شبه القرابيّ. وبذلك، فإنّ العوامل المحدّدة التي حكمت السلوك الانتخابيّ والعملية الانتخابيّة لم تتأسّس على أرضية المهامّ الدستوريّة لمجلس النوّاب الذي هو سلطة من سلطات الدولة تقوم بالتشريع والرقابة على الحكومة وتمنحها الثقة أو تحجبها عنها؛ بل كانت أقربَ إلى التعامل مع مجلس النوّاب كإطارٍ وسيطٍ بين المجتمع والحكومة، يقوم بالعمل على تأطير مطالب الناخبين في دائرة انتخابيّةٍ من أجل تعظيم حصّتهم من الخدمات أو المزايا. ومن الواضح أنّ الانتخابات الأخيرة كانت محكومةً بهذا النمط، أكان ذلك على صعيد ما طرحه المرشّحون أم على صعيد كيف صوّت الناخبون الذين شاركوا في الانتخابات. وتكفي الإشارة إلى أنّ هذه الانتخابات شهدت مثلها مثل انتخاباتٍ سابقة طغيان أسلوب الإجماعات العشائريّة، أو انتخاباتٍ عشائريّةٍ تمهيديّةٍ من أجل التوافق على مرشّحٍ واحدٍ[5] يخوض الانتخابات باسم العشيرة أو رابطة أهالي بلدة أو منطقة. فأكثرية المرشّحين اعتمدت على القواعد الاجتماعيّة التقليديّة، وكانت أسيرة توازن القوّة الانتخابيّة للأطر التقليديّة في تلك الدوائر. وعليه، فإنّ أغلبية النّواب المنتخبين فازوا بحكم عصبية العشيرة أو بلدة الأصل، وليس بحكم برنامجٍ انتخابيٍّ طرحوه ويحاسَبون عليه.

يمكن القول إنّ أغلبية جمهور الناخبين في الأردن قد تعاطت مع الانتخابات اعتمادًا على واحد من ثلاثة منطلقاتٍ رئيسة:

1- مقاطعة الانتخابات تسجيلًا أو اقتراعًا، وذلك احتجاجًا على قانون الانتخاب وامتثالًا لدعوة المقاطعة.

2- عدم المشاركة من منطلق عدم جدوى الانتخابات، وأنّ مجلس النوّاب لن يكون له دورٌ في إجراء تغييراتٍ جوهريّةٍ في الحياة السياسيّة.

3- المشاركة في الانتخابات، وهي حال قطاعٍ من الناخبين حكمت خياراته في أكثريته دوافع جهويّةٌ وتقليديّةٌ وعشائريّةٌ.

تغيب التكتلات القائمة على أساسٍ سياسيٍّ عن مجلس النوّاب الجديد، أمّا التكتلات النيابيّة التي سرعان ما نشأت عقب الانتخابات، فأساسها نقاط توافقِ الحدّ الأدنى بين أعضائها، وهي أقرب إلى الانسجام الشخصيّ والاجتماعيّ بين أفرادها منها إلى التوافق على نقاطٍ برامجيّةٍ. وعليه، فإنّ بقاء هذه التكتّلات على حالها واحتفاظها بأعضائها مرتهنٌ بتساهلها مع عدم التزام أعضائها بنقاط برامجيّة محدّدة، ومنحهم الحرّية في تقديم خدماتٍ لجمهور ناخبيهم.

ليس من المتوقّع أن يكون المجلس بمثل هذه التركيبة قادرًا على أن يضع أجنداتٍ سياسيةً واضحةً في إطار التشريع والتحوّل الديمقراطي أو الرقابة، ناهيك عن تشكيل حكومة. بل تدلّ المشاورات التي قادها رئيس الديوان الملكيّ لاستشارة الكتل النيابيّة وجمع مقترحاتٍ لاسم رئيس وزراء على أنّ مجلس النوّاب ليس توَّاقًا إلى اقتراح أسماء، فاكتفت الكتل النيابيّة في الجولات الأولى باقتراح مواصفاتٍ لرئيس الوزراء الجديد أكثر من اقتراح أسماء محدّدة.

 

ما بعد الانتخابات

لقد نجح النظام السياسيّ في إجراء الانتخابات ضمن نسبِ مشاركةٍ مقبولة على الرغم من مقاطعة القوى المعارضة لها، ونجح في توظيف إجراءاتٍ بدّدت المخاوف لدى معظم الأردنيّين من أنّ الانتخابات ستكون عرضةً لتدخّل أجهزة الدولة. كما أنّ إجراء المشاورات مع البرلمان لتشكيل حكومةٍ هو تغييرٌ لقواعد تشكيل الحكومات وتقاليده. كان نجاح النظام السياسي في دفع برنامجه الإصلاحيّ نتيجةً موضوعيةً لكون ميزان القوى بين النظام السياسيّ وقوى الحراك الشعبيّ والتيارات المعارضة لم يصل على الإطلاق إلى مرحلة تقود النظام السياسيّ للقبول بتنازلاتٍ جوهريّة. كما ساعد على نجاح النظام السياسيّ في تطبيق رؤيته للإصلاح تفتّت قوى الحراك الشعبيّ إلى حركاتٍ جهويّة، وحتّى محلّية، يصوغ كلٌّ منها رؤيته للإصلاح بما تقتضيه أجندته المحليّة، مع غياب التنسيق والتكامل بين هذه الحركات. كما أنّ القوى السياسيّة المعارضة تعوزها وحدة البرنامج مثلما يعوزها التوافق على إستراتيجيات وخطط عمل. إضافةً إلى أنّ جماعة الإخوان المسلمين تعاني مشاكلَ داخليّةً بين أجنحتها، تفجّرت خلال الأشهر القليلة الماضية؛ تضعف حركتها وتهدّد بانقسامها.

ويبقى النظام السياسيّ أمام معضلةٍ هيكليّة تكمن في أنّ شريكه المستقبليّ في عملية الإصلاح السياسيّ هو مجلس النوّاب المفرغُ من السياسة. ولا تتعدّى تمثيليّة هذا المجلس مجموع تمثيل النوّاب لقواعدهم الانتخابيّة التقليديّة، وهو الأمر الذي يجعل المجلسَ غير قادرٍ على تأمين شرعيةٍ إضافيةٍ للنظام السياسيّ، بل من الممكن أن يمثّل عبئًا عليه في حال دخول البلاد أزماتٍ سياسيّة. وعليه، يجد النظام السياسيّ نفسه أمام ضرورة توسيع قاعدة الشراكة مع القوى السياسيّة المعارضة ليضمن نجاح المشروع الإصلاحيّ وإضفاء شرعية عليه.


 

[1] شهدت السنوات العشر الماضية ميلاد إحدى عشرة حكومة، جميعها جرى عليها تعديل واحد أو أكثر، بل إن خمس حكومات تعاقبت خلال أقلّ من سنتين ونصف.

[2] بدأ تطبيق مبدأ الصوت الواحد في الانتخابات النيابية في الأردن منذ عام 1993، إذ أعطى الناخب في دائرة انتخابية ما حقّ انتخاب مرشّح واحد بغضّ النظر عن عدد المقاعد المخصصة للدائرة الانتخابيّة. على سبيل المثال، يحقّ لناخبٍ في دائرةٍ مخصّصٍ لها أربعة مقاعد انتخاب مرشّحٍ واحد.

[3] يخصّص قانون الانتخابات الأردنيّ حصّة 15 مقعدًا للنساء وتسعة مقاعد للمسيحيّين وثلاثة للشركس والشيشان وتسعة للبدو.

[4] حُدّد عدد الدوائر الانتخابية في المملكة الأردنية بـ21 دائرة في عام 1989، وتحوّلت إلى 48 دائرة انتخابية منذ عام 2001. كان هنالك دائرة انتخابية واحدة في كلّ محافظة من المحافظات (باستثناء محافظتي عمان وأربد اللتين ضمّت كلّ واحدة منهما أكثر من دائرة واحدة).

[5] على سبيل المثال، أُعلن فوز المرشّح عن المقعد الشركسي / الشيشاني في محافظة الزرقاء بالتزكية، إذ أجمع مجلس عشائر الشيشان على ترشيحه ودعَم هذا الترشح مجلس عشائر الشركس، فلم يترشّح أحد سواه للمقعد.