تبنّت السّياسة الخارجيّة الروسيّة حيال الرّبيع العربيّ موقفًا شكّل صدمة لكثير من الشّعوب العربيّة، حين اصطفّت موسكو إلى جانب النّظم العربيّة رافضةً الثّورة والحرّية. غير أنّه بمضيّ الأحداث، اضطُرَّت روسيا إلى تغيير مواقفها تكتيكيًّا لصالح نهج آخر أكثر مرونة -يجمع بين الشّيء ونقيضه- تؤكّد فيه روسيا حرصها على "استقرار" الأنظمة العربيّة، لكنّها "ترحّب" بالتّعاون مع قوى المعارضة الثّوريّة.
ورغم أنّ روسيا قد امتنعت في آذار/مارس 2011 عن التّصويت على القرار 1973 الصّادر عن مجلس الأمن بفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا؛ إلاّ أنّ نجاح الثّورة الليبيّة في الإطاحة فعليًّا بنظام القذّافي، جعلها تتصلّب في مواقفها الدّبلوماسيّة لاحقًا، حين شكّلت في تشرين الأوّل/أكتوبر 2011 جبهة رفض مع كلّ من الصّين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا لمشروعِ قرارٍ في مجلس الأمن يدين فيه النّظام السوريّ.
لقد جلبت روسيا بهذا الموقف انتقادَ المراقبين من داخلها قبل خارجها. وتعجّب كثيرون من تقلّب ومراوغة المواقف الروسيّة تجاه ما يجري في العالم العربيّ. وربّما هذه أوّل مرّة في تاريخ العلاقات الروسيّة العربيّة تطالب فيها بعض الشّعوب العربيّة بمقاطعة روسيا اقتصاديًّا وسياسيّا وعسكريّا، بعد أكثر من نصف قرن من التّقدير العربيّ لمواقف روسيا المساندة لقضايا العرب والدّاعمة لهم عسكريّا وسياسيّا.
وتفتح هذه التّطوّرات السّياسيّة الباب أمام تساؤلات عدّة، عن الأسباب الكامنة وراء الموقف الرّوسيّ؛ وعلاقة ما يجري في العالم العربيّ بتوتّرات الوضع الدّاخليّ في روسيا، في ظلّ خوف روسيا من تفشِّي "فيروس" الثّورة العربيّة وبلوغه أراضيها، بعد أن كافحت سنواتٍ طويلة لتحصين شعبها ضدّ فيروسات الثّورات الملوّنة، التي تسرّبت من قبلُ إلى أوروبا الشّرقيّة والقوقاز وآسيا الوسطى.
وسعيًا لاستكشاف تطوّرات الموقف الروسيّ تجاه العالم العربيّ، نقف على عدّة عوامل جيوسياسيّة تفسّر النّهج الروسيّ؛ في مقدّمتها صراع روسيا في الحلبة الدّوليّة لإعادة بناء نظام عالميّ جديد، يكسر الاحتكار الأميركيّ، ويفكّك أطروحة القطب الأحاديّ، ويغيّر من موقع العالم العربيّ في دوائر الأمن الإستراتيجيّ الرّوسيّ. كما يبرز من بين العوامل المحدّدة لموقف روسيا سعيها للتّخفيف من خسائرها الاقتصاديّة جرّاء التّغيير في العالم العربيّ، وإزالة الكوابح العسكريّة التي تَحول بينها وممارسة دور فاعل في فضاء الجغرافيا السّياسيّة للعالم العربيّ. ويضاف إلى ذلك، تخوّف روسيا من أن يؤدّي المدّ الثّوريّ العربيّ إلى عودة الأصوليّة الإسلاميّة إلى الأراضي الروسيّة بعد انتهاء حقبة الحرب الشّيشانيّة-الروسيّة؛ هذا، فضلًا عن تشابكات العلاقات الرّوسيّة-الإسرائيليّة.