العنوان هنا
تقييم حالة 08 يونيو ، 2021

البنية الرمزية وانتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 في لبنان

بول طبر

أستاذ في الجامعة اللبنانية الأميركية. حصل على بكالوريوس في الفلسفة ودكتوراه في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا من جامعة ماكواري في سيدني. درّس عددًا من السنوات في جامعة سيدني وجامعة غرب سيدني التي يعمل فيها باحثًا في معهد الثقافة والمجتمع. له عدة مؤلفات باللغة الإنكليزية، وكتاب في اللغة العربية بعنوان الجاليات العربية في أستراليا. له العديد من الأبحاث المنشورة باللغتين العربية والإنكليزية.

تظاهر عشرات الآلاف من اللبنانيين، في 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، احتجاجًا على المنظومة الحاكمة في لبنان. وتوسعت المظاهرات في مناطق مختلفة، ولاقت صدًى كبيرًا في المدن والأرياف، وشارك فيها مختلف الفئات الاجتماعية والعمرية والطائفية، ذكورًا وإناثًا، واستمرت مدة شهرين، لتعود وتتواصل بعدها لكن بعدد أقل ومشاركة أضعف وبصورة متقطّعة.

ثمة عدة ملاحظات لافتة حول هذه الانتفاضة، الأولى أنها اندلعت على نحو مستقل عن القوى السياسية كلها (التي هي بالأساس محدودة وضعيفة) المعترضة على النظام والسلطة، وعن المنظمات غير الحكومية، على الرغم من احتلال الأخيرة مساحات العمل السياسي المعارض منذ نهاية الحرب الأهلية (1990)، لكن بتركيز عملها على قضايا منفردة وبطريقة مجتزأة. والثانية أنها كانت بعيدة عن اهتمامات المثقفين النقديين في لبنان، وهم قليلو العدد في الأساس؛ إذْ إن غالبيتهم من فئة مثقفي السلطة ومختلف أجنحتها. والثالثة أن عدد المشاركين فيها كان كبيرًا نسبيًا، وأخيرًا كان اتحادُهم المعنوي عبر شعاراتهم ضد السلطة، متجاوزين بذلك الفروق الأهلية المسيَّسة التي كانت تُكبّلهم قبل انتفاضتهم، ونعني بذلك التمايزات والهويات العائلية والمناطقية والطائفية. وكان اختراق الهوية المستجدة للمنتفضين قويًا إلى درجة أنه شمل أحزابًا وقوى السلطة نفسها، حيث غادرها بعض مناصريها وكوادرها والتحق بصفوف المنتفضين.

على الرغم من بعض المكتسبات التي حققها المنتفضون، مثل استقالة حكومة سعد الحريري، بعد ما يقارب من أسبوعين على الانتفاضة، وتنازل السلطة الجزئي عن مطلب تشكيل حكومة سياسية خالصة من داخل النادي السياسي الذي ينتمي إليه أفرادها، فإن تطور الأحداث والوقائع يشير إلى أن سقوط قوى النظام ورموزه والإتيان بقوى سياسية جديدة تُحقّق مطالب المنتفضين لا يزالان بعيدَي المنال. إلّا أن عدم تغيير السلطة بهذا المعنى المباشر ليس بدليل كافٍ على فشل الانتفاضة وعدم إحداثها بعض التحوّلات المهمة في المجتمع اللبناني.

إنجازات الانتفاضة العميقة

من إنجازات انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر المهمة نزع الثقة من رموز السلطة وأحزابها جميعًا لدى قطاعات واسعة من الشعب اللبناني. وتأتي أهمية هذا الأمر في مستويات عدة: أولًا، هو فعل سياسي معارض، نابع من إرادة المنتفضين من دون وساطة سياسية وأيديولوجية وحزبية منظمة (مع الإقرار بضرورة هذه الوساطة أو الوسائط لاختراق مؤسسات الدولة وتغيير النظام تدريجيًا وبصورة تراكمية). ثانيًا، تمحوُر عملية نزع الثقة هذه وتأطيرها بمطالب لم يعهدها تاريخ الاحتجاجات منذ نشوء لبنان الكبير في عام 1920؛ إذ ركّز المنتفضون على قضايا داخلية في الأساس، تتعلق بالنظام وعلاقته بالمواطنين، عبر التركيز على رموز القوى الحاكمة. وتماشيًا مع ذلك، رفع المنتفضون مطالب محاسبة القوى الحاكمة، ودعوا باطّراد إلى ضرورة اعتماد هذا المبدأ، إلى جانب مبدأ مراقبة السلطة وتأمين استقلال السلطة القضائية وتفعيلها. وبذلك تكون انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر قد جعلت النظام السياسي والقوى السياسية التي تُجسّده، وعلاقة هذا النظام وتلك القوى بالشعب محورًا أساسيًا لمطالبها (إذ كانت الاحتجاجات والحركات المعارضة في الماضي تركّز على مطالب طائفية لتحسين شروط المحاصصة، أو على مطالب قومية ووطنية في وجه الغرب الرأسمالي والكيان الصهيوني، كما كانت المطالب الخاصة بالنظام السياسي اللبناني، وحتى المطالب الاجتماعية، مُلْحقةً بها دائمًا). ثالثًا، صدور هذه المطالب مباشرة من قطاعات واسعة من الشعب شاركت في الانتفاضة، وعلى قاعدة الاختبار المباشر لأداء النظام والأزمات التي ولّدها تباعًا. وبناء عليه، نجد أن القناعات السياسية التي جسّدتها تلك المطالب (وغيرها الكثير)، من الصعب أن تتبدد أو تخبو قبل أن يتم تحقيقها عاجلًا أم آجلًا. فما تفرزه تجربة الشعب، يصعب على السلطة أن تُبدّده، مثلما تكون الحال في نزاعها مع الأحزاب التي تقود وتتكلم باسم الحركة الاحتجاجية. لقد أصبحت مطالب المنتفضين هذه جزءًا من وجدانهم السياسي الجديد.

رفعت الانتفاضة مطالب عدة، تضمّنت مطلب إلغاء النظام الطائفي، ومحاربة الفساد في السلطة والإدارة، والدعوة إلى استقلال القضاء. وإضافة إلى تلك المطالب، دعا المنتفضون أيضًا إلى تأمين فرص العمل، ومنع هجرة الشباب، وتحسين الخدمات العامة، وإيقاف "مناهبة المال العام"[1]. كما رفعوا مطالب حماية البيئة (على سبيل المثال، الحملة الوطنية ضد سد "مرج بسري")، وأخرى نسوية (حق المرأة في إعطاء الجنسية لأولادها، وتكافؤ الفرص في التمثيل السياسي)، ودعوا إلى تحسين التعليم الرسمي ودعمه، وأيضًا رفعوا شعارات تحرير النقابات من قبضة الأحزاب السياسية، ودعوا إلى تشكيلات نقابية جديدة ومستقلة، وإلى محاربة العنصرية ضد اللاجئين والعمال الأجانب.

بطبيعة الحال، لم تكن مطالب عديدة ومتنوعة، بالضرورة، محلَّ اتفاق بين الجميع، لكنّ ذلك لم يمنع جميع المشاركين في الانتفاضة من المشاركة والاستمرار فيها والانتساب إليها؛ الأمر الذي يتطلّب بعض التفسير. فما الذي منع المنتفضين من الانسحاب من فضاء الانتفاضة وإنهاء حالة الوحدة في ما بينهم، بصفتهم ضد السلطة القائمة بكل أطرافها، على الرغم من اختلاف المطالب والغايات؟ وتكمن الإجابة في أنه لا بد لهذا الانتماء المشترك إلى فضاء الانتفاضة وروحيتها من أن يكون حصيلةَ عوامل لها مفعول توحيدي يتعدّى بقوته تأثير التباين والاختلافات في المواقف (نضيف هنا أن الوحدة المشار إليها لم تؤدِّ حتى الآن إلى إفراز جبهة سياسية موحَّدة للمنتفضين، مع برنامج سياسي مشترك يكون بمنزلة القاعدة التي ينبغي الانطلاق منها من أجل اختراق السلطة القائمة وتغييرها).

هذه العوامل التي تشكل العمق الموحِّد للمشاركين في الانتفاضة ومؤيديها (علمًا أن المشاركين في الانتفاضة لا يمثّلون جميع المنتسبين إليها؛ إذ إن العديد من المنتسبين قد لا يشاركون في جميع التظاهرات، كما أن العديد من المشاركين فيها قد يكونون مندسّين بغرض اختراقها من السلطة)، هي في الأساس عوامل رمزية، تقوم على قناعة شعبية راسخة ومستَجدَّة بضرورة نزع الثقة بالكامل من السلطة بمختلف فئاتها، وبتبنّي نظرة سياسية بديلة من الواقع السياسي القائم. وتتمحور هذه النظرة أو الرؤية السياسية للمنتسبين إلى الانتفاضة حول اعتماد المواطنة هويةً سياسيةً مشتركة بين الجميع، وتدعو إلى قيام نظام سياسي ديمقراطي علماني يفصل بين السلطات، ويمنع الفساد والزبائنية، ويؤمّن الحياة الكريمة للجميع، ويفرض المساواة في ما بينهم بصفتهم أصحاب حقوق وواجبات متساوية. وتشكّل مواقف المنتفضين ومطالبهم التي وحّدت في ما بينهم ما يصح أن نطلق عليه "البنية الرمزية التحتية" للانتفاضة والمشاركين فيها ومؤيديها منذ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019.

تكوُّن الفضاء الجديد للانتفاضة

لم يتجسّد الفضاء العام الذي أنتجته انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر بالنزول إلى الساحات ورفع الشعارات في وجه السلطة فحسب، بل كان لهذا الفضاء و"بنيته الرمزية التحتية" تجلّيات عدة منوعة؛ أولاها استملاك المنتفضين الساحات العامة وإعادة صياغة الصفة العامة لها، بما ينسجم مع مطالبهم التي أعلنوا عنها؛ ذلك أن "العام" في منظور السلطة لم يكن عامًّا، إذ كانت الساحات مصنّفة طائفيًا وطبقيًا وجندريًا، وحتى جيليًّا. ومع نزول المنتفضين إلى هذه الساحات، جرت عملية استمْلاكها من "عموم" الناس بالمعنى الحرفي للكلمة. فمنذ ولادة الانتفاضة، تمّ القفز فوق جميع الحواجز التي كانت تفرض نظامًا تراتبيًا على الساحات والأماكن "العامة"، وصار يوجد فيها، جنبًا إلى جنب، أفراد من جميع الفئات الاجتماعية، ومن مختلف الطوائف والمناطق، والفئات العمرية، ومن الذكور والإناث. وقد كان ذلك بمنزلة إعلان صريح عن أن الساحات هي ملك لعموم الناس وتحت تصرفهم بالتساوي، وإشهار وتأكيد لمبدأ المساواة بين المواطنين، مكانيًا وفضائيًا. وحتى الفضاء لم يسلم من مفعول "البنية الرمزية التحتية" للانتفاضة.

وفي سياق عملية استملاك الساحات وتحويلها إلى فضاءات عامة فعلية، حدثت أمور عدة، أفضت إلى المزيد من فضح زيف "عمومية" الساحات قبل الانتفاضة. واستخدم المنتفضون الساحات أمكنةً للتعارف فيما بينهم، بصفتهم طلاب حرية وكرامة ومواطنة وحكم نزيه وغير طائفي؛ فنصبوا الخيام ونظّموا فيها الندوات والنقاشات بين المواطنين حول أعطاب النظام والمنظومة الحاكمة، وحول مستقبل لبنان المرتجى. وبذلك تحوّلت الأمكنة العامة إلى فضاءات يتم فيها النقاش الحر والمساءلة والمحاسبة، وفوق كل ذلك، المطالبة بتغيير النظام ووكلائه، بدلًا من أن تكون حاضنةً لسردية السلطة حول "إعادة الإعمار" ومصلحة رأس المال التجاري والسياحي، ونابذةً "أهل البلد"، كما حال ساحة الشهداء ورياض الصلح (في وسط مدينة بيروت) في مرحلة ما قبل الانتفاضة.

أما الشعارات التي أنْشَدها وردّدها المتظاهرون، فاحتوت على كم هائل من السُخرية والتَورية والكناية والتنكيت والشتيمة الموجّهة ضد رموز السلطة وسياساتها، ووجد كثير منها طريقه إلى جدران الأبنية والجسور، وكأن الشوارع والساحات ما عادت كافية للتعبير عن سخط المنتفضين واستنكارهم السلطة ورموزها. ولم تكتفِ اندفاعة المنتفضين إلى معارضة السلطة والدعوة إلى تغييرها بإنتاج خطاب مباشر عن المواطنة والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية والمساواة الجندرية والتمسك بتطبيق القانون واستقلال القضاء ... إلخ فحسب، بل ذهبت أيضًا لتستخدم شتى أنواع اللغة وأدواتها للتعبير عن هذا الخطاب. وساهم العديد من الفنانين في بناء خطاب، بلغة فنية، للمطالب المشار إليها، والتعبير عنها بأساليب فنية مختلفة، مثل النحت والمجسَّمات والشعر والرسم الغرافيتي وإنتاج الأغاني وبثّها عبر "يوتيوب"، والرقص التعبيري. وكانت وسائل التواصل الاجتماعي المنابر المفضلة لنشر تلك الأعمال.

لم يتردد ثوار الانتفاضة في الغناء والرقص وتحضير الطعام وتوزيعه على المشاركين في الساحات، وفي الاحتفال ببعض المناسبات الخاصة التي أصرّ من خلالها أصحاب المناسبة (مثل عقد قران واحتفال بأعياد ميلاد) على أن يتشاركوا مع المنتفضين في الاحتفال بها. وكاد التماهي مع الانتفاضة ضد النظام أن يلغي الحد الفاصل بين "الخاص" و"العام" قيد التشكل.

كان يتم كل ذلك وأكثر تحت راية العلم اللبناني دون غيره؛ ذلك أن المنتفضين لم يريدوا من وراء ذلك نبذ رايات الأحزاب التي ترمز إلى السلطة وهويات القوى التي تتألف منها فحسب، بل أن يؤكدوا، مرة أخرى، رغبتهم في أن يكونوا مواطنين أولًا وأساسًا، لا جماعات أهلية متنافرة ومتنازعة ومستتْبعة. وتجلّى هذا الأمر أيضًا خلال المشاركة في سلسلة بشرية تحت عنوان "إيد بإيد"، امتدت من شمال لبنان إلى جنوبه، مرورًا بالجبل والبقاع، في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بعد مرور 11 يومًا على اندلاع الانتفاضة. وخلال ذلك، لم يرفع المشاركون سوى العلم اللبناني. وفي 22 تشرين الثاني/ نوفمبر 2019، أي أكثر من شهر على اندلاع الانتفاضة، استولى المنتفضون على حق الاحتفال بعيد الاستقلال، ونظّموا عرضًا مدنيًا في ساحة الشهداء (وسط بيروت)؛ الساحة ذاتها التي تستخدمها عادة السلطة للغرض نفسه. وضم العرض 54 فوجًا، كل فوج يتألف من 57 شخصًا. ومثّلت هذه الأفواج مختلف الأفراد والمناطق والاختصاصات والقطاعات والقضايا الاجتماعية التي تشكل محورًا مهمًا في المجتمع اللبناني. وكان هذا الحدث بمنزلة التعبير المادي - الحسي والحيوي، مرة أخرى، عن نجاح المنتفضين في صياغة هوية وطنية فعلية، بدلًا من الهوية الأهلية ما دون الوطنية التي تنتسب إليها السلطة. وبذلك نجحت الانتفاضة أيضًا في اختراق أحد "الطقوس" الرئيسة التي تعتمدها السلطة، أي الاحتفال بعيد الاستقلال الوطني، وبإعادة صياغتها بما يتلاءم مع مطالبها المذكورة أعلاه.

وفي سياق تقييم درجة تأثير "البنية الرمزية التحتية" للانتفاضة ورصد تجلّياتها، نشير أيضًا إلى ما فعلته تلك البنية في أوساط الدياسبورا اللبنانية؛ إذ لم ينتفض العديد من المهاجرين اللبنانيين في عواصم عدة من العالم (باريس وسيدني مثلًا)، انتصارًا للانتفاضة ومطالبها فحسب، بل أقدموا أيضًا على العديد من الخطوات الداعمة لها بالمعنى السياسي - المطلبي (ممارسة الضغط على الدول الموجودين فيها لتأييد مطالب الانتفاضة ودعمها، ومن ضمنها التدقيق الجنائي المالي، والتحقيق الجنائي الدولي في انفجار مرفأ بيروت في 4 آب/ أغسطس 2020، واستعادة الأموال المنهوبة)، كما أنشؤوا الصلات مع بعض المجموعات المشاركة في الانتفاضة، أكان ذلك على المستوى المالي أم السياسي - التنظيمي.

وتتجلّى البنية الرمزية التحتية للانتفاضة بمعانٍ ومفردات لم يألفها الخطاب السياسي والفضاء العام في لبنان من قبل. صحيح أن الكلمات والمفردات التي استخدمها المنتفضون كانت عديدة ومنوعة، لكنها عبّرت جميعها عن معانٍ، لو قُيّض لها أن تتحقق لكانت كفيلة بتغيير النظام والدولة بصورة جذرية، وكذلك الثقافة السياسية السائدة في البلد. ومن أبرز هذه المعاني الجديدة كان مفهوم المواطنة والوطنية اللبنانية العابرة لجميع الولاءات الأهلية. واستندت هذه الجدة إلى موقف صريح من المنتفضين في دعوتهم إلى إلغاء الطائفية والدعوة إلى قضاء مستقل، وتبنّي قانون مدني للأحوال الشخصية والمساواة بين الرجل والمرأة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وفي ما يلي بعض الشعارات التي رفعها المنتفضون:

  • "سأعيش لأجل وطني".
  • "سأتنفس لينبض وطني" (طلاب لبنان).
  • "تسقط المحاكم الدينية" (على حائط الكنيسة المارونية في وسط المدينة).
  • "انتبه!!! وقت نزلت إنت تتظاهر وتثور شلحت [رميت] طايفتك، ما ترجع تلبسها مرة تانية، خلّي حلمك وطنك".
  • "ما بدي وزير طاقة من طايفتي، بدي طاقة".
  • "علمانية-ديمقراطية، عدالة اجتماعية، مساواة".
  • "قانون مدني موحد للأحوال الشخصية".
  • "قضاء عادل أولًا، العفو عن المظلومين".

وإضافة إلى كسر حاجز الخوف ونزع الثقة من الأطراف الحاكمة بلغة تهكّمية، قامت اللغة التي استخدمها المنتفضون على نقد واضح للسلطة ورموزها. فنقرأ مثلًا:

  • "يسقط حكم الأزعر".
  • "Aoun je t’aime en France".
  • "On ne demande pas la lune".
  • "سلاحنا العلم، وسلاحكم القتل والتهجير".
  • "لا ثقة للفاسدين، حلّو عنّا".
  • "الثورة لنا".
  • "بدنا غير أشكال غير ألوان هايك هايك".
  • "لأ وألف لأ، لم تحترق الثورة" (شعار رفع في أثر إحراق مجسم قبضة الثورة في ساحة الشهداء).
  • "راجعة الثورة أقوى وبكل ساحات لبنان" (بعد إحراق القبضة).
  • "الخوف التبعية الطائفية الظلم"، يليها ضربة بالشاكوش، ليظهر من بعد تكسير الكلمات السابقة: ثورة 17 تشرين، ووسم لبنان ينتفض.
  • "قرفنا منكم يا تجار الهيكل".
  • "استقيل يا سئيل [ثقيل/ كريه]".
  • "ثورة حلم حرية".
  • "First they ignore you".
  • "Then laugh at you".
  • "Then they fight you".
  • "Then you win".

وأيضًا نشير إلى انتشار أسلوب التهكّم والسخرية في التعبير عن موقف المنتفضين من النظام والقوى السياسية التي تمثّله، مثل:

  • "أُلغيت الجلسة لعدم اكتمال النصّابين".
  • "هالصيصان شو حلوين، عم بدوروا حول المجلس هربانين" (إشارة إلى عدم تمكّن أعضاء المجلس النيابي من المجيء إلى مبنى المجلس لعقد جلسة في ما بينهم).
  • "هيلا هيلا هيلا هوو ... الأوتستراد سكّر لاحالو [لوحده]" (إشارة تهكم إلى إغلاق الأوتستراد بسبب تساقط المطر وسوء نظام صرف مياه الشتاء العائد إلى فساد وزارة الأشغال).
  • "سرقتوا البلد ماشي، سرقتوا حقوقنا ماشي، سرقتوا مستقبلنا ماشي، بس تسرقوا هيلا هيلا هيلا هوو ما رح نقبل".

أخيرًا، نموذج عن اللغة النسوية التي عُمّمت في الفضاء العام الذي استوطنه المنتفضون:

  • "الثورة أنثى".
  • "المستقبل أنثى".
  • "أجسادنا لنا".

بناء على ذلك، لم تركِّز اللغة والمفردات التي أطلقتها انتفاضة 17 تشرين الأول/ أكتوبر على علاقة الفرد بالسلطة والمجتمع عمومًا، فحسب، داعيةً إلى جعلها علاقة تقوم على الحقوق المتساوية للأفراد والمواطنة بوصفها هويةً مشتركة للجميع، وعلى حق اللبنانيين في مساءلة السلطة والناطقين باسمها ومحاسبتهم، بل ذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك. فإضافة إلى الإشارة إلى مثالب الهويات الأهلية والدعوة إلى نبذها بالنسبة إلى السلطة ورموزها والعمل السياسي عمومًا، طرحت لغة الانتفاضة مطالب تناولت فيها قضايا عدة مميَّزة لفئات من صلب تكوين مجتمع المواطنين المنشود، لم يكن مطلب العدالة الاجتماعية للمستغلين وأصحاب المداخيل المحدودة على رأس هذه المطالب فحسب، بل رفعت الانتفاضة أيضًا مطالب نسوية لنزع السلطة الأبوية عن كاهل المرأة (مع مشاركة بارزة للمرأة)، ومطالب تتعلق بحقوق العمال الأجانب، وأصحاب الحاجات الخاصة، ومطالب بيئية، كما أشرنا سابقًا. والجديد على هذا الصعيد، لم يكن رفع هذه المطالب في حد ذاتها؛ إذ سبق أن رُفِعت تلك المطالب خلال السنوات الماضية، لكن بصفتها مطالب متفرقة، من دون أن يتسنّى لها أن تُدرج في لحظة ثورية عامة، كما حدث منذ انطلاقة الانتفاضة. وهذه هي الجدّة التي طبعت تلك المطالب، والتي جعلت الدعوة إلى إحلال المواطنة هويةً سياسية عامة، بعيدة عن التبسيط والاختزال والعمومية التي تكرّس التفاوت الطبقي والطبقي - الإثني، والتسلط الجندري، وانتهاك البيئة وحقوق أصحاب الحاجات الخاصة.

خاتمة

صنع منتفضو 17 تشرين الأول/ أكتوبر "بنية رمزية تحتية" عميقة، تشكِّل مدماكًا أساسيًا في المسار المفتوح لتغيير النظام اللبناني ووكلائه الرئيسين. ودخلت هذه البنية الحيّة والدينامية وجدان قطاع واسع من اللبنانيين وذاكرتهم في الوطن والمهجر، مما لا يجوز معه الكلام إلَّا على لبنان ما قبل 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، وما بعده.


[1] ورد هذا التعبير في محاضرة لأحمد بيضون لمناسبة مئوية لبنان الكبير، منشورة في مدوّنته: /محاضرتي-في-مئوية-لبنان-الكبير،11/2/2021، في: Abeydounblog.com. واقترح بيضون هذا المصطلح أوَّلَ مرّة في: أحمد بيضون، "المناهبة أو البنية السياسية لمسار الدولة اللبنانية نحو الإفلاس"، جريدة المدن" الإلكترونية، 27/11/2019، في: https://bit.ly/3uFyqdH