قبل أسبوع من بدء محاكمته، تمكَّن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في السابع عشر من أيار/ مايو 2020، من تشكيل حكومته الخامسة بالتحالف مع رئيس تكتل "أزرق أبيض" بيني غانتس. وقد تشكلت هذه الحكومة بعد أن شهدت إسرائيل أزمة سياسية حادة استمرت نحو عامٍ ونصف العام، حكمت خلالها البلاد حكومة انتقالية، وأُجريت ثلاث جولات انتخابية برلمانية، وذلك نتيجة فشل المعسكر الذي يقوده نتنياهو في الحصول على أغلبية برلمانية تُمكّنه من تشكيل حكومة.
خلفيات تشكيل الحكومة
في ضوء الاستقطاب الحزبي والسياسي، ورفض المعسكر المناوئ لنتنياهو المشاركة في حكومة يرأسها، بسبب توجيه لائحة اتهام ضده في ثلاثة ملفات فساد من ناحية، وبسبب الخلاف الشخصي بينه وبين أفيغدور ليبرمان من ناحية أخرى، حلَّ الكنيست نفسه مرتين، وأُعيدت الانتخابات؛ لعدم قدرة أي حزب من الأحزاب السياسية الكبيرة على تشكيل حكومة جديدة. لكنّ نتنياهو نجح، هذه المرة، في تشكيل حكومة برئاسته، بعد أن نقض خصمه، زعيم تكتل "أزرق أبيض"، غانتس، تعهداته المتمثلة بعدم المشاركة في حكومة يرأسها نتنياهو، متذرعًا بأزمة جائحة "كورونا"، وذلك في إثر فشل غانتس نفسه في تشكيل حتى حكومة أقلية تستند إلى دعم القائمة العربية المشتركة في الكنيست من دون أن تنضم إلى الائتلاف الحاكم، ويصمت عنها ليبرمان؛ فقد رفض نائبان متطرفان في قائمة "أزرق أبيض" منح الثقة لحكومة تستند إلى دعم العرب.
بناءً عليه، توصل نتنياهو وغانتس إلى اتفاق لإنشاء "حكومة طوارئ" من أجل التعامل مع الجائحة، لتحل محل حكومة تصريف الأعمال التي يرأسها نتنياهو منذ أكثر من عام، على أن تكون مناصفةً بينهما يتناوبان رئاستها؛ بحيث يرأسها نتنياهو في السنة ونصف السنة الأولى، ثمّ يرأسها غانتس في السنة ونصف السنة الأخرى.
مثَّل هذا الاتفاق ضربةً كبيرة للمعسكر المناوئ لنتنياهو، وأدى إلى إضعاف إمكانية ظهور بديل من حكمه المستمر منذ عام 2009، كما أدى إلى تفكيك تكتل "أزرق أبيض" وخروج حزب "يوجد مستقبل" (بقيادة يئير لبيد) وحزب "تيلم" (بقيادة موشيه يعلون) من التكتل. وقد احتفظ غانتس مع من تبقى معه من أعضاء قائمته البرلمانية (من أصل 33 مقعدًا؛ 15 مقعدًا حصل عليها تكتل "أزرق أبيض" في انتخابات الكنيست الأخيرة) باسم حزب "أزرق أبيض". وهكذا أصبح غانتس رهينةً بين يدَي نتنياهو؛ فهو لن يجرؤ على التسبب في أزمة لأنه يخشى الانتخابات بعد أن نكث بوعوده، وكل ما يهمه حاليًّا هو الوصول إلى المنصب بعد سنة ونصف السنة.
تشكيلة الحكومة وسماتها
تشكلت الحكومة، وفق اتفاق الائتلاف الحكومي بين حزبَي الليكود و"أزرق أبيض"، من 36 وزيرًا و16 نائب وزير ينتمون إلى كتلتين متساويتين؛ فلكل منهما 18 وزيرًا و8 نواب وزير. ويشارك في هذه الحكومة ثمانية أحزاب وبقايا أحزاب؛ خمسةٌ منها تنتمي إلى معسكر الليكود ولها 54 نائبًا في الكنيست، وثلاثةٌ منها تنتمي إلى معسكر "أزرق أبيض" ولها 19 نائبًا في الكنيست. أما أحزاب معسكر الليكود المشاركة في الحكومة، فهي: حزب الليكود (36 نائبًا في الكنيست)، وقد حصل على 14 وزارةً، وحزب شاس (9 نواب) الذي مثّله وزيران، وحزب يهدوت هتوراه (7 نواب) الذي مثّله وزير واحد، وحزب البيت اليهودي (نائب واحد)، ومن ثمّ مثّله وزير واحد، وحزب غيشر (نائب واحد)، ومن ثمّ مثّله وزير واحد أيضًا. أما معسكر "أزرق أبيض"، فهو يتكون من حزب "أزرق أبيض" (15 نائبًا في الكنيست)، وقد حصل على 12 وزارة (له أن يُضيف وزيرين آخرين في الفترة القادمة)، وحزب العمل (3 نواب) بتمثيل وزيرَين، وحزب "ديرخ إيرتس" الذي أسسه يوعز هندل وتسفي هاوزر (نائبان في الكنيست) خلال الفترة الأخيرة، ولهذا الحزب وزير واحد.
تتسم هذه الحكومة، التي فُصِّلت على مقاس نتنياهو وإصراره على البقاء في الحكم بأي ثمنٍ كان، بمجموعة من السمات، أهمها ما يلي:
- هذه الحكومة هي حكومة ضمٍّ وتوسّع؛ إذ من المتوقع أن تقدم على ضم مناطق واسعة من الضفة الغربية المحتلة. وهي حكومة تلقى تشجيعًا أميركيًّا علنيًّا بشأن ضم المستوطنات.
- هذه الحكومة هي أكبر حكومة في تاريخ الحكومات الإسرائيلية على الإطلاق؛ إذ يبلغ عدد وزرائها 36 وزيرًا إلى جانب 16 نائب وزير.
- شهدت هذه الحكومة أوسع عملية دمجٍ وفصلٍ؛ فقد أُنشِئت وزارات جديدة، وسُلخت أقسام من عدّة وزارات، وأُلحقت وزارات أخرى؛ ليس لاعتبارات مهنية، وإنما كـ "رشوة" لإرضاء شركاء الائتلاف الحكومي.
- جرى تغيير قانون أساس الحكومة وقانون أساس الكنيست، وهما قانونان يتمتعان بمكانة الدستور، وذلك من أجل أن تتلاءم التغييرات مع شروط إقامة الائتلاف الحكومي.
- هذه الحكومة هي أول حكومة في تاريخ إسرائيل يشكّلها رئيس حكومة توجد لائحة اتهام ضده، ويُفترض أن تبدأ محاكمته في الأسبوع القادم.
- رافق تشكيل الحكومة انشقاقات حزبية واسعة كان سببها الجهد الكبير الذي بذله نتنياهو في إقامة ائتلاف يكفيه لتشكيل حكومة تنقذه من الإدانة القضائية. فقد جرى تفكيك قائمة "أزرق أبيض" وانشق غانتس عنها، وانشق عضوَا الكنيست هندل وهاوزر عن حزب "تيلم" في قائمة حزب "أزرق أبيض" الذي يقوده يعلون، وشكَّلا حزب "ديرخ إيرتس"، وانشق رئيس حزب "البيت اليهودي" رافي بيرتس عن قائمة "يمينا" (إلى اليمين)، في حين انقسم تحالف "العمل- غيشر- ميرتس" إلى ثلاثة أحزاب.
تنازلات نتنياهو ومكاسب غانتس
لقد كان هدف نتنياهو من إجراء ثلاثة انتخابات في غضون عامٍ واحد هو الحصول على أغلبية في الكنيست تُمكِّنه من تشكيل حكومة تقتصر على معسكره، وذلك لسَنِّ قوانين تضمن له حصانةً من أجل منع تقديمه للمحاكمة، إضافةً إلى تمكينه من التأثير في تركيبة المؤسسات ذات الصلة بمحاكمته وتحجيمها؛ مثل المحكمة العليا، والادعاء العام، والمستشار القضائي للحكومة، والشرطة. لكنّ فشله في الحصول على الأغلبية البرلمانية المطلوبة دفعه إلى تقديم إغراءات كبيرة إلى غانتس حتى يُقنعه بالانضمام إلى حكومة برئاسته، وقد كان أبرز هذه الإغراءات متمثلًا بتناوب رئاسة الحكومة تلقائيًّا، من دون الرجوع إلى تصويت جديد في الكنيست، وتشكيل حكومة و"كابينت" سياسي أمني مناصفةً بينهما، إلى جانب منح حزب "أزرق أبيض" وزارات الأمن والخارجية والقضاء ووزارات مهمة أخرى، فضلًا عن توزيع رئاسة معظم لجان الكنيست مناصفةً بين حزبيهما.
ومع ذلك، نتنياهو يدرك أن مجرد قبول غانتس المشاركة في الحكومة، حتى في حال كونها حكومة تناوب - وهو أمر مشكوك في حصوله - سيقضي على إمكانية بروز حزب غانتس، أو إمكانية بروز غانتس نفسه بوصفه بديلًا من نتنياهو. وقد اكتسب نتنياهو خبرةً واسعة، خلال العقد الأخير، في المناورة السياسية، كما تمكَّن، في أغلب الأحيان، من إزاحة بدلائه المحتملين عبر إغرائهم بمناصب في حكومته، مثلما فعل مع كل من شاؤول موفاز رئيس حزب كديما، وإيهود باراك رئيس حزب العمل، ومثلما فعل أيضًا مع تسيبي ليفني ويئير لبيد. وفي الوقت نفسه، حرص نتنياهو على منع ظهور بديل منه داخل الليكود، فأحاط نفسه بأعضاء لا يمثلون تهديدًا لزعامته، وكان المعيار الأساس في تعيين وزرائه من الليكود وترقيتهم هو مدى ولائهم له شخصيًّا، ومدى استعدادهم للدفاع عنه (خاصةً في قضايا الفساد)، ومدى مهاجمتهم للجهاز القضائي وللادعاء العام وللمحكمة العليا وللشرطة.
لقد اضطر نتنياهو إلى التنازل عن وزارة القضاء لمصلحة حزب "أزرق أبيض"، رغم أهميتها بالنسبة إلى قضية محاكمته، بيد أنه ضَمِن، في المقابل، أمرين مهمين مرتبطين بمحاكمته. أوَّل هذين الأمرَين هو الحق في رفض تعيين أي شخص في منصب المستشار القضائي للحكومة وفي منصب الادعاء العام. وهذان المنصبان على علاقة مباشرة بقضية محاكمته التي تبدأ في 24 أيار/ مايو 2020، ولا سيما بشأن البتِّ في مسألة التوصل إلى حل وسط بين الادعاء العام ونتنياهو؛ إذا رأى نتنياهو أنّ مصلحته تقتضي ذلك، وأن شروط هذا الحل في مصلحته أيضًا. أما ثانيهما فمفاده أنّ نتنياهو ضَمِن، وفق اتفاق الائتلاف الحكومي مع غانتس، أن يكون ثلاثة من بين تسعة أعضاء في لجنة تعيين القضاة من أنصاره الذين يريدون إحداث تغيير في تركيبة المحكمة العليا في إسرائيل لمصلحة القضاة الأكثر يمينيةً وتدينًا، وهذا يعني أن لنتنياهو الحق في رفض تعيين أيّ قاضٍ للمحكمة العليا بسبب خلفيته وميوله؛ لأنّ تعيين أيّ قاضٍ يتطلب موافقة سبعة أعضاء على الأقل.
حكومة ضم وتهويد
يبدو أن نتنياهو مصمم على أن تقوم حكومته في الشهور القادمة بضم مناطق واسعة من الضفة الغربية المحتلة، وقد أكد ذلك قبل حملته الانتخابية، وأثناءَها، وبعد انتهائها، وبعد تشكيله الحكومة أيضًا. ويُعد هذا الأمرُ جوهرَ مشروع نتنياهو في ما يخص القضية الفلسطينية منذ وصوله إلى الحكم (عام 2009)، لكنّ موقف إدارة باراك أوباما مثَّل العائق الرئيس الذي حال دون تنفيذه. بيد أن وصول دونالد ترامب إلى الحكم في الولايات المتحدة الأميركية غيَّر المشهد، فقد تبنى هو وإدارته موقف اليمين الإسرائيلي المتطرف بشأن القضية الفلسطينية، ولا سيما في ما يخص الضم والاستيطان.
في ظل وضعٍ عربي وفلسطيني مهشمٍ، يعتقد نتنياهو أن إسرائيل تمتلك فائضًا من القوة من شأنه تمكينها من الإقدام على ضم مناطق واسعة من الضفة الغربية المحتلة، في حال اتفاقها مع إدارة ترامب على توقيت الضم وحجمه وتفاصيله. يضاف إلى ذلك أنه ثمة قناعة لدى نتنياهو تتلخَّص في أن هذا الاتفاق بات في متناوله.
لقد سعى نتنياهو، بعد تفاهمه مع إدارة ترامب وتبنِّيها موقفه اليميني المتطرف، إلى خلق إجماع (أو شبه إجماع) في المجتمع الإسرائيلي، وبين قواه السياسية، ويتمثّل ذلك بإمكانية المُضيِّ قُدمًا في موضوع الضم؛ فثمة انقسام في المجتمع الإسرائيلي وبين القوى السياسية بخصوص حجم الضم، وتوقيته، وما إذا كان يجب القيام به أحاديًّا من طرف واحد.
ينص اتفاق الائتلاف الحكومي بين حزبَي الليكود و"أزرق أبيض" على أن يتم اتخاذ القرارات وسَنّ القوانين بالتفاهم بين نتنياهو وغانتس، وأن يكون لكل منهما الحق في تعطيل أي قرار تتخذه الحكومة، بيد أن نتنياهو استطاع أن يستثني من هذا التفاهم موضوع ضمَّ مناطق في الضفة الفلسطينية المحتلة؛ بمعنى أنّ من حق حزب "أزرق أبيض" معارضة الضم، ولكن ليس من حقه منع اتخاذ هذا القرار. كما اتفق نتنياهو وغانتس على أن تتم عملية اتخاذ القرارات بشأن الضم، أو عدم الضم، في الكابينت السياسي الأمني المصغر (16 وزيرًا)، وذلك بعد الاستماع إلى تقدير موقف المؤسسة العسكرية والأمنية في هذه القضية، ومن ثمّ يتم عرضه على الحكومة الموسعة لمناقشته. وفي حال إقرار الحكومة الضم، يجري عرض الأمر على الكنيست الذي تتوافر فيه أغلبية لتمرير مثل هذا القرار، فثمة أيضًا أحزاب في المعارضة تؤيد الضم (مثل حزبَي ليبرمان ويعلون). ومن غير الواضح، حتى الآن، إذا ما كان قرار الضم الذي ستتخذه الحكومة الإسرائيلية سيشمل منطقة الأغوار ومنطقة شمال البحر الميت وكل الكتل الاستيطانية، أو أنه سيشمل جزءًا أو أجزاءً منها.
خاتمة
يتجه نتنياهو، لأسباب أيديولوجية – سياسية، وأخرى مرتبطة بمحاكمته، إلى ضم أجزاء واسعة من الضفة الفلسطينية المحتلة قبل انتهاء ولاية الرئيس ترامب في تشرين الثاني/ نوفمبر 2020، وهو يعتقد أن إسرائيل - في حال حصوله على تأييد الإدارة الأميركية بخصوص توقيت الضم وتفاصيله - لديها من الجرأة والقوة ما يمكّنها من الإقدام على عملية الضم، بغضِّ النظر عن موقف الفلسطينيين والعرب وسائر العالم. وقد ثبت أنّ قرار ضم القدس والجولان المحتلَّين قد مرَّ أثناء ظروف عربية ودولية كانت "أفضل" بالنسبة إلى سورية والفلسطينيين. وها هي الإدارة الأميركية توافق على الخطوتين بأثر تراجعي (هذا لا يعني بالطبع أن سورية والشعب الفلسطيني قد تخلَّيَا عن حقهما، كما أنه لا يعني أن الضم أصبح شرعيًّا). ويراهن نتنياهو على قدرة إسرائيل على احتواء أي رد فعل فلسطيني، في ضوء الأوضاع العربية والإقليمية والدولية، حيث العالم مشغولٌ بالتعامل مع جائحة كورونا. وتتمثّل تقديراته بأنّ رد فعل الدول العربية قد لا يخرج عن مستوى بيانات الاستنكار، وهو أمرٌ تستطيع إسرائيل أن تتعايش معه.
لكن إذا أظهرت الدول العربية والسلطة الفلسطينية استعدادها للذهاب أبعد من ذلك، بما في ذلك اتخاذ إجراءات فعليه لرفض قيام إسرائيل بالضم، على نحو يشمل قطع العلاقات معها (السرّية والعلنيّة)، ووقف التنسيق الأمني الفلسطيني، ووقف التعاملات التجارية، وخاصة ما يرتبط منها باستيراد الغاز وتكنولوجيا الاتصال، فمن المؤكّد أن نتنياهو سوف يراجع حساباته حينئذٍ؛ ومن ثمّ لا يتجرأ على فعله هذا.