العنوان هنا
تقدير موقف 29 يناير ، 2013

الانتخابات الإسرائيليّة: نتنياهو باقٍ في الحكم مع تراجع قوّته

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

مقدمة

منذ الانتخابات البرلمانيّة الأولى في إسرائيل وحتّى اليوم، لم يحصل أيّ حزبٍ إسرائيليٍّ على أغلبية مقاعد البرلمان وحده. لذلك كانت جميع الحكومات في إسرائيل - منذ تأسيسها وحتّى اليوم - حكوماتٍ ائتلافيّةً مشكَّلةً من عدّة أحزابٍ. ومنذ عقودٍ عدّةٍ، انقسمت الخريطة الحزبيّة الإسرائيليّة عمومًا إلى معسكريْن أساسيّيْن متنافسيْن: ما يُسمّى بـ "المعسكر القومي" الذي يشمل أحزاب اليمين واليمين الفاشي والأحزاب الدّينيّة اليهوديّة من ناحيةٍ، وما يُسمّى بـ "معسكر أحزاب اليسار والوسط" من ناحيةٍ أخرى. ومن الملاحَظ أنّ الحدود بين المعسكرين ليست ثابتةً على الدّوام. ففي عشيّة الانتخابات، تشتدّ المنافسة بين المعسكرين، ولكنْ بعد ظهور نتائجها، غالبًا ما يسعى رئيس الحزب الذي يكلَّف بتشكيل الحكومة إلى ضمّ أحزابٍ من المعسكر الآخر إلى حكومته الائتلافيّة.

لقد قدّم نتنياهو موعد الانتخابات بمبادرته، معتقدًا أنّ الوقت مناسبٌ لكي يحافظ على أكثريّته المريحة في البرلمان لدورةٍ أخرى. لكنّ نتائج الانتخابات الأخيرة للكنيست قد أسفرت عن تراجع قوّة "اللّيكود"، وفوز "المعسكر القومي" الذي يقوده رئيس "حزب اللّيكود" بنيامين نتنياهو بأغلبيّةٍ ضئيلةٍ في الكنيست. فقد حصلت أحزاب هذا المعسكر  مجتمعةً على 61 مقعدًا في الكنيست، من مجموع عدد مقاعده البالغة 120 مقعدًا، وذلك على خلاف ما كانت تتوقّعه استطلاعات الرأي العامّ طيلة حملة الانتخابات من حصول هذا المعسكر على الأغلبيّة المريحة أو الكبيرة. وستمكّن هذه النّتيجة رئيسَ "حزب اللّيكود" بنيامين نتنياهو من البقاء في الحكم، ومن تشكيل الحكومة الائتلافيّة القادمة.

أمّا مفاجأة الانتخابات الأساسيّة، فتمثّلت في حصول حزب "يوجد مستقبل" - الذي أسّسه مؤخّرًا الصّحفي يائير لبيد، وهو يتموقع في وسط الخريطة الحزبيّة الإسرائيلية - على 19 مقعدًا، ليصبح بذلك ثاني أكبر حزبٍ في الكنيست، وليحتلّ أهميّةً كبيرةً للغاية في عمليّة تشكيل الحكومة القادمة. ومن المتوقَّع أن يصبح حزب "يوجد مستقبل" الشّريك الأساس لتحالف "اللّيكود - بيتنا" في الحكومة القادمة.

سنعالج في تقدير الموقف هذا العوامل التي أثّرت في نتائج انتخابات الكنيست، لاسيّما تلك التي ساهمت في تراجع قوة تحالف "اللّيكود - بيتنا" من ناحيةٍ، وصعود قوّة حزب "يوجد مستقبل" من ناحيةٍ أخرى. وسنتطرق إلى طبيعة الحكومة الائتلافيّة التي يسعى نتنياهو إلى تشكيلها.

اتّسمت الانتخابات التّاسعة عشرة للكنيست بعدّة ميزاتٍ، كان أبرزها:

 1 - عدم هيمنة أجندةٍ محدَّدةٍ عليها؛ إذ تعدّدت مواضيع المعركة الانتخابيّة وفق الأجندات المختلفة للأحزاب المشاركة فيها.

 2 - غياب القضيّة الفلسطينيّة والاحتلال الإسرائيلي من أجندتها، وهي المرّة الأولى التي تغيب  فيها القضيّة الفلسطينيّة بهذه الصّورة عن انتخابات الكنيست منذ عدّة عقودٍ.

 3 - بدا "المعسكر القومي" متماسكًا وموحَّدًا ومجمِعًا على قيادة "حزب اللّيكود" له، وعلى أنّ بنيامين نتنياهو هو مرشَّحه لرئاسة الحكومة.

 4 - احتدام الصِّراعات والمشاحنات بين صفوف أحزاب اليسار والوسط، واستمرار التهجّم  المتبادَل في ما بينها طيلة فترة الحملة الانتخابيّة، وفشلها في التّنسيق بينها بشأن أيّ قضيّةٍ كانت وفي التوّصل إلى اتِّفاقٍ على مرشَّحٍ لها لرئاسة الحكومة.

  وقد سجّلت هذه الانتخابات ارتفاعًا في نسبة المقترعين مقارنة بالانتخابات السّابقة في عامي 2009 و2006. فقد بلغت نسبة المشاركين فيها 67.8% من ذوي حقّ الاقتراع، مقابل 64.7% في انتخابات 2009 و63.5 في انتخابات 2006. وبلغت نسبة مشاركة المواطنين العرب الفلسطينيّين في هذه الانتخابات داخل الخطّ الأخضر 57.9% من مجمل ذوي حقّ الاقتراع العرب، في مقابل 53% في انتخابات الكنيست عام 2009؛ أي أنّ الفارق في نسبة تصويت الجمهور العربي قد تقلّص مقارنةً بالمعدّل العامّ. وإذا أمعنّا النّظر وأخذنا بعين الاعتبار أمرين، أوّلهما: وجود ما يقارب نصف مليونٍ من اليهود الإسرائيليّين الذين يعيشون بشكلٍ دائمٍ خارج إسرائيل، والذين يُعَدّون مواطنين إسرائيليّين ويدخلون في حساب ذوي حقّ الانتخاب، ولكنّهم لا يستطيعون المشاركة في الانتخابات في أماكن وجودهم خارج إسرائيل وفق القانون الإسرائيلي (وهذا ينطبق أيضًا على العرب المسجّلين في سجلّ النّاخبين، ويعيشون في الخارج بسبب العمل أو الدِّراسة)، وثانيهما: التّباين بين نسبة المقترعين اليهود ونسبة المقترعين العرب في إسرائيل؛ اتّضح لنا أنّ نسبة اليهود الإسرائيليّين الذين يعيشون في إسرائيل والذين شاركوا في انتخابات الكنيست، تصل إلى ما يقارب 76% من مجموع اليهود الإسرائيليّين الذين يعيشون في إسرائيل. وهذه نسبةٌ مرتفعةٌ بالنّظر إلى كلّ المعايير. ومن المرجَّح أنّ ارتفاع نسبة المشاركة في الانتخابات قد خدمت المعسكر المناوئ لنتنياهو، لكنّها لم تكن كافيةً للإطاحة به.

حصل تحالف "اللّيكود - بيتنا" على 31 مقعدًا (20 مقعدًا لـ "حزب اللّيكود" و11 مقعدًا لـ "حزب إسرائيل بيتنا")، في مقابل 42 مقعدًا حصل عليها الحزبان في انتخابات الكنيست السّابقة. وكانت نتيجة بقيّة حلفاء نتنياهو في "المعسكر القومي" كالتّالي: حصل حزب "البيت اليهودي" على 12 مقعدًا، و"حزب شاس" على 11 مقعدًا، وحزب "يهدوت هتوراه" على سبعة مقاعد. أمّا معسكر اليسار والوسط فكانت نتائجه كالتّالي: حصل حزب "يوجد مستقبل" - الذي خاض للمرّة الأولى غمار الانتخابات- على 19 مقعدًا، أمّا "حزب العمل" فحصل على 15 مقعدًا مقابل 13 في انتخابات الكنيست السّابقة. وحصل "حزب الحركة" الذي أسّسته تسيبي ليفني مؤخَّرًا على 6 مقاعد، في حين حصل "حزب ميرتس" على 6 مقاعد مُضاعِفًا بذلك عدد مقاعده مقارنةً بالانتخابات السّابقة. وتمكّن "حزب كاديما" بزعامة شاؤول موفاز بصعوبةٍ من تجاوز نسبة الحسم، وحصل على مقعدين فقط مقابل 28 مقعدًا في انتخابات الكنيست السّابقة. وفي ما يتعلّق بنتائج الانتخابات في صفوف النّاخبين العرب داخل الخطّ الأخضر، جاءت النّتائج على النّحو التّالي: حصل "حزب التجمّع الوطني الدّيمقراطي" على ثلاثة مقاعد، وحصلت "الجبهة الدّيمقراطيّة للسّلام والمساواة" المكوَّنة من "الحزب الشّيوعي الإسرائيلي" وحلفائه الجبهويّين على أربعة مقاعد. وحصلت "القائمة العربيّة الموحَّدة"، المكوَّنة من "الحركة الإسلاميّة الجنوبيّة" و"الحركة العربيّة للتّغيير" و"الحزب الدّيمقراطي العربي"، على أربعة مقاعد.


عوامل تراجع تحالف "اللّيكود - بيتنا"

تراجعت نسبة المصوِّتين لصالح تحالف "اللّيكود - بيتنا" في هذه الانتخابات بـ 25% عن تلك التي حصل عليها هذان الحزبان في الانتخابات السّابقة. وقد ساهمت مجموعةٌ من العوامل في إضعاف تحالف "اللّيكود - بيتنا"، كان أهمّها:

1 - استمرار غلاء المعيشة وارتفاع أسعار المنازل، وتفاقم تدنِّي أوضاع الطبقتين الوسطى والدّنيا في المجتمع الإسرائيلي، وفشل حكومة نتنياهو في حلّ المشاكل الاقتصاديّة التي تعاني منها شرائح واسعةٌ في المجتمع الإسرائيلي.

2 - فشل نتنياهو في فرض الأجندة الأمنيّة - العسكريّة على حملة الانتخابات، وهي المجال الذي يتفوّق به نتنياهو على منافسيه.

3 - فشل العدوان الإسرائيلي على غزّة - ذاك الذي بادرت إليه حكومة نتنياهو عشيّة الانتخابات - في تحقيق الأهداف المرجوّة منه في نظر الرّأي العامّ الإسرائيلي، وهو ما انعكس سلبًا على موقف النّاخب الإسرائيلي من نتنياهو.

4 - قاد تشكيل قائمةٍ انتخابيّةٍ مشتَرَكةٍ بين حزبيْ "اللّيكود" و"إسرائيل بيتنا" (بما في ذلك نوعيّة تركيبتها الإثنيّة)، إلى خسارة هذا التّحالف أوساطًا واسعةً من أنصار الحزبيْن، كان من المتوقَّع أن تصوِّت لصالح أحد الحزبيْن في حالة خوض كلٍّ منهما الانتخابات على انفرادٍ. وقد تقلّص عدد المرشَّحين من اليهود الشّرقيين في قائمة "اللّيكود - بيتنا" الانتخابيّة بشكلٍ كبيرٍ ولافتٍ للانتباه، وهيمن عليها اليهود الأشكناز والمهاجرون الرّوس هيمنةً واضحةً. وقد ساعد هذا الوضعُ "حزبَ شاس" (وحزبين دينيَّيْن "حريديين" آخرين لم ينجحا في اجتياز نسبة الحسم والحصول على تمثيلٍ في الكنيست، ولكنّهما حصلا سويّةً على ما يعادل ثلاثة مقاعد تقريبًا) على استقطاب اليهود الشّرقيّين المتديِّنين والتّقليديّين. فقد تراجعت قوّة "حزب اللّيكود" و"إسرائيل بيتنا" في الغالبيّة العظمى من "بلدات التّطوير" البالغة 27 بلدة - والتي يمثِّل اليهود الشّرقيّون في معظمها أغلبيّةً، وكانت تُعَدّ معقلًا مهمًّا لحزب اللّيكود - من 46.6% في انتخابات الكنيست عام 2009، إلى 33% في الانتخابات الحاليّة.

ومن جهةٍ أخرى تمكّن حزب "البيت اليهودي" المتطرّف (وهو حزبٌ قوميٌّ دينيٌّ متطرِّفٌ تشكّل من تحالف "حزب المفدال القومي" الدّيني التّاريخي، مع حزبيْ "تكوماه" و"موليدت" القوميّيْن الفاشيَّين) بقيادة زعيمه الجديد نفتالي بنت، من استقطاب المستوطنين وقطاعٍ من اليهود المتديِّنين الصّهيونيّين، لاسيّما الأشكناز منهم، الذين درجوا على التّصويت لصالح "اللّيكود". وإلى جانب ذلك، أدّى نجاح عددٍ من غلاة المتطرِّفين في الانتخابات التّمهيديّة لـ "حزب اللّيكود" في الحصول على أماكن مضمونة في قائمة مرشَّحيه لانتخابات الكنيست، إلى انصراف قطاعٍ من جمهور "اللّيكود" العلماني "المعتدل" من التّصويت لصالح "اللّيكود" إلى التّصويت لفائدة حزب "يوجد مستقبل" وربّما لفائدة أحزابٍ أخرى.

5 - الخشية من استمرار توتّر العلاقات بين نتنياهو والإدارة الأميركيّة، ومن أن تؤدِّي إعادة انتخاب نتنياهو إلى الإساءة للعلاقات الإسرائيليّة - الأميركيّة وإلى تعرّض إسرائيل للعزلة الدّولية.

6 - فشل نتنياهو في منح الإسرائيليّين أي أملٍ في حلّ القضايا الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. وفشله في معالجة مطلب "الخدمة العسكريّة للجميع" الذي رفعه حزب "يوجد مستقبل"؛ ذاك المطلب الذي حظي بشعبيّةٍ كبيرةٍ للغاية في المجتمع الإسرائيلي، وهو موجَّه أساسًا ضدّ اليهود المتديِّنين "الحريديم" الذين لا يقوم شبابهم بالخدمة العسكريّة في تقليدهم بحجّة دراسة التّوراة. وهؤلاء ممثَّلون في الكنيست بحزبيْ "شاس" و"يهدوت هتوراه"، حليفيْ نتنياهو.


"يوجد مستقبل" - مفاجأة الانتخابات

على خلاف نتنياهو، لاءَم يائير لبيد رئيس حزب "يوجد مستقبل" خطابَه السِّياسي وبرنامج حزبه مع ما يريده الجمهور الإسرائيلي، ومع ما تبتغيه الشّرائح الوسطى والعليا من الطبقة الوسطى الأشكنازيّة بالخصوص، علاوةً على ما يريده جيل الشّباب. وقد سعى من خلال ذلك إلى بثّ الأمل في المستقبل، في مقابل ما كان لدى نتنياهو من جمودٍ وانسداد أفقٍ. فقد طرح هذا الحزب (الذي كان قد تأسّس في نيسان / أبريل 2012) أثناء حملته الانتخابيّة شعاراتٍ براقّةً ومطالب عامّةً تحظى بتأييد غالبيّة الإسرائيليّين "العلمانيّين"؛ مثل "المساواة في الأعباء" و"الخدمة العسكريّة للجميع" الموجَّهة أساسًا ضدّ اليهود المتديِّنين "الحريديم" وضدّ العرب في إسرائيل. وشدّد على مطالب تغيير الأولويّات في إسرائيل، وعلى تحسين أوضاع الطبقة الوسطى، وحلّ مشكلة السّكن، وتخفيف الأعباء المثقِلة كاهل الطّبقة الوسطى، وتحسين الجهاز التّعليمي، ومكافحة الفساد، وتقليص عدد الوزارات في الحكومة الإسرائيليّة، وتغيير النِّظام السِّياسي، ووضع دستورٍ لإسرائيل. أمّا في ما يخصّ القضيّة الفلسطينيّة، فقد تمَوْقع يائير لبيد في لبّ الإجماع الصّهيوني؛ إذ دعا إلى احتفاظ إسرائيل بـ "الكتل الاستيطانيّة" في الضفّة الغربيّة، واستمرار الاستيطان فيها، وعدم الانسحاب من القدس الشّرقية المحتلّة، والتّفاوض مع الفلسطينيّين على إقامة دولةٍ فلسطينيّةٍ في أجزاء من المناطق الفلسطينيّة المحتلّة في عام 1967، وذلك بداعي الحفاظ على يهوديّة إسرائيل (أمّا رفض حقّ العودة، فهو أمرٌ مُسلَّمٌ به لدى الأحزاب الصّهيونيّة كافّةً).

يمثِّل حزب "يوجد مستقبل" - من حيث فكره وبرنامجه الاقتصادي وتركيبة قيادته - مصالحَ الشّرائح الطبقيّة الوسطى العليا، والعليا في المجتمع الإسرائيلي. وقد أظهرت نتائج الانتخابات أنّه قد حصل على أصواته بالأساس (علاوةً على أصواتٍ من الجيل الشابّ) من اليهود الأشكناز العلمانيّين، الذين ينتمون إلى الشّرائح العليا من الطّبقة الوسطى، ويسكنون عمومًا في المدن والبلدات الغنيّة بإسرائيل. ومن غير المؤكَّد أن يحافظ هذا الحزب  على قوّته في المستقبل، أو أن يتمكّن من التمسّك بمطالبه التي انتُخِب من أجلها في مفاوضات الائتلاف الحكومي مع حزب "اللّيكود - بيتنا". وعلى أيّ حالٍ، فإنّ ظاهرة إنشاء حزبٍ وسطيٍّ علمانيٍّ قوميٍّ يدعو إلى التّغيير، ليست جديدةً في إسرائيل؛ فقد تأسّست في الماضي العديد من أحزاب الوسط، كان أشهرها "الحركة الدّيمقراطية للتّغيير" (داش) التي أسّسها الجنرال يغآل يادين وخاضت انتخابات 1977 وحصلت على 15 مقعدًا في الكنيست، و"حزب شينوي" (التّغيير) الذي خاض الانتخابات في عام 2003 تحت قيادة يوسي لبيد (والد يائير لبيد رئيس حزب "يوجد مستقبل") وحصل على 15 مقعدًا في الكنيست. وغالبًا ما قادت هذه الحركات انقلابًا في الخارطة السِّياسية، بتحالفها مع اليمين. وأشهر هذه الانقلابات انتقال السّلطة عام 1977 - لأول مرّة - من "حزب العمل" إلى "اللّيكود" برئاسة بيغن؛ وذلك بقيام تحالفٍ بين حركة "داش" الوسطيّة وهذا الحزب. وقد مثّلت هذه الأحزاب مصالح الطّبقة الوسطى، التي استثمرت مزاجًا شعبيًّا عامًّا، وحوّلته إلى قوّةٍ سياسيّةٍ في الكنيست، لكنّها فشلت دائمًا في الحفاظ على حظوظها لمدّةٍ تتجاوز الدّورتيْن.   


مصاعب تشكيل الحكومة

يهدف نتنياهو إلى إقامة حكومةٍ واسعةٍ من أجل ضمان استقرارها. وسيباشر رسميًّا إجراء مفاوضاتٍ لإقامة الحكومة، بعد أن يكلِّفه شمعون بيرس قريبًا بتشكيلها. وتبلغ الفترة الزمنيّة التي يخصِّصها القانون له من أجل تشكيل الحكومة وعرضها على الكنيست لنيل ثقته، 42 يومًا. من النّاحية النّظريّة، توجد خياراتٌ عدّةٌ متاحةٌ أمام نتنياهو في ما يتعلّق بشركائه في الائتلاف الحكومي. فهنالك إمكانيّةٌ لتشكيل حكومةٍ تقتصر على معسكره، وتستند إلى 61 عضو كنيست فقط. ولكنّ هذا هو آخر خيارٍ يرغب نتنياهو فيه؛ لأنّه سيصبح في هذه الحالة عرضةً لابتزاز الأحزاب الشّريكة في الحكومة، وابتزاز أيِّ عضو كنيست في معسكره. هذا فضلًا عن أنّ هذه الحكومة المتطرِّفة، ستواجه مصاعب على المستوى الدّولي. لكنّ وجود هذا الخيار، من شأنه أن يمنحه بعض القوّة من أجل التّفاوض مع الأحزاب الأخرى التي يعمل على ضمّها إلى حكومته. ويسعى نتنياهو إلى التّفاوض أوّلًا مع حزب "يوجد مستقبل"، بغية التوصّل معه إلى اتفاقٍ بشأن الخطوط العريضة للحكومة القادمة؛ وذلك حتّى يشكِّل مع "اللّيكود - بيتنا" محورًا صلبًا للحكومة الائتلافيّة. ومن المرجَّح أن يقوم نتنياهو في الوقت نفسه بالتّفاوض مع جميع الأحزاب اليهوديّة الأخرى، من أجل ضمِّها إلى حكومته، باستثناء حزبيْ "العمل" و"ميرتس" اللّذين أعلنا رفضهما المشاركة في الحكومة.

 ومن المتوقَّع أن تشهد مفاوضات تشكيل الحكومة مع الأطراف المختلفة أزماتٍ حقيقيّةً وأزماتٍ مفتعلةً، قبل التوصّل إلى تشكيلها. وستواجه هذه المفاوضات جملةً من المعضلات والمصاعب الجدّية التي ستؤثِّر في نوعيّة الأحزاب المشاركة في الحكومة، وفي مدى اتِّساع الائتلاف الحكومي. ويأتي في مقدِّمة هذه المعضلات التّناقض القائم بين المطلب الأساس لحزب "يوجد مستقبل" وحزبيْ "شاس" و"يهدوت هتوراه" الدّينيَّيْن، بشأن "الخدمة العسكريّة للجميع". وهو مطلبٌ يُصِرّ عليه حزب "يوجد مستقبل"، ويعارضه بشدٍّة حزبا "شاس" و"يهدوت هتوراه". ويصعب الآن توقّع إمكانيّة التوصّل إلى حلٍّ وسطٍ بين الطّرفين بشأن هذه المعضلة.

 ومن ناحيةٍ أخرى، هناك أرضيّةٌ مشترَكَةٌ صلبةٌ بين كلٍّ من "اللّيكود - بيتنا" وحزب "يوجد مستقبل" وحزب "البيت اليهودي" في القضايا الاقتصاديّة. فثلاثتها أحزابٌ رأسماليّةٌ تطالب بالسّوق الحرّ وتقليص تدخّل الدولة في الاقتصاد. وهي تمثِّل مصالح الشّرائح العليا في المجتمع الإسرائيلي. وعلى الرّغم من ذلك، يُبدي نتنياهو تحفّظًا وخشيةً من اعتماد ائتلافه الحكومي على حزب "البيت اليهودي". فهو يدرك أنّ هذا الحزب يضمّ غلاة المتطرِّفين سياسيًّا، ويمثِّل مصالح المستوطنين المتشدِّدين في الضفّة الغربيّة المحتلّة. وهو ما من شأنه أن يمنع نتنياهو من الإقدام على أيّ خطوةٍ في الملفّ الفلسطيني، حتّى وإن كانت مناورةً سياسيّةً لإرضاء حزب "يوجد مستقبل" أو الإدارة الأميركيّة لتجنّب ضغطها أو الصِّدام معها. وإلى جانب ذلك، توجد  جملةٌ من العقبات الأخرى التي تتعلّق بصعوبة إقرار الموازنة؛ وهو الأمر الذي يقتضي إجراء تقليصاتٍ واسعةٍ للغاية لسدّ العجز المالي، فضلًا عن مشكلة توزيع الحقائب الوزاريّة بين الأحزاب المشاركة في الائتلاف الحكومي.


الخاتمة

أسفرت نتائج انتخابات الكنيست عن تقلّص الأغلبيّة التي كان يتمتّع بها "المعسكر القومي"، الذي يشمل أحزاب اليمين واليمين الفاشي والأحزاب الدّينيّة اليهوديّة، من 67 مقعدًا في انتخابات الكنيست السّابقة إلى 61 مقعدًا في انتخاباته الحاليّة. وستمكّن هذه النتيجة بنيامين نتنياهو من تشكيل حكومةٍ ائتلافيّةٍ، بعد بذله جهدًا كبيرًا من أجل التغلّب على المصاعب الجمّة والمعضلات العديدة التي تواجهه في طريقه لتشكيل الحكومة. ومن المرجّح ألّا تتمتّع حكومة نتنياهو القادمة بالاستقرار، ولا بالقدرة على تجنّب إجراء انتخاباتٍ مبكِّرةٍ للكنيست. كما يُرجَّح أن تسعى هذه الحكومة إلى الاستمرار في سياسة الاستيطان في مختلف مناطق الضفّة الفلسطينيّة المحتلّة، لاسيّما في مدينة القدس الشّرقيّة المحتلّة. ومن المستبعَد جدًّا أن تُقدِم هذه الحكومة على خطوةٍ في اتِّجاه حلٍّ مع الفلسطينيّين، حتى وإن لم يشارك حزب "البيت اليهودي" في الائتلاف الحكومي. فليس لنتنياهو النيّة ولا التصوّر لتقديم تنازلاتٍ أو لوقف الاستيطان، لاسيّما في القدس والكتل الاستيطانيّة، وذلك في غياب ضغطٍ عربيٍّ من أيّ نوعٍ كان. وهناك  ثمانيةٌ - على الأقلّ - من أعضاء الكنيست من "حزب اللّيكود"، يفوقون في تطرّفهم غلاة المتطرِّفين في حزب "البيت اليهودي"، فضلًا عن غلاة المتطرِّفين من أعضاء الكنيست الذين ينتمون إلى حزب "إسرائيل - بيتنا" بقيادة ليبرمان.