العنوان هنا
تقدير موقف 02 مايو ، 2012

الموقف الإسرائيلي من إلغاء صفقة الغاز المصري: تداعيات ودلالات

الكلمات المفتاحية

وحدة الدراسات السياسية

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

 تسعى هذه الورقة إلى الوقوف على التّداعيات السّياسية والإستراتيجيّة والاقتصاديّة المحتمَلَة للقرار المصري الأخير بإلغاء صفقة بيع الغاز المصري لإسرائيل؛ تلك الصّفقة التي جرى توقيعها عام 2005، وظلّت تمثّل إحدى أهمّ ثمار "السّلام" بين الدّولتين. وستحاول هذه الورقة عرض الأسباب الكامنة وراء حرص المستويات الرّسميّة الإسرائيليّة على التّظاهر بقبول التّبرير الرّسمي الذي قدّمته السّلطات المصريّة لإلغاء الصّفقة، وعلى حصر موقفها ذاك في خانة "الخلاف التّجاري". هذا إلى جانب سعي الورقة إلى رصد آليّات التحرّك التي أقدمت عليها إسرائيل بالفعل؛ والتي قد تُقدم عليها في المستقبل لمواجهة تبعات القرار المصري، واستشراف انعكاساته على مستقبل العلاقات المصريّة - الإسرائيليّة. وذلك في ضوء انهماك النّخبة الإسرائيليّة في جدلٍ متواصلٍ بشأن انعكاسات ثورة 25 يناير على البيئة الإستراتيجيّة لإسرائيل.


خلاف تجاري أم تحوّل إستراتيجي؟

لقد حاول صنّاع القرار في إسرائيل التّقليل من أهميّة مغزى القرار المصريّ؛ إذ حرص رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على عدّ القرار ناجمًا عن "خلافٍ تجاريّ" بين الهيئة المصريّة العامّة للبترول وشركة EMG المصريّة التي تزوِّد إسرائيل بالغاز، وغير حاملٍ في طيّاته لأيِّ مغزًى سياسيّ. وقد حذا وزير خارجيّته أفيغدور ليبرمان حذوه؛ إذ أعاد للأذهان حقيقة أنّ اتّفاقيّة تصدير الغاز المصري لإسرائيل ليست جزءًا من اتّفاقيّة "كامب ديفيد" التي أنهت حالة العداء بين الدّولتيْن. والسّؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل يعتقد صنّاع القرار في قرارة أنفسهم حقًّا أنّ القرار المصريّ ليس إلّا خلافًا تجاريًّا، ولا يحمل في طيّاته مقدِّمةً لتحوُّلٍ إستراتيجيٍّ في الموقف المصريّ؟ أم أنّ الخطّ الإعلاميّ الإسرائيليّ لا يعدو أن يكون محاولةً لمنع انزلاق العلاقات بين الجانبين إلى مربَّعٍ آخرَ من التّدهور. وفي هذا السّياق، يرى عمير بركات -أحد أبرز الخبراء الإسرائيليّين في مجال اقتصاديّات الطّاقة- أنّ نتنياهو يدرك في حقيقة الأمر أنّ القرار المصريّ ليس ناجمًا عن خلافٍ تجاريّ؛ بل يعبِّر عن بداية تحوُّلٍ إستراتيجيٍّ فرضه اندلاع ثورة 25 يناير، وإنهاء حكم مبارك الذي عُقدت في عهده اتّفاقيّة تصدير الغاز لإسرائيل. ويرى بركات أنّ تشديد نتنياهو على الطّابع التّجاري للقضيّة، يهدف بالأساس إلى محاولة منع حدوث قطيعةٍ سياسيّةٍ نهائيّةٍ مع المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة في مصر؛ فنتنياهو واعٍ بأنّ القرار المصريّ يمثّل في الواقع أخطر مشكلة يواجهها قطاع الطّاقة في إسرائيل على امتداد تاريخه[1]. ويعتقد بركات أنّ صنّاع القرار في إسرائيل، لم يحرصوا على تضمين اتّفاقيّة توريد الغاز الضّمانات الكافية؛ إذ كانوا يفترضون أنّ "مبارك" سيواصل الحكم إلى أمدٍ غير محدود، ويعتقدون أنّ بقاءه في الحكم واستمرار نظامه من بعده، سيكون في حدّ ذاته ضمانًا لوفاء المصريّين بما جاء في الاتّفاقيّة. ومن الأهميّة بمكانٍ معرفة تقييم وزير البُنى التّحتيّة الإسرائيلي الأسبق بنيامين بن إليعيزر، الذي وقّع صفقة الغاز باسم الجانب الإسرائيليّ عام 2005، وكان أكثر السّاسة الإسرائيليّين ارتباطًا بنظام مبارك. إذ يرفض حمل إلغاء الصّفقة على أنّه "خلافٌ تجاريٌّ" لا غير، ويجزم بأنّه تطوّرٌ سياسيٌّ؛ ستكون له تداعيات إستراتيجيّة مهمّة. ويضيف: "إنّ أهمّ إنجازٍ عمليٍّ للسّلام، قد تجسّد في تدفّق الغاز لإسرائيل. لقد كانت صفقة الغاز تاريخيّةً، بسبب تداعياتها الإستراتيجيّة، وآثارها بعيدة المدى على الاقتصاد الإسرائيليّ"[2]. هكذا يعيد بن إليعيزر إلى الأذهان حقيقة أنّ من وقّع اتّفاق صفقة الغاز، هما الحكومتان المصريّة والإسرائيليّة، وأنّهما ملزمتان بضمان استمرار تنفيذ الاتّفاق. ويؤكّد بن إليعازر على أنّ إلغاء الصّفقة من شأنه أن يُضعف اتّفاقيّة السّلام بين الدّولتين، وأن يُؤْذن بعهدٍ جديدٍ في العلاقات بينهما. فاتّفاقيّة السّلام -بحسب رأيه- لا قيمة لها دون صفقة الغاز، وأنبوب الغاز الذي يربط العريش بعسقلان هو الذي يجسّد العلاقة بين إسرائيل ومصر. وعن دلالات إلغاء الصّفقة، يقول السّفير الإسرائيلي الأسبق في مصر تسفي مزال: إنّ ما أقدمت عليه مصر يحمل دلالاتٍ إستراتيجيّةً، ولا يمكن حصره في الخلاف التّجاري. ويجزم مزال بأنّ الهيئة المصريّة العامّة للبترول، لم تكن لتتّخذ هذا القرار لولا موافقة المشير محمد طنطاوي، رئيس المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة. لذلك فهو يؤكّد على أنّ القرار يمثّل تحوّلًا سياسيًّا ذا مغزى إستراتيجي بعيدٍ، وأنّه سيلقي بظلاله على العلاقات بين الجانبين[3]. وقد حاول مزال رصد الدّوافع التي تفسِّر إقدام المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة على إعطاء الضّوء الأخضر لمثل هذه الخطوة؛ مشيرًا إلى أنّ المجلس العسكري قد سعى من وراء إلغاء الصّفقة إلى تسجيل نقاطٍ أمام الرّأي العامّ المصري، لاسيّما في ظلّ الانتقادات الموَجَّهة إليه. وأوضح مزال أنّ ما يميِّز مبارك عن كلّ من سيأتي بعده من الرّؤساء، هو حرصُه على سلامة العلاقة مع إسرائيل، دون أن يمنح موقف الرّأي العامّ المصري أدنى اعتبارٍ؛ وهو الأمر الذي حصل خلافه في الواقع بعد اندلاع الثّورة. ويرى مزال أنّ الموافقة الضّمنيّة لقادة المجلس العسكري على إلغاء صفقة توريد الغاز، تتنزّل ضمن قائمةٍ من الخطوات التي أقدموا عليها، والتي أثارت قلقًا كبيرًا في إسرائيل. يُذكر من تلك الخطوات تجنّبهم التّدخّل في رفع الحصار عن السّفارة الإسرائيليّة في القاهرة (في أيلول / سبتمبر الماضي)؛ إلّا بعد أن طلب نتنياهو من الرّئيس الأميركي أوباما التدخّل بشكلٍ مباشرٍ لحلّ المسألة. والسّبب الذي دعا مزال إلى اعتقاد أنّ قرار وقف الغاز هو مقدِّمةٌ لتحوّلاتٍ إستراتيجيّةٍ؛ افتراضُهُ أنّ التّصعيد ضدّ إسرائيل، قد أصبح وسيلة قادة المجلس العسكري للمناورة في السّاحة الداخليّة المصريّة. لذا، فهو يرى أنّ قرار وقف تصدير الغاز، قد جاء في إطار المواجهة التي يخوضها المجلس العسكري ضدّ جماعة الإخوان المسلمين، بشأن عمليّة صياغة مسودة الدّستور المصريّ الجديد. إذ يعتقد أنّ قادة المجلس العسكري؛ يرغبون -من خلال هذه الخطوة- في تعزيز مكانتهم في هذه المواجهة، وتحسين فرص المرشَّح المقرَّب منهم في سباق الانتخابات الرّئاسيّة. وفي الوقت نفسه، يزعم مزال أنّ تصعيد قادة المجلس العسكري الموقف من إسرائيل، من خلال قضيّة تصدير الغاز تحديدًا؛ يتنزّل في إطار سعيهم إلى درء تُهم الفساد عنهم. ذلك أنّ القوى السّياسيّة المصريّة، عادةً ما تقدِّم اتّفاقية تصدير الغاز لإسرائيل على أنّها أوضح مثالٍ على استشراء الفساد في عهد مبارك[4]. وهناك في إسرائيل من رأى في قرار وقف تصدير الغاز، نتاجًا للتّحوّلات التي شهدتها مصر في أعقاب ثورة 25 يناير. وفي هذا السّياق، يرى بوعاز بسموت -معلّق الشّؤون العربيّة في صحيفة "إسرائيل اليوم"- أنّ السّياقات الموضوعيّة التي أعقبت تفجُّر الثّورة المصريّة، كانت تفرض على صنّاع القرار في القاهرة إلغاء صفقة توريد الغاز إلى إسرائيل[5]. واستهجن بسموت موقف الذين فاجأهم صدور هذا القرار؛ بحكم أنّ هناك الكثير من المقدّمات التي أفضت إليه، وعلى رأسها: سيطرة التّيّار الإسلامي على مجلس الشّعب المصري، وعمليّات تفجير الأنبوب الذي ينقل الغاز إلى إسرائيل (والتي وصل عددها إلى 14عمليّة)، وتحوّل الحدود المصريّة الإسرائيليّة من حدودٍ هادئةٍ إلى ساحةٍ ساخنةٍ ومضطربةٍ. وشدّد بسموت على نحو من سبقه، على أهميّة تأثير الرّأي العامّ المصريّ في توجيه القرار السّيادي المصري في مرحلة ما بعد الثّورة؛ وذلك على خلاف عهد مبارك الذي كان لا يوليه أيّ اهتمام. ولم تفت بسموت الإشارة إلى أنّ مهاجمة اتّفاقية تصدير الغاز لإسرائيل، قد غدتْ سبيلًا لتوحيد الشّعب المصري؛ وهذا ما يفسّر حقيقة أنّها إحدى  أهمّ القضايا التي يُحاكم من أجلها مبارك -حاليًّا- ونجلاه وقادة نظامه. وفي المقابل، عدّ قلّةٌ من الباحثين والكتّاب في إسرائيل القرار المصريّ ردًّا طبيعيًّا على كلٍّ من فساد نظام مبارك، وتعمُّد إسرائيل المسّ بالكرامة الوطنيّة المصريّة. ويرى تسفي بارئيل -معلّق الشّؤون العربيّة في صحيفة هآرتس- أنّ المصريّين أقدموا على إلغاء صفقة الغاز؛ لأنّ الأنبوب الذي يزوّد إسرائيل بالغاز، قد تحوّل إلى المَعلم الأهمّ من معالم التّطبيع مع إسرائيل، ورمزًا يعكس فساد نظام حكم مبارك[6]. ويشير بارئيل إلى أنّ المصريّين قد نظروا إلى صفقة الغاز مع إسرائيل، على أنّها تفريط في مصالحهم الوطنيّة الحيويّة؛ إذ أنّ السّعر الذي يدفعه المصريّون مقابل الحصول على غاز بلدهم، هو أعلى من السّعر الذي تدفعه إسرائيل مقابله. لذا فقد عرضت الثّورة المصريّة صفقة الغاز على أنّها "عار وطني". ويرى بارئيل أنّه لا يمكن تجاهل ردّ الفعل المصريّ الغاضب من السّلوك الإسرائيلي العدائيّ تجاه الفلسطينيّين؛ وذلك في مقابل بقاء صنّاع القرار في تل أبيب أسرى المراهنة على قدرة الولايات المتّحدة على إجبار الحكومة المصريّة على فصل سياساتها تجاه تل أبيب عن ممارسات إسرائيل ضدّ الفلسطينيّين. وبحسب رأيه، فإنّ إسرائيل تدفع ثمن افتراضها الخاطئ بأنّ تواصل تدفّق الغاز المصري لها، هو ركيزة السّلام الأساسيّة بين الدّولتين؛ وذلك دون أن تولي أدنى اعتبار لمصالح المصريّين وكرامتهم. ويرى بارئيل -في هذا السّياق-  أنّ تمكّن إسرائيل من العيش بشكلٍ طبيعيٍّ في المنطقة، وتواصل التّبادل التّجاري مع دولها؛ هو أمرٌ يتطلّب أوّلًا تخلّيها عن الإحساس بأنّ حقّها في احتلال أراضي الغير، يساوي حقّها في الاستقلال.


التّبعات الاقتصاديّة

ليس من المتوقَّع أن يترك قرار وقف تصدير الغاز المصريّ تأثيراتٍ اقتصاديّةً كبيرةً فوريّةً على إسرائيل؛ لأنّ إمدادات الغاز كانت قد توقّفت عمليًّا قبل ثلاثة أشهرٍ من صدور هذا القرار،  بفعل تتابع عمليّات التّفجير التي استهدفت الأنبوب النّاقل للغاز لإسرائيل، في أعقاب الثّورة المصريّة. ومع ذلك، فقد مثّل القرار المصري إسدالًا للسّتار على حقبةٍ تاريخيّةٍ، حقّقت إسرائيل فيها مكاسبَ اقتصاديّةً هائلةً؛ بفعل تدفّق الغاز المصريّ إليها. فمنذ أن باشرت مصر تصدير الغاز إلى إسرائيل عام 2008، عملًا بالاتّفاق الذي وقع التوصّل إليه عام 2005؛ وفّرت خزانة الدّولة الإسرائيليّة مليارات الدّولارات، بفضل الفرق الكبير بين سعر الغاز المصري الذي تحصّلت عليه، وسعره في الأسواق العالميّة. فقد كانت إسرائيل تشتري المتر المكعّب من الغاز المصريّ بثلاثة دولارات؛ في حين كان سعره في السّوق العالمي يبلغ 12 دولارًا. ويرى يروم أرياف -المدير العامّ بوزارة الماليّة الإسرائيليّة السّابق- أنّ الغاز المصريّ الرّخيص، قد ساهم إلى حدٍّ كبيرٍ في تمكين إسرائيل من إنتاج الطّاقة بتكلفةٍ قليلةٍ نسبيًّا[7]. ونظرًا إلى أنّ نحو 37% من الطاقة الكهربائيّة التي تنتجها شركة الكهرباء الإسرائيليّة، تعتمد على الغاز المصري؛ فقد أدّى توقّف إمدادات الغاز المصري إلى زيادة تعريفة الكهرباء خلال العام الماضي بنسبة 20%. ومن المتوقَّع أن يقع رفع التّعريفة بنسبة 25% في أعقاب صدور القرار المصري الأخير[8]. وما جعل أزمة قطاع الطّاقة تتفاقم في إسرائيل في أعقاب القرار المصريّ؛ هو أنّ حقل "يام تتيز" البحري،  الواقع في غرب مدينة عسقلان، والذي يوفّر أكثر من 60% من احتياجات شركة الكهرباء القُطْرية الإسرائيليّة من الغاز، سينضب تمامًا في غضون نصف عامٍ. وهذا ما يعني أنّ إسرائيل ستكون مطالبةً بإقامة المزيد من محطّات توليد الكهرباء بواسطة الفحم؛ علمًا أنّ كلفة إقامة هذه المحطّات تبلغ أضعاف كلفة استخدام الغاز، عدا الأضرار الكبيرة النّاجمة عن تلوّث البيئة[9]. صحيحٌ أنّ إسرائيل تمكّنت من اكتشاف احتياطاتٍ ضخمة من الغاز في حقلَي "تمار" و"ليفاتين"، الواقعين في المياه الفاصلة بينها وبين قبرص؛ لكنّ الإجراءات البيروقراطيّة في الوقت الحالي، ستؤجّل استخراج الغاز منهما إلى وقتٍ غير محدَّدٍ. وما يثير القلق لدى الإسرائيليّين، هو أن يكون قرار وقف تصدير الغاز مقدِّمةً لوقف التّبادل التّجاري بين الدّولتين؛ لاسيّما بعد أن تبيّن أنّ ذلك التّبادل قد تضاعف أربع مرّات بعد اندلاع الثّورة المصريّة. فبحسب معطيات معهد التّصدير الإسرائيلي، قامت إسرائيل خلال شهرَي كانون الثّاني/ يناير- شباط / فبراير 2012 بتصدير بضائعَ لمصر بقيمة 46 مليون دولار؛ في حين أنّ قيمة التّصدير الإسرائيلي خلال الشّهرين نفسهما من عام 2011، لم تتجاوز 12 مليون دولار[10]. صحيحٌ أنّ التّبادل التجاري مع مصر يكاد يكون دون تأثير في الاقتصاد الإسرائيلي؛ لكنّه -مع ذلك- يظلّ مؤشّرًا على استقرار العلاقات بين الجانبين. وفي الوقت نفسه، فإنّ القرار المصري يترك علامات استفهامٍ بشأن مستقبل المشاريع الاقتصاديّة المشتركة بين الجانبين؛ كمصنع النّسيج الضّخم الذي أقامته شركة "دلتا" الإسرائيليّة في مصر مثلًا. هذا إلى جانب وجود مخاوف من أن تقطع البنوك المصريّة علاقاتها مع البنوك الإسرائيليّة، علمًا أنّ التّحويلات بين البنوك المصريّة والإسرائيليّة تواصلت دون انقطاع حتّى الآن.


آليّات التحرّك الإسرائيلي

إنّ أكثر ما يدلّ على أنّ دوائر صنع القرار في إسرائيل، لا تنظر فعلًا إلى القرار المصريّ الأخير على أنّه نتاج "خلافٍ تجاريٍّ"؛ هو أنّ الحكومة الإسرائيليّة قد شرعت -بُعيْد إعلان القرار المصري- في البحث عن بدائلَ لسدّ العجز النّاجم عن توقّف تدفّق الغاز المصري، لاسيّما أنّ إسرائيل لا تريد حصر خياراتها في التوجّه نحو إقامة المزيد من المحطّات الفحميّة لإنتاج الطّاقة الكهربائيّة. فالنّقص في إمدادات الغاز، لا يؤثّر فقط في القدرة على إنتاج الكهرباء؛ بل يؤثّر كذلك في قطاع الصّناعة وتطوّرها في إسرائيل. ذلك أنّ نسبةً كبيرة من المرافق الصناعيّة توظّف الغاز في إنتاج الطّاقة؛ فضلًا عن أنّ توفّر الغاز المصري الرّخيص، قد مكّن إسرائيل من التّوسّع في إقامة مشاريع تحلية المياه. ولذلك، فإنّ أهمّ خطوة أقدمت عليها الحكومة الإسرائيليّة بُعيد صدور القرار المصري، هي التوجّه السّريع نحو تقصير أمد الإجراءات البيروقراطيّة؛ تلك التي تحول حتّى الآن دون مباشرة استخراج الغاز من حقل " تمار" (وقع اكتشافه عام 2009) الذي يحوي احتياطيًّا ضخمًا من الغاز. وقد قرّر وزير الماليّة الإسرائيلي يوفال شطاينتس اتّخاذ كلّ الخطوات التي تكفل الشّروع في استخراج الغاز من حقل تمار، بحلول نهاية العام الجاري. ورأى أنّ هذه الخطوة قد باتت ملحّة لتقليص فاتورة الطّاقة، التي يمكن أن تتضاعف في أعقاب القرار المصري[11]. ومن أجل ضمان تحقيق هذا الهدف، شرعت الحكومة الإسرائيليّة في التّشاور مع الكتل البرلمانيّة بالكنيست؛ سعيًا إلى إقناعها بعدم التّشدد عند المطالبة بالوفاء بشروط سلامة البيئة، لاسيّما أنّ بوسعها تأجيل مباشرة استخراج الغاز من "تمار". وفي الآن نفسه، هناك توجّهٌ رسميّ إسرائيليّ لتوظيف الضّغوط الأميركيّة في إجبار المصريّين على التراجع عن ذلك القرار؛ أو على الأقلّ تحذيرهم من الإقدام على اتّخاذ قرارات أخرى من شأنها وقف التّبادل التجاري مع الدّولة العبريّة. وبحسب جبرائيل بار، المسؤول عن إدارة التّجارة الخارجيّة في وزارة الصّناعة والتجارة الإسرائيلية؛ فإنّ بإمكان الولايات المتّحدة توظيف اتّفاقية "الكويز" بشأن المناطق الصناعيّة المؤهّلة. تلك الاتّفاقيّة التي عُقدت عام 2004 بين كلٍّ من مصر وإسرائيل والولايات المتّحدة، وبمقتضاها تُعفى البضائع المصريّة من الضّرائب لدى تصديرها إلى الولايات المتّحدة،  إن كان 10% من الموادّ المستخدمة في تصنيعها قد جرى استيرادها من إسرائيل[12]. وبحسب بار، فإنّ حرص الولايات المتّحدة على تطبيق ما جاء في الاتفاقيّة، يمكن أن يردع مصر عن الإقدام على خطوات أخرى تعطّل التّبادل التجاري؛ خصوصًا أنّ الأهميّة الحقيقيّة لذلك التّبادل التّجاري، تكمن في أنّه يمثّل أحد المؤشِّرات على حالة السّلام بين الجانبين. وذهب وزير البنى التّحتيّة الإسرائيلي الأسبق بن إليعيزر إلى أبعد من ذلك؛ لمّا حذّر مصر من فقدان المعونة الأميركيّة السّنوية التي تبلغ ملياريْ دولار، في حالة المسّ باتّفاقيّة السّلام بين الدّولتين[13].


الاستنفار للمواجهة

إنّ ما يؤكّد على أنّ صناع القرار في إسرائيل ينظرون إلى قرار إلغاء صفقة الغاز كأحد  التّحوّلات الإستراتيجيّة المنذرة بفتح صفحة جديدة في العلاقات مع مصر؛ هو أنّه قبل ساعات من صدور القرار المصري، قد كُشف النّقاب في إسرائيل عن اتّجاهٍ داخل الحكومة الإسرائيليّة -يقوده وزير الخارجيّة أفيغدور ليبرمان- يدعو إلى التّعامل مع مصر بعد الثّورة على أنّها مصدر خطر يفوق الخطر الذي يمثّله البرنامج النّووي الإيراني[14]. وقد نُقل عن ليبرمان قوله: إنّ الأوضاع على صعيد العلاقات مع مصر، ستصبح أكثر خطورة، لدرجة تستدعي إعادة بناء الجيش الإسرائيلي من جديد. ويتضمّن ذلك منْح الأفضليّة لقيادة المنطقة الجنوبيّة في الجيش، وتشكيل فيلقٍ جديد يضمّ أربعة ألوية مخصّصة للتّمركز على الحدود مع مصر، والحرص على تخصيص كلّ الموازنات اللازمة لذلك[15]. وينطلق ليبرمان من افتراضٍ يقوم على فكرة أنّ مصر ستلجأ بعد الانتخابات الرئاسيّة إلى خرق اتّفاقيّة "كامب ديفيد" بشكلٍ جوهريٍّ، وستعمل على دخول قوّاتٍ عسكريّة مصريّة إلى سيناء، بطريقةٍ تهدّد الأمن القومي الإسرائيليّ. واللافت للنّظر، أنّ القاسم المشترك بين الاستنتاجات التي خلص إليها الكثير من الباحثين الإسرائيليّين، يتوافق عامّةً مع الخطّ الذي يقوده ليبرمان.

ويرى باحثون إسرائيليّون كُثرٌ أنّه لم يعد بالإمكان إعادة عقارب السّاعة إلى الوراء، وأنّ مصر ستتحوّل عاجلًا أو آجلًا إلى دولة عدوّ. ولعلّ ما زاد من إثارة القلق الإسرائيلي بشأن اتّجاهات السّياسات المصريّة بعد الثّورة؛ هو البيان الذي أصدرته لجنة الشّؤون العربيّة في مجلس الشّعب المصريّ بتاريخ 12 / 3 / 2012، والذي تضمّن تصوّرًا لما يجب أن تكون عليه الخطوط العامّة للسّياسة المصريّة تجاه إسرائيل. فقد طالب بيان اللّجنة المستوى السّياسي في مصر بعدِّ إسرائيل "العدوّ المركزيّ الذي يهدّد الأمن القوميّ المصري". وشدّد على رفض الاعتراف بشرعيّة إسرائيل، فضلًا عن الدّعوة إلى مساعدة الشّعب الفلسطيني في نضاله المسلَّح ضدّ إسرائيل.

ويجزم يهودا هليفي -الباحث في "معهد القدس لشؤون الجمهور والمجتمع"،  وهو معهد يعمل بأجندة يمينيّة متطرّفة- بأنّ بيان اللّجنة البرلمانيّة المصريّة يدلّ على أنّ مصر قد تحوّلت بعد الثّورة إلى عدوٍّ، وبأنّه من العبث المراهنة على أيّ سيناريو لا يستثني حتميّة الصّدام الإسرائيلي المصريّ، في ظلّ التّحوّلات التي تشهدها القاهرة[16]. ولا يرى هليفي أيّ أمل في ضمان استقرار العلاقة مع مصر الجديدة؛ خصوصًا بمطالبة البرلمان المصري المستوى السّياسي في مصر بعدِّ إسرائيل "العدوّ المركزي الذي يهدّد الأمن القومي المصري"، وتشديده على رفض الاعتراف بشرعيّة إسرائيل، إلى جانب دعوته إلى مساعدة الشّعب الفلسطيني في نضاله المسلَّح ضدّ إسرائيل. وخلص هليفي إلى استنتاجٍ مفاده، أنّه في حال تبنَّى الحكم الجديد في مصر توصية اللّجنة؛ فذلك يعني أنّ مصر ستكون مطالَبَةً في المستقبل بإعادة بناء قوّتها العسكريّة لمواجهة إسرائيل عسكريًّا، بما في ذلك المجال النّووي. وهذا ما يرفع مستوى السّلوك المصري إلى مستوى الخطر الوجودي. ويحذِّر هليفي -في هذا السّياق- من أنّ مصر بعد الثورة، قد تستغلّ أيّ سلوك إسرائيلي ضدّ الفلسطينيّين، وتخوض مواجهة دبلوماسيّة وسياسيّة ضدّه ردًّا على تهويد القدس والاستيطان في الضفّة الغربيّة[17]. وقد جاء القرار المصري الأخير، في ظلّ الانطباع الإسرائيلي المتجذّر بأنّ تل أبيب قد فقدت وللأبد شراكتها الإستراتيجيّة مع مصر. ويرى الباحث في الشؤون الإستراتيجية الجنرال المتقاعد رون تيرا، أنّ إسرائيل لم تعد تتمتّع بعوائد الشّراكة الإستراتيجية التي كانت تنعم بها أثناء حكم مبارك؛ مؤكّدًا على أنّ تلك الشّراكة، قد بلغت أوجها في الحرب التي خاضتها إسرائيل ضدّ حزب الله في تمّوز / يوليو 2006، وفي الحرب على غزّة أواخر عام 2008. فقد حرص نظام مبارك على توفير الظّرف الإقليمي المناسب لاستمرار الضّربات الإسرائيليّة في أقلّ قدرٍ من الاعتراض العربيّ والدوليّ[18]. ومن اللافت للنّظر، أن تستحوذ على الجدل الإسرائيلي الدّاخلي مؤخّرًا مناقشةُ بعض الأفكار الهادفة إلى محاولة تقليص الأضرار النّاجمة عن التّحولات في مصر. فعلى سبيل المثال، ينصح رون تيرا صنّاع القرار في إسرائيل بمطالبة الولايات المتّحدة بالضّغط على الحكومة السّعودية، حتّى تعرض المساعدات الماليّة على النّظام الجديد في مصر، وتغريه بعدم الحياد عن السّياسات التي كان ينتهجها الرّئيس المخلوع مبارك؛ نظرًا إلى أنّ "ضمان الاستقرار في المنطقة مصلحةٌ سعوديّة أيضًا"[19].


الخاتمة

لقد مثّل قرار إلغاء صفقة بيع الغاز المصري بالنّسبة إلى إسرائيل، تطوّرًا يُنهي حقبةً تاريخيّةً ويفتح أخرى. وهو يجسِّد دليلًا على بدء تحقّق التوقّعات الإسرائيليّة السوداويّة التي راجت في أعقاب اندلاع ثورة 25 يناير. لاشكّ في أنّ إسرائيل ستحاول محاصرة الآثار الاقتصاديّة المباشرة للقرار المصري؛ لكنّ أهمّ ما يشغل بال صنّاع القرار في إسرائيل حاليًّا، هو التّخطيط لمحاصرة التّداعيات الإستراتيجيّة للتّحولات المتلاحقة في مصر، على المدى المتوسّط والبعيد؛ وذلك على الصّعد السّياسية والعسكريّة والأمنيّة والاقتصاديّة والإستراتيجيّة.


 

[1] عمير بركات، "الخوف من قطيعة سياسيّة دفع إسرائيل إلى التّراجع في قضيّة الغاز المصري"، صحيفة غلوبس، 23-4-2012، على الرّابط:

 http://www.globes.co.il/news/article.aspx?did=1000743472

[2] سامي بيريتس، آبي بار ائيلي بن إليعازر، "لو كنت أتلقّى أموالًا من مبارك، هل كان من الممكن ألّا يعلم الموساد"، ذي ماركير، 27-4-2012،

 http://www.themarker.com/dynamo/1.1694938

[3] تسفي مزال، "قرار سياسيّ بامتياز"، صحيفة كالكيليست، 24-4-2012،  

http://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3569041,00.html

[4] المرجع نفسه.

[5] بوعاز بسموت، "التوقعات التّشاؤمية تتحقّق بسرعة"، صحيفة إسرائيل اليوم، 22-4-2012،

http://www.israelhayom.co.il/site/newsletter_opinion.php?id=8503&hp=1&newsletter=23.04.2012

[6] تسفي بارئيل، "الوهم التركي المصري"، هارتس، 25-4-2012،

 http://www.haaretz.co.il/opinions/1.1693712 

[7] إيتي تريلينك، يروم أرياب، "عندما يكون لديك غاز مصري رخيص - من الغباء ألا تستغله"، صحيفة ذي ماركير، 24-4-2012،

http://www.themarker.com/dynamo/1.1692784

[8] عمير بركات، مرجع سبق ذكره.

[9] شموئيل أيفن، "اقتصاديات الغاز الطبيعي في إسرائيل- دلالات اقتصاديّة وإستراتيجية"، مجلة "عدكون إستراتيجي"، مركز دراسات الأمن القومي، مجلد 13، عدد1، حزيران / يونيو، 2010.

http://www.inss.org.il/upload/(FILE)1277212967.pdf

[10] هدار كنا، "كلهم يعون أنّ العلاقات مع إسرائيل توفّر عملًا للعمّال المصريين"، صحيفة كلكليست، 24-4-2012،

 http://www.calcalist.co.il/local/articles/0,7340,L-3569047,00.html?dcRef=ynet 

[11] يقول شطاينتس معلقًا على قرار إلغاء صفقة الغاز: "سنعمل على تقديم موعد استخراج الغاز من "تمار" حتى نهاية 2012"، صحيفة ذي ماركر، 23-4-2012،

 http://www.themarker.com/dynamo/1.1692022

[12] هدار كنا، مرجع سبق ذكره.

[13] سامي بيريتس، آبي بار ائيلي، مرجع سبق ذكره.

[14] بن كاسبيت، "ليبرمان يحذّر نتنياهو: مصر تثير القلق أكثر من إيران"، معاريف، 22 / 4 / 2012:

http://www.nrg.co.il/online/1/ART2/360/472.html?hp=1&cat=404

[15] المرجع نفسه.

[16] يهودا دحوح هليفي، "علامات مقلقة بشأن إسرائيل في البرلمان المصري عشيّة الانتخابات الرئاسية"، مركز القدس لشؤون الجمهور والمجتمع، 14 / 3 / 2012:

http://www.jcpa.org.il/Templates/showpage.asp?FID=839&DBID=1&LNGID=2&TMID=99&IID=26556

[17] المرجع نفسه.

[18] رون تيرا، "اهتزاز الفضاء الإستراتيجي لإسرائيل"، مجلّة عدكون إستراتيجي، مركز أبحاث الأمن القومي، مجلّد 14، عدد 3.

[19] المرجع نفسه.