العنوان هنا
مقالات 11 مايو ، 2014

مقدمة في تأريخ الثورة المصرية

الكلمات المفتاحية

عمرو عثمان

أستاذ التاريخ بقسم العلوم الإنسانية في جامعة قطر. تتركز اهتماماته البحثية في التاريخ الإسلامي والهيستوريوغرافيا واللغة والقانون والدراسات الإسلامية. له العديد من المقالات المنشورة في مجلات أكاديمية محكّمة. شملت كتاباته مؤلفات عن تاريخ المذهب الظاهري وأصول فقهه، ومقالات عن التاريخ العالمي، والتاريخ الفكري، والمنعطف اللغوي وأثره في الدراسات التاريخية، فضلًا عن مقالات أكاديمية في فروع الدراسات الإسلامية المختلفة.

إنّ المتابع لما كُتب من تحليلات عن الثورة المصرية، ثورة 25 يناير 2011 التي قضت في 3 تموز / يوليو 2013[1]، بخاصة بعد الانقلاب الذي أطاح أوّل رئيس مصري منتخب، سيدرك على الفور هشاشة الأساس الذي تقوم عليه تلك التحليلات. فكون الثورة المصرية الآن في عداد التاريخ، لا يبدو هناك مفرٌّ من ضرورة التعامل معها بوصفها حدثًا تاريخيًّا.

وبما أنّها حدث تاريخي، فإنّ دراستها يجب أن تقوم على الأدلة التاريخية الموثَّقة. ولا يمكن لتلك الأدلة أن تكشف عن كلّ إمكاناتها إلا بعد طرح ما يمكن تسميته بـ "الأسئلة المُجدية"؛ أي الأسئلة القادرة على إنتاج المعرفة التاريخية، ودعم التفكير التاريخي المثمر.

هذه المقالة هي مقدمة مقترحة لعلمية تأريخ الثورة المصرية، وليس لمعرفة "ما حدث بالفعل"،  بقدر ما يمكن لهذه المعرفة أن يتحقّق، ولكن للاستفادة أيضًا من الدرس الذي كلَّف كُلًّا من مصر والمصريين، والعرب جميعهم الكثير. وأؤكّد أنّها مقدمة فقط، يجب ألّا تُقرأ على أنّها أكبر من ذلك. بيد أنّها مقدمة أساسية، أرجو أن يتّفق مع توجُّهها عددٌ كثير من المهتمين بموضوعها بصفة خاصة، ومن المهتمين بالتاريخ حقلًا علميًّا بصفة عامة.

إنّ المصادر الرئيسة للأدلّة التاريخية، كما هو معلوم بالنسبة إلى الدارسين والمهتمين بالتاريخ، هي الوثائق. وإذا كان الحدث التاريخي معاصرًا، يمكن إضافة ما يُطلق عليه "التاريخ الشفوي"، والذي قد تزيد قيمته أحيانًا على الوثائق نفسها. وتشتمل الوثائق، بمعناها العامّ، على كلّ ما هو مكتوب. لا يقتصر ذلك على مراسلاتٍ رسمية، أو قراراتٍ إدارية، أو أحكام قضائية، أو إعلانات دستورية، ومحاضر الاجتماعات، ونصوص التفاهمات، وما شابه ذلك. بل يمتدّ ليشمل حتى المراسلات الشخصية، ومقالات الرأي، والتحليلات الآنيَّة التي تُلقي كثيرًا من الضوء على ما يطلق عليه "روح" اللحظة التاريخية، وهي أساسية لفهم المؤثّرات في الرأي العام والوعي الجمعي، خلال مراحل الثورة.

بيد أنّ هذه المصادر لا تشتمل على التغطيات الصحفية والإعلامية للأحداث، بوصف تلك التغطيات نفسها مصدرًا للمعلومات. فبينما قد تكون تلك التغطيات مصدرًا مهمًّا لكتابة التاريخ، إلا أنّها، في الوقت نفسه، قد تصبح أكبر عائق أمامه، بخاصة حين تكون الممارسة الصحفية والإعلامية السائدة جاهلةً أو فاشلةً في التفريق الحرفي بين نقل الخبر والتعليق عليه؛ أي بين الخبر والرأي. والمقصود في هذا السّياق أنّ الأحداث الكبرى الخاصة بتاريخ الثورة المصرية معروفة لا تحتاج إلى توثيق أصلًا. ليست المشكلة في تلك الأحداث نفسها، وإنّما المشكلة في الجانب المستور منها، وهذا هو تحديدًا أكبر تحدّيات العمل التاريخي، وأكثره دلالةً على الحاجة إلى الجمع المُمنهج للمعلومات وتوثيقها.

إنّ مهمة المؤرّخ هي السعي لكتابة التاريخ "كما كان"، بعبارة ليوبولد فون رانكة الشهيرة. ولكنْ من وجهة نظر إبستمولوجية بحتة، فإنّ ما نمتلكه من معرفة تاريخية يقوم بالأساس على ما يتوافر لنا من معلومات يمكن توثيقها. ما يعني أنّ ما نعرفه يظلّ رهنًا بتوافر المعلومات، ويظلّ دائمًا قابلًا للمراجعة بناءً على ما يستجدّ منها. وبصفة عامّة، فإنّ الوثائق غالبًا ما تَظهر وتَكثر بمرور الوقت، فقد تعزف الدول عن إتاحة وثائق معيّنة للمؤرخين لأسبابٍ تخصّ "الأمن القومي"، وقد يعزف الأفراد عن نشْر ما لديهم من وثائق لأسبابٍ  شتّى. البعد التاريخي عن الحدث مفيد من هذه الزاوية، ولكن لا يخفى أنّه يزيد من صعوبة البحث التاريخي من زوايا أخرى، ليس أصعبها محاولة انتشال الوثائق الأصلية من نهر الوثائق المزيّفة التي تزيد دومًا بمرور الوقت.

تعتمد المعرفة التاريخية إذَنْ على توافر مصادرها. بيد أنّ هناك عنصرًا آخرَ لا يقلُّ أهميةً عن ذلك، ألا وهو قدرة مؤرّخٍ ما على طرح أسئلةٍ جديدة "مُجدية" تهدف إلى نظْم هذه المعلومات نفسها بصورة جديدة تعرض للمعلومات الموثّقة نفسها في إطارٍ جديد. هنا يشبه عمل المؤرّخ عمل البنّاء المُبدِع، الذي لا يقتصر عمله على وضْع اللبنات فوق بعضها، ولكنّه يسعى إلى نظمها بصورة مبتكرة، تُرضي عقل الناظر إليها وذوقه في آنٍ واحد، كما أنّها تترك المجال مفتوحًا لمن أراد البناء عليها أو الاستفادة منها، سواء سلبًا أو إيجابًا.

لا تتعامل هذه المقالة مع الوثائق (وعملية التوثيق التي تعتمد منهجيتها على طبيعة الوثائق المتاحة)، ليس لأنّ عملية الجمع المُمنهج لتلك الوثائق لم تبدأ بعد (كانت هناك بالفعل محاولات جادَّة، ولكن يبدو أنّها وُوجهت بصعوباتٍ شتّى من جانب بعض الأطراف)، ولكن أيضًا بسبب الظروف الراهنة والمحاولات الحثيثة لإعادة كتابة تاريخ الثورة، بصورةٍ تجعل النظام القديم نفسه  الذي قامت الثورة ضدّه، هو بطل الثورة وقائدها. لذلك يتطرَّق الشكّ إلى ما هو متوافر من وثائق، وما سيظهر منها في المستقبل. يتعلق هذا الشكّ بأصالتها التاريخية، إضافةً إلى دلالتها. فليس من المستبعد أن تكون الوثائق المهمّة فعلًا لكتابة تاريخ الثورة قد تمّ تدميرها بالفعل أو أنّها تتعرّض لعملية مُمنهجة من التزوير. وما أهون التزوير على مَن يغتصب وعيَ شعبٍ بأكمله!

تسعى هذه المقالة إلى طرح أسئلةٍ عن الثورة المصرية. إنّ عملية طرح الأسئلة وصوغها هي واحدة من أهمّ مهارات المؤرّخ، بل إنّ فشل المؤرّخ في طرح السؤال المُجدي (ولا نقول السؤال الصحيح؛ لأنّ السؤال التاريخي لا يكون مُجديًا إلا إذا كان صحيحًا، وليس العكس بالضرورة)؛ أي السؤال الذي يهدف إلى تسليط الضوء على ما  لا يظهر من صورة الحدث التاريخي، يعني بالضرورة تهافت كلّ ما يكتب.

بيد أنّ قدرة المؤرخ على طرح السؤال المُجدي تنضج بمرور الوقت، مع خبرته الشخصية والعلمية من جهة، ومع توافر المعلومات ذات الصلة بموضوع بحثه من جهةٍ أخرى. يُفسَّر ذلك بإجابة السياسي الصيني تشو إنلاي عن الثورة الفرنسية بعد نحو قرنين من وقوعها، إذ قال: "ما زال من المبكر الحديث عنها"[2]. ربّما اعتقد تشو إنلاي أنّ مزيدًا من الوثائق قد يجري الكشف عنه (وهو ما يحدث بالفعل). ولكنْ أغلب الظنّ أنّه اعتقد أنّ تعاملنا مع الوثائق الموجودة بالفعل قد يتغيّر؛ أي قد ينضج بما يُتاح للعقل البشري من القدرة الإبداعية على طرح الأسئلة الجديدة التي تُلقي الضوء على أبعادٍ ظلَّت مستترةً من الحدث. يعني ذلك أنّ الأسئلة المطروحة قابلة للزيادة والنقصان، كما أنّها قابلة للنضج والتجويد أيضًا.

بيد أنّها قد تكون، على مشروطيتها هذه، مشجّعة على التفكير وإعادة التفكير، وعلى تحدِّي ما قد يُنظر له على أنّه مسلّمات و"حقائق"، وعلى طرح المزيد من الأسئلة، بناءً على ما تثيره من إشكالات. وإذا لم يكن الأمر كذلك، فكيف نفسِّر توالي الرسائل العلمية والأبحاث والدراسات في كبريات جامعات العالم عن الثورة الفرنسية إلى يومنا هذا؟

ولا يخفى أنّ طرح الأسئلة وصوغها يعكسان تحيّزات المؤرّخ، سواء كان ذلك عن وعي وقصد أو لم يكن. ولكن في جميع الأحوال، فإنّه لا يمكن، مهما قيل، المبالغة في الدور الحاسم لطرح الأسئلة وصوغها بصورة فنية مبدعة. وليس من المبالغة الزعم أنّ جزءًا أساسيًّا من نجاح الثورة المضادّة، في الحالة المصرية وغيرها من الحالات، يتمثّل في توجيه الرأي العامّ إلى التعامل مع أسئلة غير مجدية، وهذا جزء معروف من عملية تزييف الوعي والتجهيل التي تعتمد عليها الأنظمة الاستبدادية للبقاء، ليس تجنّبًا للاستخدام المسرف لأدوات العنف - وهو ما تقوم به بالفعل - ولكن إدراكًا لمحدودية تلك الأدوات على المدى الطويل. كما أنّ إلهاء الشعوب في محاولة الإجابة عن أسئلة غير مجدية قد تكون عمليةً تكتيكيةً متعمَّدةً، تهدف إلى صرْف النظر عمّا يدور في الخفاء من ترتيبات وتحالفات.

تنقسم الأسئلة بالضرورة إلى أسئلة كلِّية ناظمة وأسئلة جزئية مكمِّلة. تهدف الأسئلة الأخيرة، أي الجزئية، إلى الوصول إلى معلومات – وهنا تأتي أهمية الوثائق وأدوات الـ "إثبات" التاريخي الأخرى؛ فهي تساعد في عملية بناء إجابات الأسئلة الكلّية الناظمة لتلك المعلومات، تمهيدًا لبناء الصورة العامة للحدث التاريخي. وعلى خلاف الأسئلة الجزئية التي قد نجد إجابةً واضحةً لها في وثيقة واحدة، فإنّ الأسئلة الكلّية تتّسم بقدرٍ من العمومية والفلسفية، وهي تفتقر إلى الإجابات الجزئية بقدر افتقار تلك الأخيرة إلى السؤال الكلِّي الذي يعطيها معنًى أكبر من معناها المباشر والمحدود.

ربّما يكون أهمّ الأسئلة الكلّية في هذا السياق، على ما قد يثيره من صدمة أو سخط على طارحها، هو: هل كانت أحداث 25 يناير 2011 ثورةً أصلًا؟ لا يهدف السؤال بالضرورة إلى زعم حتمية التعامل مع أسئلةٍ أخرى من قبيل: ما هو تعريف الثورة؟ فإحدى المهارات المطلوبة للمؤرّخ والمفكّر بوجهٍ عامّ، هي القدرة على مقاومة الطرح اللامتناهي للأسئلة بصورة ارتدادية؛ بمعنى أنْ تصبح إجابة كلّ سؤال معتمدةً على إجابة أسئلة أخرى، تقوم بدورها على أسئلة قبْلية، وهكذا دواليك. السؤال المطروح في هذا السياق يتعلّق بالتعامل مع حدث 25 يناير على أنّه ثورة شعبية؛ أي ثورة يُفترض أنّ الغالبية العظمي من الشعب المصري قد ساندتها، بمعنى أنّها اقتنعت بحتميتها ومبرِّراتها (أخلاقيًّا وسياسيًّا)، وبعدم وجود بديل منها، إضافةً إلى الاستعداد لتحمُّل تبعاتها، على المدييْن القصير والطويل. مرةً أخرى، لا يهدف هذا السؤال الكلِّي وما يندرج تحته من أسئلة جزئية إلى إثارة خلافٍ لفظي أو مفاهيمي عن "الثورة".

فلْيعرِّف من شاء الثورة كما يشاء، بيد أنّ الحكم عليها في كلّ الأحوال، محتاجٌ إلى الإجابة عن هذه الأسئلة نفسها ضمن أسئلة أخرى. وقد تضيء محاولة الباحث الإجابة عن هذه الأسئلة، مَهْما بدا له من موثوقية ما يعتقده بخصوصها، أبعادًا لم يفكِّر فيها من قبْل، قد تؤكّد لديه ما يعتقد، وقد تدفعه إلى إعادة النظر.

ولا أطرح هذه الأسئلة عن طبيعة الحدث تهافتًا؛ فهناك بعض المؤشرات التي قد تدلّ على أنّ هناك قدرًا من إغفال بعض النقاط، أو إنكارها. فالمصريون أثناء الثورة كان منهم من شارك فيها فعليًّا (أي شارك في التظاهرات)، كما كان منهم مَن ساند الثورة معنويًّا، إمّا لبُعده عن مصر أو لعجزه عن المشاركة الفعلية فيها. كما كان هناك من رفضها من ناحية المبدأ، أو من باب تجنُّب إهانة الرئيس "الكبير السنّ"، أو من باب الاعتياد المعروف على الوضع الراهن حتى لو كان مفروضًا على الفرد وضدّ مصلحته، أو من باب الخوف من المجهول، أو لأسبابٍ أخرى كثيرة يمكن طرحها.

قبل تسمية الحدث بالثورة، لا بدّ لنا من بعض تقديرات، ولا نستطيع طلب بيانات منضبطة لتعذّر ذلك، بخصوص أعداد من شارك في الثورة فعلًا، ومن ساندها وإن لم يشارك فيها، ومن عارضها لأسبابٍ متعددة.

وحين يتمّ ذلك، سنتمكّن من إعادة التفكير في دلالة حصول آخر رئيس وزراء في عهد النظام الذي قامت الثورة ضدّه على نصف أصوات الناخبين تقريبًا، وخصوصًا في ضوء الخطاب الإعلامي السائد في ذلك الوقت، والذي قدَّم ذلك الرجل على أنّه مرشّح النظام القديم، وعلى خصمه (بعد الوصول إلى مجموعة من التفاهمات) على أنّه مرشّح الثورة. كما سنتمكّن أيضًا من دراسة العلاقة بين تلك النتيجة وأعداد المتظاهرين في 30 حزيران / يونيو 2013، وأعداد مؤيّدي قائد الانقلاب على الرئيس المنتخب. بعبارةٍ أخرى، هل هناك علاقة بين نسبة رافضي الثورة، والمصوِّتين لرئيس الوزراء الأخير، ومتظاهري 30 حزيران / يونيو، ومؤيّدي النظام الحالي؟

السؤال الثاني خاصّ بهدف التظاهرات. هل كان هناك أيّ اتّفاق، ولو مستتر، حول هدف الثورة؟ وهل تطوَّر الهدف من أهداف ثانوية محدودة (كإقالة الحكومة، أو بعض الوزراء بعينهم، أو إلغاء سياسات معيّنة... إلخ) إلى أهداف أكثر جذرية (كتغيير النظام)؟ وإذا كان الأمر كذلك، فماذا فهِم الناس من تغيير "النظام"؟ ولماذا انفضَّت التظاهرات عند سقوط رأسه؟ ماذا كانت دلالة هذا الحدث عند المتظاهرين بحيث اعتقدوا أنّ ثورتهم قد اكتملت؟ وما دلالة ذلك الاعتقاد فيما يخصّ الثقافة السياسية للمتظاهرين؟ وإذا كانت أهداف الاحتجاجات قد تعرّضت لأيّ تغيير أو تطوُّر، فما الذي دعا إلى ذلك التطوُّر؟ ومن كان مسؤولًا عنه؟

يشير هذا السؤال الجزئي الأخير إلى سؤالٍ كلّي خاص بقيادة "الوعي الثوري". فهل كانت الثورة المصرية بلا قيادة، فعلًا كما قيل؟ لا أقصد بالقيادة في هذا السياق هويَّة الداعين إلى الثورة، فهؤلاء لم يدّعوا قيادتها أصلًا. أقصد بالقيادة من كان قادرًا على خلْق وعيٍ ما استمرّ متَّقدًا خلال ثمانية عشر يومًا من اندلاع الأحداث حتى سقوط رأس النظام. ففي حين لا يمكن افتراض تخلُّق مثل هذا الوعي بصورة تلقائية آنيَّة ومتجددة، على مدار ما يقرب من ثلاثة أسابيع، يبدو أنّنا نجهل بالفعل هويّة من امتلك القدرة على خلقه والعمل على ضمان استمراره، وربما القدرة على توجيهه. ربّما يرتبط هذا السؤال ببعض الأحداث الفرعية أثناء التظاهرات؛ مثل بعض المفاوضات التي جرت بين بعض الأطراف. لا  تقوم المفاوضات إلا على افتراض قدرة كلّ طرفٍ على الالتزام بما يتمّ الاتّفاق عليه. فهل كان هناك طرفٌ قادر على التفاوض باسم الثورة، مفترضًا قدرته على التأثير في مسارها (وهو افتراض شاركه فيه الطرف الآخر أيضًا)؟

يتعامل سؤال كلّي آخر مع طبيعة الدولة والنظام. ويحتاج هذا السؤال إلى بعض تمهيد. ليست الدولة هي النظام. إنّ تقديم النظام لنفسه على أنّه الدولة هو ربّما أهمّ وسائل التجهيل المعروفة؛ إذ تصبح الدعوة إلى إسقاط النظام وأركانه مرادفةً للدعوة إلى إسقاط الدولة. ولا يخفى الدور الذي قام به ذلك التجهيل في دعاية الثورة المضادّة.

إنّ النظام الذي هو مجموعة من التحالفات يستخدم الدولة ومؤسساتها، ولذلك فإنّ الثورة تسعى أساسًا إلى تحرير الدولة من النظام القائم. بيد أنّ العلاقة بين النظام والدولة، بخاصة حين يطول العهد على عدّهما شيئًا واحدًا، هي علاقة شديدة التعقيد، وهو ما يعني أنّ تمييز الحدود بينهما لا يكون واضحًا بالضرورة. والسؤال في هذا السياق هو: هل كانت أطراف الثورة المصرية قادرة على التفريق بين النظام والدولة، ولديها الرؤية عن كيفية فضّ الاشتباك بينهما، بحيث يتمّ القضاء على النظام مع الحفاظ على مؤسسات الدولة؟ بل يمكن أيضًا التساؤل عن موقف تلك الأطراف من الدولة بشكلٍ عام، أو عن فهمها طبيعة الدولة التي قد تسعى إلى بنائها حال تحرير الدولة القديمة من النظام القائم.

بيد أنّنا نستطيع  خلاف ذلك أن نتساءل بصورة عامة، هل الأهمّ في النظام هو مجموعة الأشخاص والتحالفات التي يتشكَّل منها أم الفلسفة التي تحكمه؟ بمعنى أنّ الأشخاص والتحالفات قد تختلف، ولكن يظلّ النظام هو نفسه. كما يمكن أن نتساءل أيضًا: هل أنّ طبيعة الدولة هي التي تصبغ الأنظمة الحديثة بصبغة معيّنة؟ أم هل أنّ تلك الأنظمة هي التي تشكِّل أجهزة الدولة ومؤسساتها بصورة تحقّق لها أكبر قدرٍ من مصالحها؟

تنتمي هذه المجموعة الأخيرة من الأسئلة إلى الفلسفة السياسية. وهي أسئلة قد يحتاج الباحث التاريخي إلى تجنُّبها للسبب الذي ذكرناه آنفًا؛ أي تجنُّب الوقوع في فخِّ الانزلاق في بحرٍ لامتناهٍ من الأسئلة المستمرة التي تولّد أسئلة أخرى، وهكذا. بيد أنّ الوعي بهذه الأسئلة ضروري، ليس في عملية قراءة الوثائق فحسب، ولكن في فهم مواقف الأطراف المختلفة أيضًا ومجريات الأحداث بصفة عامّة.

نطرح السؤال الكلِّي التالي عن الكيانات التي تشكَّلت بعد الثورة. هل يمكن تصنيف تلك الكيانات في ما يخصّ موقفها من الثورة وفهمها لها؟ ما الذي دعا تلك الكيانات إلى اتّخاذ مواقف معيّنة أو الدخول في تحالفات، أو تفاهمات مع أطرافٍ أخرى بعينها؟ وما هو الدور الذي اضطلعت به التوجّهات الأيديولوجية في هذا السياق؟ وما حقيقة الدور الذي اضطلعت به العوامل السياسية أيضًا؟ بعبارة أخرى، ما الذي دعا كلّ طرف من الأطراف، سواء كان مع الثورة أو ضدَّها، إلى التصرُّف بالطريقة التي تصرَّف بها؟

ثمّ ننتقل إلى سؤال كلِّي آخر خاص بالعلاقة بين النظام القديم، وأوّل نظام تنتجه الثورة والدولة. هل فَقَد النظام القديم سيطرته على الدولة في أيّ لحظة؟ وعكس ذلك، هل تمكَّن أوّل نظام تُنتجه الثورة من السيطرة الفعلية على مؤسسات الدولة؟ هل سعى ذلك النظام الأخير إلى التحالف أو التفاهم مع النظام القديم؟ أم هل اختار طريق الاصطدام معه؟ وإذا كان قد اختار التحالف والتفاهم، هل كان ذلك أسلوبًا تكتيكيًّا أم توجّهًا إستراتيجيًّا؟ وهل كان هذا التحالف وهذا التفاهم، إن حدث أيٌّ منهما، قائمًا ضدّ أيّ أطراف أخرى؟ بعبارة أخرى، هل شارك ذلك النظام الأخير النظامَ القديم في فهمه لطبيعة الحكم، وسعى  إلى أن يحلّ محلَّه في إدارة الدولة نفسها، أو ربما الاشتراك معه في تلك الإدارة؟ وإذا كان ذلك ممكنًا، فلماذا فشل ذلك التحالف أو التفاهم؟

يختصّ سؤال كلّي آخر بالدور الخارجي في الثورة، منذ بدايتها وحتى نهايتها. ما هي الأطراف الإقليمية والدولية التي كان لها تأثير في الأحداث، خلال السنتين ونصف السنة من عمر الثورة؟ وما مدى تأثيرها في الأحداث؟ ماهي مصالحها؟ ما طبيعة اتصالاتها وتفاهماتها ودعمها الأطراف المختلفة؟ هل تغيّرت بعض هذه المواقف؟ ولماذا تغيّرت؟ وكما هي الحال مع الأطراف الداخلية، هل حرَّكت الأيديولوجيا بعض الأطراف، أم أنّ كلّ التفاهمات والتحالفات قامت على أُسس سياسية بحتة؟

يتعلّق السؤال الأخير بالثورة المضادّة، متى بدأت؟ وماهي أطرافها؟ وكيف نجحت؟ قد تبدو الإجابة الواضحة لأطراف الثورة المضادة هي أنّها أطراف النظام الذي قامت الثورة ضدّه. قد تكون هذه هي الإجابة الصحيحة، ولكنّها ما زالت مفتقرة إلى الدراسة والتوثيق. فالأنظمة عندما تشعر بالخطر، تسعى إلى إعادة إنتاج نفسها بشكل جديد، كما تفعل الفيروسات بصفة دورية لتتفادى خطر اللقاحات. إذن نحتاج إلى معلومات تتعلّق بما حدث في الحادي عشر من شباط / فبراير سنة 2011، حين سقط رأس النظام. هل كان ذلك سقوطًا حقيقيًّا أم تكتيكيًّا؟ كيف استطاعت بعض أركان النظام القديم الاستمرار مع سقوط بعض حلفائها؟ وكيف استطاعت خلق تحالفاتٍ جديدة؟ هل كانت دائمًا محرّكةً للأحداث بوصفها جزءًا من إستراتيجية بعيدة المدى لاستعادة زمام المبادرة، أم أنّها اضطرّت في بعض الأوقات إلى ردّة الفعل؟ بعبارةٍ أخرى، إذا كان من المؤكَّد أنّ النظام القديم لم يسقط، فماذا كانت درجة الضعف الذي أصابه؟ وكيف تمكَّن من استثمار كثيرٍ ممّا بدا معاكسًا لمصلحته في ضرب الثورة؟

ترتبط هذه الأسئلة الأخيرة بالكيانات التي تشكَّلت بعد الثورة والتحالفات والتفاهمات التي اشتركت فيها. وفي هذا السياق يمكن الحديث مرَّةً أخرى عن فهم الأطراف المختلفة للنظام والدولة والعلاقة المعقّدة والمتشابكة بينهما.

إذا بدت إجابات بعض هذه الأسئلة واضحة للبعض، فإنّ ذلك الوضوح لا يعني بالضرورة توافر الدليل التاريخي (وربّما المنطقي) عليه. إذا كان الهدف هو الفهم، يكون المطلوب الآن، من وجهة نظر تاريخية، هو التوثيق، وهو الخطوة الأولى نحو كتابة قصة الثورة المصرية على أُسسٍ تتجاوز النزعات الشخصية والتحيُّزات الأيديولوجية والانتماءات السياسية والرؤية الكونية العامة الخاصّة بكلّ من يقوم على تلك الكتابة.

وعلى الرغم من صعوبة ذلك في ضوء حقيقة أنّنا لا نزال نعاين أحداثًا ترتَّبت على الحدث نفسه موضوع الدراسة، وهي تبعات ستزوّدنا حتمًا بمعلوماتٍ ووثائقَ تمكِّننا من طرح المزيد من الأسئلة أو إعادة صَوْغ الأسئلة المطروحة، ولكنّنا في الوقت نفسه لا نملك تَرَفَ الانتظار. فإمّا فهْمُ ما حدث والاستفادة منه، وإمّا تكرار الأخطاء والبقاء في حلقة مفرغة من التفاؤل الوقتي ثم الإحباطات المؤلمة والمستمرة.

في التعامل مع الثورة المصرية بوصفها حدثًا تاريخيًّا، يعدّ تقديم عرْضٍ معيَّن ينظّم ما هو مشاع عنها في سردية مبهرة بناءً على نظريات جاهزة، من أسهل ما يكون. ولكن ذلك لا يزن كثيرًا في ميزان المعرفة العلمية ذات القدرة على البقاء في ما وراء اللحظة التاريخية. الصعب في هذا السياق هو المجدي، سواء في فهم الحدث أو في الاستفادة منه. والمجدي هو طرْح الأسئلة وتوثيق المعلومات، ومن ثمَّة البدء في بناء الصورة على أسسٍ "علمية"، على قدر ما تحتمله المعرفة التاريخية من ذلك.

سعت هذه المقالة إلى التركيز على الخطوة الأولى، وهي لا تكتمل ولا تكون مجدية في ذاتها من دون البدء في الخطوة الثانية؛ أي حين تشتبك الأسئلة مع التوثيق في جدليةٍ مستمرّة وقادرة على إنتاج المعرفة التاريخية المنضبطة.



[1] لا يسعى هذا الطرح إلى بثّ روح اليأس والإحباط. المقصود هنا هو قضية تأريخية قابلة للاختلاف عليها. هذه القضية هي، إذا فرضنا قيام انتفاضة جديدة في مصر الآن، هل يمكن عدّ تلك الانتفاضة مرحلة جديدة في تاريخ ثورة يناير 2011، أم أنّها ستكون ثورة جديدة تمامًا. يميل كاتب هذه المقالة إلى الرأي الأخير. كما لا تمنع الإشارة إلى ما حدث في 25 يناير 2011 ثورة، من التساؤل لاحقًا عن كونها ثورة من عدمه. الإشارة إلى ذلك الحدث على أنه ثورة أصبح عرفًا عامًّا، يمكن لنا استخدامه للإشارة إلى ذلك الحدث التاريخي وإن لم يعْن ذلك بالضرورة التعامل مع توصيفه الشائع على أنّه مسلّمة يجب القبول بها. يشبه ذلك الإشارة إلى شخصٍ ما على أنّه "الرئيس" دون أن يعترف المشير نفسه بشرعية ذلك الرئيس أو حتى يقتنع بامتلاكه السلطة الفعلية في دولته.

[2] أذكر هذا المثال وأنا أعي أنّ تشو إنلاي كان يتحدث عن تظاهرات الطلبة الشهيرة في باريس عام 1968، وليس عن الثورة الفرنسية نفسها كما هو شائع. بيد أنّ تتابع الدراسات عن الثورة الفرنسية يؤكّد على صدق هذه العبارة حين يتعلق الحديث بها أيضًا.