تشترك الثّورة السوريّة مع باقي الثورات العربيّة الأخرى في أنّ شعارات الحراك الشعبيّ الاحتجاجيّ وأدبيّاته السياسيّة لم تتطرّق للقضايا القوميّة المصيريّة الكبرى، واقتصرت على الإطارين المطلبيّ والسياسيّ المتمثّل في قضايا الحرّية والديمقراطيّة. والحقيقة أنّ ابتعاد الحراك الثوريّ العربيّ عن طرح القضايا المصيريّة ليس مستغربًا. فالثّورة عمومًا، هي ثورةٌ على الاستبداد وتتوجّه بشكلٍ طبيعيّ للتّركيز على هذا الموضوع، وتصبّ الطاقات كلّها في إسقاط النّظام. والحَراك الاجتماعيّ نفسه يقاوم تشتيته في قضايا أخرى، سواء كانت مصيريّة أم لا. وعلى خلاف حالتي تونس ومصر عشيّة الثورة، فإنّ اتّجاهات الرّأي العامّ في سورية[1] كانت متناقضة مع النّظام اجتماعيًّا وسياسيًّا على مستوى التّنمية والحرّيات، وليس على قضايا السّياسة الخارجيّة السوريّة ولاسيّما الموقف من الصّراع العربيّ الإسرائيليّ ودعمه لحركات المقاومة العربيّة (حزب الله، وحماس).
لذلك استند كثير من المحلّلين العرب في تفسير تأخّر رفع شعار "إسقاط النّظام" في حركة الاحتجاجات في سورية مقارنةً بسرعة طرحه في كلٍّ من تونس ومصر إلى التّقاطعات الشعبيّة مع النّظام السياسيّ في هذه المواقف. وغالبًا ما انحصر النّقد الشعبيّ للنّظام السوريّ من هذا الجانب في براغماتيّته المفرطة في العلاقة مع أميركا ومحاولة إقناع الولايات المتّحدة بأهميّته الإستراتيجيّة حتّى لو كلّفت هذه المحاولات العبث بأمن البشر ومصالحهم وحياتهم، وتدخله في الحرب على العراق إلى جانب القوّات الأميركيّة في حرب الكويت، ومواقفه في قصف تل الزعتر وحرب المخيّمات، وحتّى موقفه من المقاومة اللبنانيّة في بعض المراحل التي سبقت رهانه الكامل عليها. وكان هذا مصدر النّفور الأساسيّ في الرّأي العامّ السوريّ والعربيّ من سياسته الخارجيّة، ولم يكن المصدر التزامه بالقضايا العربيّة ورفضه التّعامل الأميركيّ بالإملاء.
لم تستطع الحركة الاحتجاجيّة السوريّة تحقيق الحسم السّريع لبلوغ أهدافها، وأسهم طول المدّة الزمنيّة في دخول اللاعبين الدوليّين والإقليميّين - بمصالحهم وتوجّهاتهم- على خطّ التّأثير المباشر في تطوّر مسار الثورة السوريّة، ولاسيّما بعد شهر آب / أغسطس 2011، الأمر الذي أدّى إلى إقحام القضايا المصيريّة ضمن النّقاشات السياسيّة (مع وضدّ إسقاط نظام الاستبداد) نتيجة وزن سورية الإستراتيجيّ ودورها ضمن التّفاعلات الدوليّة والإقليميّة. وقد ترافق ذلك مع ظهور كيانات سياسيّة للمعارضة السوريّة تجلّت في "المجلس الوطنيّ" و"هيئة التّنسيق الوطنيّة". وقد تولّت هذه الكيانات قيادة التّفاعلات السياسيّة السوريّة من المواقف الدوليّة المستجدّة، وخاصّةً الغربيّة منها. والحقيقة أنّه من الخطأ حصر الثّورة السوريّة في هذه الكيانات فهنالك قوى محليّة وقطريّة، عفويّة ومنظّمة، منشغلة بعمليّة إسقاط النّظام. وهي قلّما تعبّر عن مواقف وبرامج سياسيّة. وليس لدينا سببٌ ليساورنا الشكّ في أنّها تحمل مواقف تفريطيّة في الشّؤون الوطنيّة والقوميّة، ولاسيّما أنّ شعارات الشّارع تتّهم النّظام نفسه بالتّفريط. ومن هنا، يتمحور التّحليل على الكيانات السياسيّة التي تعبّر عن مثل هذه المواقف. ولا يجوز الاستخفاف بها حتّى لو لم تكن هي التي تنظّم الحَراك أو تقود الثّورة. وهي لا تدَّعي ذلك. فهنالك قيمة للكلام الذي يكتب ويُقال في هذه المرحلة، على اعتبار أنّ خطاب بعض القوى ينطوي على ارتباكٍ في مفاهيمها السياسيّة، يتجلّى في اتّهامها الدّائم للنّظام بأنّه نظام "غير مقاوم"، وأنّه "فرّط" في القضايا القوميّة. وفي الوقت ذاته، نجد في أدبيّاتها السياسيّة ومنهج عملها طروحات تحاكي الغرب بلغة "تقديم التّنازلات" وتؤيّد بصورةٍ معيّنة نهج "الاعتدال" العربيّ الذي يرفض المقاومة، ولا يتّهم سورية أو حزب الله بأنّها غير مقاومة، بل يرى المقاومة ذاتها شيئًا مرفوضًا، ويؤيّد نهج التّفاوض والحلول السلميّة، ويعدّ نهج المقاومة مسيئًا للعلاقات مع الغرب، ومصدرًا لـ"عدم الاستقرار".
و قد يُفسَّر ذلك في إطار السّلوك السياسيّ للمعارضات المنظّمة التي تميل إلى التضادّ مع أنظمة الحكم في سياساتها بشكلٍ عامّ، بما في ذلك السّياسة الخارجيّة؛ لكنّنا نجد في الحالة السوريّة أنّ هذا التضادّ لا ينطوي على اعترافٍ من كيانات المعارضة بهذا التّضادّ، بل بالمزايدة على النّظام في نهج "الممانعة" من دون أن تتبنّى هي الممانعة في برامجها السياسيّة.
فهي في خطابها السياسيّ الموجّه للغرب، لا تتّهم النّظام بأنّه غير ممانع بل تتخلّى عن الممانعة وتتحدّث بشكلٍ عامّ عن الحلول السلميّة والتوقّف عن سياسة "تصدير المشاكل" التي ترتسم في ذهن الغرب عن النّظام. ويعود ذلك إلى عقليّةٍ شموليّة لا تكتفي بالتّركيز على الاستبداد والظّلم كسببٍ كافٍ لتغيير النّظام وإقناع الرّأي العامّ بعدالة تحرّك الثورة وضرورة نصرته. فتقوم بعض القوى بنفي صفة الممانعة والمقاومة عن النّظام أمام الرّأي العامّ العربيّ، وتعدّ هذه الأمور تهمةً أمام الغرب وتتبنّى خطًّا معتدلًا، في حين أنّ مهمّة القوى الثوريّة هي التّركيز على الاستبداد والفساد والنّظام الأمنيّ وحقّ الشّعب السوريّ في التحرّر، وهذا وحده يكفي ليكسب الثّورة صدقيّة. فلا يجوز أن تكون مواقف النّظام الخارجيّة سببًا لتأييد الاستبداد، ولا يجوز أن تقدَّم كسببٍ لإسقاطه.
ولا يعود تعقّد المشهد السوريّ إذًا إلى طبيعة نظام الحكم القائم فحسب، بل إنّ موقع سورية الجغرافيّ وأهميّته الجيو- سياسيّة، وتشابك دورها مصيريًّا مع قضايا الصّراع العربيّ- الإسرائيليّ، وتفاعلات أدوار اللاعبين الجيوستراتيجيّين الدوليّين والإقليميّين؛ كلّها عوامل فُرضت مدخلاتها في مسار الثّورة السوريّة. أمام هذا الواقع، بدأت تظهر سيناريوهات عديدة عن طبيعة النّظام السياسيّ المستقبليّ في حال تمّ إنتاج التّغيير، وماهيّة سياسته الخارجيّة، ولا سيّما الموقف من الصّراع العربيّ الإسرائيليّ (الجولان، فلسطين)، وموقفه من إيران، ومستقبل حركات المقاومة العربيّة، والعلاقة مع الغرب، والنّظرة إلى إسرائيل، والتّموضع الإقليميّ خاصّةً في ظلّ الاستقطاب الحاصل في المنطقة. وهذا ما يدفعنا إلى عمليّة مراجعة واستقراءٍ تاريخيّ وآنيّ لمواقف قوى المعارضة في سورية من هذه القضايا، في محاولةٍ للخروج باستنباطٍ سياسيّ يؤشّر عن توجّهاتها في حال وصولها إلى الحكم، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالصّراع العربيّ الإسرائيليّ. وسنحلّل هذه المواقف في مرحلتين، قبل الثّورة الشعبيّة وبعد انطلاقها لمراقبة الثّبات والتّغيير في خطّها العامّ النّاظم لرؤيتها السياسيّة.
[1] نقول اتجاهات الرأي العام، وليس بالضرورة الأحزاب والحركات المعارضة كافّة.