في إطار الميراث التاريخي المشترك والحوار الجغرافي والمصالح المتبادلة بين العرب والأتراك. عقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات مؤتمرًا علميا بتاريخ 18-19 مايو 2011 تحت عنوان " العرب وتركيا تحدّيات الحاضر ورهانات المستقبل". وقد تناول المؤتمر خمسة محاور أساسية في العلاقات العربية والتركية شملت المواضيع التالية: التاريخي/ المستقبلي، والسّياسي /الاستراتيجي، والاقتصادي والطّاقة والمياه والمحور الاجتماعي.
واختُتم المؤتمر بجلسة تفاكر حواري حضرها وساهم فيها ضيوف المركز من الباحثين الأكاديميّين والمتخصّصين، وقد ناقشت الجلسة موضوعيْن أساسيّين هما:
- ماذا تعني العلاقات العربية التركية بالنّسبة إلى العرب؟ وهل يمكن تنسيق موقف عربي إزاء العلاقات العربيّة التركية؟ وما هو شكل التّنسيق وشكل العلاقات؟
- هل يصلح النّموذج التركي مثالاً للحركات الإسلاميّة العربية؟
تَوافق المشاركون بشأن مركزيّة العلاقات العربيّة التركية وأهميّتها في سياق الثّورات الرّاهنة في الوطن العربي، فتركيا بديلٌ استراتيجي مهمّ يتمتّع بمزايا مثل الإنجازات الاقتصاديّة والتطوّر الدّيمقراطي والقبول العالمي سواء مع الغرب، أو روسيا، أو الصّين.
وتوافق المشاركون أيضا على أنّ التوجّه التركي نحو الوطن العربي هو توجّه استراتيجي. فقد كانت هناك تيّارات عربية متشكّكة في استراتيجيّة هذا التحوّل باعتباره وسيلة للضّغط على الاتّحاد الأوروبي. ولكن التيّار المتشكّك تراجع بشكل واضح تحت تأثير المؤشّرات الدالّة على حدوث هذا التحوّل.
والعلاقات العربية التركية تعني بالنسبة إلى العرب شريكًا استراتيجيًّا يوسّع من نطاق البدائل المتاحة. ويساهم في تعديل الموازين الإقليمية، والاستفادة من الخبرات التنمويّة والإصلاحية التركيّة. فضلاً عن أنّ تركيا هي إحدى البوّابات المهمّة أمام العرب للارتباط مع آسيا الوسطى بطريق " الحرير الجديد" عبر آسيا.
لم تعد النّظرة العربيّة إلى تركيا على أنّها وسيط بين العرب وإسرائيل وإنّما على أنها مساندٌ للحقوق العربيّة. وقد تبلورت تلك النّظرة بعد الهجوم الإسرائيلي على قافلة أسطول الحرّية. ولكن ليس من الواضح بعد إذا ما كانت تركيا مقتنعة بهذه المقاربة العربيّة الجديدة.
هناك توافقٌ عربي على بناء علاقات مشاركة مع تركيا، لكن هناك مشكلات تتعلّق بترجمة هذا التّوافق إلى سياسات تطبيقيّة لعدّة اعتبارات أهمّها: أنّ سياسات الدّول العربية تجاه تركيا ومصالحها معها ليست متماثلة كما أنها تتّسم بالقطريّة الفردية. إضافةً إلى أنّنا بصدد علاقة غير متجانسة حيث يوجد في تركيا حزبٌ سياسي له برنامجٌ شامل للتّغير في إطار ديمقراطي، كما أنّه ينافس دوريًّا ليحصل على ثقة النّاخبين الأتراك. لكن الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى الدّول العربية حيث لا يسود مثل هذا البرنامج وإن كان في مرحلة الضّغوط الدّولية.
كما أنّ حزب العدالة والتنمية في تركيا يقدّم رؤيةً لهويّة تركيا في العالم. وليس للعلاقة بين الدّين والدّولة فهذه القضيّة محسومة في تركيا قبل وصول الحزب إلى الحكم لكن في البلدان العربية لا تزال قائمة ولا يزال هذا الموضوع غير محسوم سواء من النّاحية الدستورية أو الممارسة.
وفي هذا الإطار طرح المشاركون عددًا من الأفكار حول كيفيّة تنسيق العلاقات العربية والتركية. لعلّ أوّلها هو " مَأْسسة " تلك العلاقات من خلال دمْج الأطر المؤسّسية الفرعيّة الرّاهنة بين تركيا وبعض الدّول العربيّة وتحويل "المنتدى العربي - التركي" الموقّع من بعض الدّول العربية عام 2007 إلى إطار مؤسّسي تنظيمي شامل وله مقرّ في تركيا وآخر في جامعة الدّول العربية. ومن الممكن هنا الاستفادة من خبرات المنتديات الصّينية - العربيّة، والصّينية الأفريقيّة لبناء منتدى متعدّد الجوانب للحكومات ورجال الأعمال والأكاديميّين والفنانين والأدباء ومنظّمات المجتمع المدني الأخرى. وتكوين مؤسّسة ثقافيّة مستقلّة تُشْرف على الأنشطة الثّقافية والتّعليميّة. أمّا الثاني فهو التّنسيق العربي التركي في مجالات التربية والتّعليم والثّقافة مع التّركيز على الكتب المدرسيّة في التّاريخ والتي تروي تاريخ كلّ طرف للآخر.
كما أشار بعضُ المشاركين إلى أهميّة التّنسيق العربي التركي في المجال المائي باعتبار تركيا دولة منبع وكذلك في مجال ترشيد استخدام المياه وإنتاجها من خلال تقنيات تحلية مياه البحر مع التّحذير من قبول مشروع بيْع المياه للدّول العربية لأنّه يُحْدِث سابقة خطيرة لتبيع دول منبع أخرى المياه للدّول العربية. كما أشار بعضُ المشاركين إلى أهميّة وجود منتدى عربي يطرح الأفكار والسّياسات على العرب والأتراك بحيث تأتي المبادرات من العرب متفاعلةً مع التّيارات التركيّة وفي إطار بناء علاقات مؤثّرة. وقد كان التوجّه العامّ للمشاركين نحو ضرورة بناء علاقات أساسُها شبكة مشتركة من المصالح مستفيدةً من التّشابه الثّقافي والحضاري والتاريخي العربي التركي. والتّحذير من بناء علاقات عربية - تركية تقوم على مفهوم ما يسمَّى العثمانيّة الجديدة. وفي هذا الإطار أشار بعضُ المشاركين إلى أهميّة وجود حوار بين الدّول العربية على المستوييْن الرّسمي وغير الرّسمي للتوصّل إلى توافق عربي حول أساليب العمل المشترك مع تركيا.
وأخيراً أشار بعضُ المشاركين إلى أهميّة عدم الضّغط على تركيا لتعديل سياساتها الدّولية الأخرى بقدر يتخطّى ما تطيقه تركيا. وأن يعملوا على الاستفادة بالممكن والمتاح من مواقفها الحاليّة مع السّعي إلى تطويره تدريجيًّا.
وتدارس الباحثون بنقاشٍ معمّق التّجربة التركيّة لجهة العلاقة بين حزب له طابع إسلامي، هو حزب العدالة والتّنمية، وبين الدّيمقراطية وما إذا كانتْ هذه التّجربة صالحة لتقتدي بها الحركات الإسلامية في الوطن العربي ومتوافقة مع فكرة الدّولة الدّيمقراطية. ولاسيّما في ظلّ بروز الحركات الإسلاميّة بقوّة بعد الثّورات العربيّة وتصاعد السّجال حول دورها في المرحلة المقبلة في إعادة البناء السّياسي في البلدان العربية.
وأشار المشاركون إلى تمايز التّجربة التركيّة في هذا المجال. وقد برزت اتّجاهات عديدة خلال النّقاش اتّفقتْ معظمُها على أنّ " النّموذج التركي شأنه شأن النّماذج الأخرى، لا يمكن أن يكون قابلاً للاستنساخ" لعدّة عواملَ منها:
- أنّ السّياق التّاريخي والثّقافي لتجارب التّحديث يختلف في تركيا عمّا هو موجود في الوطن العربي.
- أنّ الحركة الإسلاميّة في تركيا جاءت في ظلّ وجود دولة حقيقيّة قائمة ومؤسّسات متجذّرة، وقبلت بما هو قائم من علمانيّة ممأْسسة مع السّعي لتلطيف العلمانيّة الموروثة في اتّجاه المصالحة مع الهويّة.
- أنّ الحركة الإسلاميّة في تركيا تطوّرت في ظلّ وجود هامش كبير من الدّيمقراطية أتاح ظهور أحزاب ذات طابع إسلامي انخرطت في العمليّة السّياسية البرلمانية والبلدية بما هي نزول إلى حاجات المواطنين والتعرّف إلى همومهم ما أنتج نموذجًا واقعيًّا.
غير أنّ اتّجاهًا يرى أنّ هناك مبالغة في النّظر إلى النّموذج التركي ويرى أنّه غير صالح لأنّه "تفتيتي"، ويربط استفادة الحركات الإسلاميّة من النّموذج التركي بالابتعاد عن العنف واستخدام السّلاح الذي لجأتْ إليه مجموعاتٌ إسلاميّة في العقود القريبة الماضية.
كذلك يربط هؤلاء انتفاخ صورة النّموذج التركي بضعف الواقع العربي الذي جعله مفتوحًا على قبول كلّ ما يرِد إليه.
كذلك يرى آخرون أنّ حزب العدالة والتّنمية لا ينظر إلى الدّولة إلاّ كجسر للعبور إلى الإرث التّاريخي، العثماني الهويّة، ولا يمكن للأتراك أن يتجاوزوا العرب لأنهم جزءٌ من هذا الإرث.
ويدعو هؤلاء وغيرهم، في المقابل، إلى النّظر بإيجابيّة وعقلانية إلى التّراث الفكري الإسلامي والحاجة إلى قراءة تيّارات التّجديد في العالم العربي والاستفادة منها لا سيّما أنّ العديد من روّاد هذا الفكر قد اقتربوا من فهم تصالحي للدّين مع الحداثة سواء في سوريا أو في مصر. بل يرى هؤلاء أنّ الإرث الفكري الإسلامي المعاصر هو أغْنى بكثير ممّا هو في تركيا ويمكن أن يوفّر تفاؤلاً عمليًّا.
أمّا مجالاتُ استفادة الإسلاميّين العرب من النّموذج التركي، فيمكن أن تكوّن عبْر القبول بمبدأ تداول السّلطة ووضع الدّولة خارج سياسات الحكم والحزب الواحد. ومن شروط تحقيق ذلك قيام مؤسّسات قويّة للدّولة والمجتمع المدني.
كما تركِّز هذه النّظرة على أنّ النّموذج التركي قابلٌ للاستلهام بقدر ما تضع الحركات الإسلاميّة في الوطن العربي برنامجًا سياسيًّا واجتماعيًّا لما يمكن أن تقدّمه كحلول لقضايا المجتمع والدّولة. وليس لجهة استخدام الشّعارات الأيديولوجيّة وحدها. وهذه مهمّة تتّصل بالحركات الإسلاميّة لا بالنّماذج الأخرى.
كما أنّ نجاح الاستفادة من النّموذج التركي يكون بالخروج من حالة الذّرائع(الاستعمار وإسرائيل) التي يمثّلها "النّموذج العربي" إلى حالة البدائل العمليّة في تلبية مطالب المواطنين من دون التّنازل عن الهويّة الحضاريّة والسّيادة الوطنيّة والقوميّة.
وفي هذا الإطار فإنّ بعض السّلوكيات المستجدّة للحركات الإسلاميّة لا سيّما في تونس ومصر قد تكون مؤشّرات مشجّعة على الاعتقاد في رغبتها في الاستفادة من التّجربة التركيّة.
وإذ تختصر المقاربات بأنّ النّموذج التركي حالةٌ موحية وأن خصوصيّته الأساسيّة هي نجاحه في الانتقال إلى الحداثة مع الحفاظ على الهويّة الإسلاميّة، فإنّ الجميع شدّد على ضرورة أن يُنْشئ العرب، لجهة علاقة الحركات الإسلاميّة بالدّولة، نموذجَهم الخاصّ بهم الذي يراعي تاريخهم وثقافتهم والتّحدّيات التي تواجههم.
مع التّأكيد على أنّ المسؤوليّة لا تقع على عاتق طرفٍ دونَ آخر. فالسّلوكيات المعتدلة للحركات الإسلاميّة في الوطن العربي وقبولها باللّعبة الدّيمقراطية يوازيه أيضا ضرورة وجود مؤسّسات تتيح توفير الدّيمقراطية واستيعاب الجميع ولا تهمِّش أحدًا.
الباحثون الذين شاركوا في النّقاش:
الدكتور عزمي بشارة، الدكتورة فريدة بناني، الدكتور محمد المسفر، الدكتور فيصل دراج، الدكتور فايز الصياغ، الدكتور وجيه كوثراني، الدكتور عبد الوهاب القصّاب، الدكتورة هدى حوا، الدكتور فارس بريزات، الأستاذ جمال باروت، الدكتور محمود محارب، الدكتور سيار الجميل، الدكتور محمد نور الدين، الدكتور محمد السيد سليم، الدكتورة فرح صابر، الدكتور هشام القروي، الأستاذ محمد عبد القادر، الدكتور مصطفى اللباد، الدكتورة وصال العزاوي، الدكتور سمير العيطة، الدكتور منير الحمش، الأستاذ عصام الجلبي، الدكتور عبد المجيد عطار، الأستاذ ناجي حرج، الدكتور طارق المجذوب، الدكتور ناظم يونس عثمان.