العنوان هنا
مقالات 17 مارس ، 2011

الثورات العربية.. وقصور التفكير الغربي عن الديمقراطية في المجتمعات العربية

الكلمات المفتاحية

حمزة المصطفى

باحث مساعد. حاصل على الماجستير في العلوم السياسية والعلاقات الدولية من معهد الدوحة للدراسات العليا. سكرتير تحرير مجلة "سياسات عربية". عمل باحثًا تنفيذيًا في مركز الشرق للدراسات. صدر له عن المركز العربي كتاب: "المجال العامّ الافتراضي في الثورة السورية: الخصائص، الاتجاهات، آليات صناعة الرأي العامّ". تتركز اهتماماته البحثية في قضايا التحول الديمقراطي، والحركات الإسلامية والجهادية.

تشهد المجتمعات العربية واقعاً مغايراً ومختلفاً عن الستاتيك الذي شهدته على مستوى نظام الحكم خلال العقود الماضية، يترافق ذلك مع نشوة عارمة وتطلعات جمعية نحو التغيير لإنتاج حالة ثورية في العديد من البلدان العربية أرسى دعائمها نجاح الثورتين التونسية والمصرية، والزخم اليومي الذي تكتسبه الثورات في ليبيا واليمن.


العرب والديمقراطية

شكلت هذه الثورات نقطة انعطاف وتحول هامة في تاريخ العرب الحديث، الذي خلا من تجارب مماثلة باستثناء إرهاصات نادرة فشلت بعضها أو تمّ إفشالها. وكانت النتيجة بغضّ النظر عن المسببات استقرار أنظمة حكم أوتوقراطية كرّست نظام الحزب الحاكم الذي تحوّل إلى حزب للحاكم يجمع بعيداً عن برنامجه السياسي والإيديولوجي مجموعة من المنتفعين والانتهازيّين الذين شكلوا تحالفاً مقدسًاَ صعب الاختراق استناداً إلى بعده السياسي والاقتصادي و الأمني. ما خلا ذلك كان هناك بعض مظاهر المشاركة الصورية، كانتخابات تعددية حزبية أو رئاسية، فصّلت الدساتير العربية والقوانين على مقاس الرئيس الواحد وأغلبية الحزب الحاكم.

إن أبرز ما حملته الثورات العربية هو عنصر المفاجأة بالنسبة إلى الأنظمة، على اعتبار أن الحالة العربية قبلها لم تحمل تراكمات موضوعية يعتدّ بها تسهم في إنتاج الحالة الثورية الحاصلة، التي استهدفت بشكل مباشر رأس الهرم مقدمةً لإسقاط النظام القائم وإحداث التغيير.

لم يقتصر عنصر المفاجأة على الأنظمة فحسب، بل امتد إلى الرأي العام والنخب السياسية والثقافية في الوطن العربي، التي استشرفت أغلبها التحول الديمقراطي عبر آليات انتقال مختلفة لم تندرج الثورات الشعبية ضمنها، على حين أن بعضها والتي حاكت مثل هذه الثورات والظروف الموضوعية لإنتاجها لم تحدّد جدولا زمنيا لإنضاج التحول الديمقراطي وثبات الديمقراطية معطى ثابتاً و محدداً يحكم آليات عمل النظام السياسي.

أمّا على مستوى الفهم الشعبي العربي - ولسنا هنا في إطار جَلد الذات- فقد شكلت الديمقراطية معطى غربياً في المفهوم والممارسة، أسهمت حالة الاغتراب الاجتماعي والسياسي بين الشعوب والأنظمة في تكريسها، إلى حد وضعنا أنفسنا كشعوب في القوالب الغربية التي أنتجها الفكر الأكاديمي الغربي باعتبار أن " المغلوب مولع بتقليد الغالب" بحسب ابن خلدون.

بيد أنّ الثورات العربية كشفت عن أوجه قصور عديدة في العقل الغربي وانحرافً في التحليل عن التحول الديمقراطي في المجتمعات العربية. ومن أبرز هذه الأوجه: 


قصور نظري تجاه التغيير في المجتمعات العربية

انطلقت الرؤية الغربية للتغيير في المجتمعات العربية من معادلة ثنائية الطرف هي (الإسلام في مقابل الأنظمة) وغيبت مختلف العوامل والفاعلين الآخرين. ورغم أن التفكير الغربي أقر بأن هذه الأنظمة " التوتاليتارية" عاجزة عن معالجة المدخلات في صندوقها الأسود وأن وجودها هو عائق أمام الديمقراطية. إلا أنها اعتبرت أن التغيير الذي سيحصل بشكل راديكالي أو عن طريق الانتخابات سيؤدي إلى تشكل حالة سياسية ثيوقراطية حاكمة ستشكل عائقاً أمام الحتمية التاريخية لمسار تطور المجتمعات البشرية التي ستبلغ نهايتها مع إرساء الديمقراطية الغربية المعتمدة على أسس ليبرالية.

لذلك فإن الصورة المسبقة للغرب عن التغيير في هذه المجتمعات ستسهم في إرساء أنظمة حكم إسلامية بالاستناد إلى تجارب عديدة كالثورة الإيرانية 1979 والتجربة السودانية 1985. وهذه الأنظمة ستكون مناهضة للحداثة والتقدم باعتبار أنّ العقل العربي مرتبط بالمعتقدات الدينية للمجتمعات الإسلامية " الفاشلة". وهو ما سيسهم في إنتاج حالات كأسامة بن لادن وطالبان وغيرها.

من هنا، كان التفكير الأكاديمي سابقاً منحصرا في كيفية تقويم أنظمة الحكم القائمة وتجميلها وجعلها أكثر انفتاحا دون إحداث تغييرات بنيوية في توجهاتها " الحداثوية". وبحسب الموجة الثالثة من الديمقراطية التي نظر إليها صموئيل هنتنغتون وبعض المفكرين الغربيين منتصف السبعينات فإن تغيير النظام لا يؤدّي بالضّرورة إلى زوال توجّهاته. وعليه لم يكن من حرج لدى بعضهم اعتبار أن المدخل للديمقراطية قد يكون عبر انقلاب عسكري على غرار ما جرى في البرتغال عام 1974 ثم إسبانيا واليونان.

انطلاقا من ذلك تبنَّى العديد من الأكاديميين والسياسيين الغربيين إسقاط هذه الفكرة على الأنظمة الديكتاتورية العربية، كونها تسهم في إنتاج مدخلات جديدة يضطر النظام السياسي إلى التعاطي معها لتحقيق نوع من الاختلاف عن النظام السابق، كانتخابات برلمانية في إطار تعددية حزبية، وغيرها من المظاهر الديمقراطية. لكن التجربة الجزائرية عام 1992 حوّلت الأنظار عنها باعتبار أن الممارسات الديمقراطية حتى في ظلّ انقلاب عسكري ستؤدي إلى نفس النتيجة وهي أن الإسلام السياسي هو البديل عن الأنظمة.

بعد ذلك، برز تفكير أكاديمي غربي ركّز على ما سمّي " الحكم الصالح" أو " الحكم الرّشيد" واعتبر هذا التنظير ضرورة للمجتمعات، التي لم تنتج بالضرورة أنظمة ديمقراطية مستقرّة ويمكن تطبيقه في أنظمة هجينة تجمع بين ديمقراطية شكلية وبعض مظاهر الاستبداد. الأمر الذي يسهم في المحافظة على الأنظمة الحالية ويقلّص احتمال تغيير راديكالي جوهره ديني. من ثم جاءت أحداث الحادي عشر من أيلول/سبتمبر لترجع التفكير الغربي عن التغيير الديمقراطي في العالم العربي إلى الدائرة الضيّقة من المعادلة ثنائية الطرف وهي ( الإسلام مقابل النظام). مع ذلك كان تعريف روبرت دال للحكم الأفضل والذي تم تحريفه هو الأنسب لمحاكاة أنظمة مشابهة للأنظمة العربية " الحكم الأفضل: هو حكم الأوصياء أو حكومة المؤهّلين لأنهم أكثر قدرةً على فهم مصالح المجتمع وتحسين احتياجاته وحلّ مشاكله".


انحراف التحليل الأكاديمي الغربي للإسلام

كانت علاقة الإسلام بالعنف والحداثة والعقلانية محطَّ جدل كبير في التفكير الأكاديمي الغربي، وكانت الفكرة الرئيسة لدى العقل الغربي هي أن جوهر الإسلام يجعله مناهضا للحداثة والتقدم، وأن الإسلام هو الذي يجعل المجتمعات العربية والإسلامية مقاومة للحداثة. وبحسب برنارد لويس فإن الإسلام ما زال يعيش في حالة صدمة مع الحداثة الأوروبية منذ القرن التاسع عشر، وأن المشاكل التقليدية التي تعاني منها المجتمعات العربية و الإسلامية تنبع من الآثار المزعجة لدخول الحداثة على البيئة الاجتماعية الشرقية. الأمر الذي يجعل العقل العربي غير مستعدً للتعامل مع مفاهيم التقدم والحداثة والديمقراطية، لأنه وجد نفسه بين نقيضين هما مسار تطوّره التقليدي ومتطلّبات الحداثة.

 في السياق ذاته وجد فرانسيس فوكوياما رغم تراجعه عن أفكاره التي صاغها في نظريته الشهيرة " نهاية التاريخ"، أنّ المجتمعات الإسلامية مقاومة للحداثة الغربية، وعليه يبني أن " المجتمعات الإسلامية غير جاهزة للديمقراطية للغربية" ما يذكّرنا بمقولة دأبت أنظمة الحكم العربية تكرّرها لتبرير حكمها الشمولي وهي " أن المجتمعات غير جاهزة بعد لتقبل الديمقراطية".

ومن خلال استقراء أفكار عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر نجد أيضا نتائج مشابهة تتجلى في أن العقل العربي قد فشل في إنتاج حالة من الحداثة وفق النمط الأوروبي بسبب المعتقدات الدينية رغم أن المجتمعات الإسلامية مرّت بنفس المراحل التي شهدتها المجتمعات المسيحية في أوروبا حتى القرن التاسع عشر. وبحسب فيبر فإن سبب فشل العقل العربي ونجاح الفكر الأوروبي المسيحي مرتبط بأن العقل الإسلامي لم يتجرأ بما فيه الكفاية ليشكّك في المعتقدات الدينية " القرآن الكريم"، لذلك هيمنت الثيوقراطية وهزمت العقلانية في العالم العربي والإسلامي.

قد نجد لهذه الأفكار مبرّراتها فقط، إذا تم تجاهل التأثير السّلبي للغرب في هذه المجتمعات، خاصة أنه وحتى مطلع القرن التاسع عشر كانت عمليات التحديث تجري بشكل متوازٍ في أوروبا والعالم العربي والإسلامي. ما أسهم في زيادة الهوّة بينهما هو أن الغرب الاستعماري تعاطَى مع هذه المجتمعات على أنها قواعد للحصول على الموادّ الخام وسوق لتصريف السلع المصنعة ولم نجد سوى قليل من الاهتمام بتعليمها وتطوير صناعاتها المحلية، وهو سبب بسيط يمكن أن يدحض ما سبق ويؤكّد أنّ الإسلام كـ "دين" ليس له علاقة بالظروف التي عاشتها المجتمعات خلال الفترات السابقة.


الثورات العربية... وتقويم الخلل

افتتحت الثورات العربية ربيعاً للديمقراطية في الدول العربية، وهي وإن عكست الوعي السياسي للمواطن العربي المتقدم على أنظمته، فقد أثبت القصور والانحراف والنزوع الذي انطبع في الفكر الغربي استجابة هذه الشعوب للديمقراطية والحداثة ويمكن الدلالة على ذلك من خلال النقاط الآتية:

  • أسقطت الثورات العربية ثنائية الفهم الغربي المقدس ( الإسلام مقابل الأنظمة)، وجاءت كرد فعل شعبي عارم على استمرار حالة الإذلال والقهر التي مارستها تلك الأنظمة على المجتمع ككل وليس فقط ضدّ القمع الذي مارسته على الحركات والأحزاب الإسلامية، التي،وفي بلدان عديدة ( تونس، مصر، ليبيا)، لم تسهم في إنتاج الثورة بل تفاجأت بها وحاولت الالتحاق بركبها باعتبارها ثورة شعبية حاضنة لجميع التيارات السياسية على اختلاف توجهاتها. كما خلت هذه الثورات من شعارات دللت على نزوع لإقامة أنظمة إسلامية بدلا من السابقة، وركّزت على بناء النظام السياسي الذي تسوده قيم المواطنة.
     
  • من خلال استقراء واقع الثورات بشكل منفرد. نجد أن كل دولة أنتجت ثورتها وانتفاضتها بما يتلاءم مع خصوصيتها الثقافية وبنية مؤسساتها، فنجد أن الثورة التونسية بدأت حركة احتجاجية رفعت شعارات الفساد ومكافحة البطالة بعد صرخة الشاب محمد بوعزيزي ضد الظلم، ولعبت النقابات ممثلة في الاتحاد العام التونسي للشغل دوراً كبيراً في اتساعها وامتدادها إلى العاصمة، حيث رفعت شعارها برحيل بن علي، من ثم استمرت حتى إحداث القطيعة مع الحكم الماضي. أما في حالة الثورة المصرية فنجد أنها جاءت انتفاضة شبابية غابت عنها الشعارات بداية ما لبثت أن رفعت شعار "إسقاط النظام" منذ الأيام الأولى. واتسمت بنوع من الرقي والتنظيم السلمي والحضاري الذي عكس مستوى الثقافة السياسية في الشارع المصري خاصة وأنها افتقدت لقيادة واضحة. في حين شكّلت الحالة الليبية نموذجا مختلفاً نظراً لعدم وجود " نظام سياسي". واتخذت شكل حرب تحرير عمّت غالبية المدن وأنتجت قياداتها قبيل تحقيق أهدافها. وتخوض حرب الاعتراف بشرعيتها مع النموذج القذافي. وفي انتفاضات أخرى، خاصة في الملَكيات رفعت مطالب الملكية الدستورية وتحديد صلاحيات الملك دون إسقاطه باعتباره رمزا يمثل وحدة هذه الدول. وهو ما يدلل على أن لكل من المجتمعات العربية خصوصيتها التي تستطيع من خلالها إنتاج مفهومها الوطني الشامل.
     
  • بالنظر إلى المطالب التي رفعتها الثورات والانتفاضات العربية نجد أنها تجلّت في إرساء الحرية، والديمقراطية، وسيادة القانون بما يسهم في تكريس مفهوم المواطنة بشموليته. من هنا فإن مجموع هذه العوامل يشكل التعريف الإجرائي للعلمانية ووفقا للتعريف الغربي، خاصة إذا ما أخذ بعين الاعتبار الدين كعنصر له وظيفة اجتماعية جمعية وجامعة.
     
  • برهنت الثورات العربية من خلال ما حملته من شعارات وقيم مدنية وحضارية أن المجتمعات العربية والإسلامية ليست مناهضة للحداثة، وأن الظروف الخارجية والداخلية التي رافقت المراحل السابقة تعتبر السبب الرئيس الكامن وراء تأخّر هذه المجتمعات عن اللّحاق بركب الأمم المتطوّرة.

يمكن القول، إنّ الثورات والانتفاضات العربية على امتدادها بدأت تؤسّس لواقع عربي جديد قائم على الحرية والديمقراطية وسيادة القانون، وباستكمال الشروط السابقة مع تبلور الوعي الوجداني للهوية العربية كحامل إيديولوجي تتحقق الشروط اللازمة والكافية لنهضة الأمة العربية كأمة لها تاريخ حضاري يؤسّس لمستقبل مشرق.