العنوان هنا
مقالات 02 يناير ، 2014

الدَّولة التنِّين والثورة: تأمُّلات من وحي الثَّورات

الكلمات المفتاحية

عمرو عثمان

أستاذ التاريخ بقسم العلوم الإنسانية في جامعة قطر. تتركز اهتماماته البحثية في التاريخ الإسلامي والهيستوريوغرافيا واللغة والقانون والدراسات الإسلامية. له العديد من المقالات المنشورة في مجلات أكاديمية محكّمة. شملت كتاباته مؤلفات عن تاريخ المذهب الظاهري وأصول فقهه، ومقالات عن التاريخ العالمي، والتاريخ الفكري، والمنعطف اللغوي وأثره في الدراسات التاريخية، فضلًا عن مقالات أكاديمية في فروع الدراسات الإسلامية المختلفة.

في كتابه الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة والمأزق الأخلاقي للحداثة[1]، يستعرض الدكتور "وائل حلاق"، أستاذ الإنسانيات في "جامعة كولومبيا" الأمريكية، نشأة الدولة الحديثة، والفلسفة التي تقوم عليها، وتطوُّرها حتى أصبحت اليوم النمط المعياري للوحدات السياسية في العالم. كما يُناقِش "حلاق" أدوات الدولة (أي السلطة وفق تحديد "هانز كلسن" الشهير للإقليم والشعب والسلطة، بوصفها المكوِّنات الأساسية للدولة القومية الحديثة) في فرض سيطرتها على إقليمها و"رعاياها" بصورة حرفية - منذ ولادتهم، وحتى وفاتهم- من خلال جهازها البيروقراطي الضخم والمتشعب، ومؤسَّسات المراقبة الإكراهية، والتعليم، والصحة؛ إذ تمثل كل هذه تجلِّياتٍ نظامية معقَّدة ومحدَّدة، تسعى، بصورة منهجية، لفرض سيطرة الدولة على المجمتع والفرد معًا، بل وحتى على عمليات الجسد نفسه، كما فصَّل في ذلك المؤرخ والفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو". تُعدُّ مؤسَّسات الدولة هذه أدوات، تسعى الدولة من خلالها لتفعيل سيادتها التي تقوم - كما يشرح "حلاق"- على مبدأ متخيَّل خاص بإرادة التمثيل؛ حيث تصبح الإرادةُ الشعبية المتوهَّمة (القائمة على فكرة الأمَّة التي هي أيضًا بناء متخَيَّل) صاحبةَ السيادة على المصير الجمعي لرعايا الدولة. وباعتبارها ممثِّلة للسيادة، تصبح الدولة هي القِيمة العُليا التي يجب على الفرد أن يُعلي من شأنها دائمًا. فلا يوجد شيءٌ في إرادة المواطن النموذجي خارج الإرادة السيادية للدولة التي تعلو على كل الإرادات الفردية وغير الفردية. النتيجة المنطقية لذلك هي أن المواطن نفسه يمكن التضحية به من أجل الهدف الأسمى الذي هو بقاء الدولة وتفعيل إرادتها السيادية. وهكذا، تُعدُّ عملية التجنيد الإجباري في الجيش هي أكبر تجلِّيات سيادة الدولة على مواطنيها. فالتجنيد، ببساطة، يعني إعلان المواطن استعداده للتضحية بحياته نفسها من أجل بقاء الدولة، وإعلاءً لسيادتها.

ولكي تتحقَّق سيادة الدولة، فإنها تحتاج إلى قانونٍ يُعبِّر عن إرادتها السيادية. فالدولة الحديثة، التي لا يمكن تصوُّرها من دون تشريعٍ وقانون، هي أشبه بالإله من حيث احتكارها للتشريع؛ حيث إنه، حتى في الدول الحديثة التي تتبنَّى قانونًا دينيًا، يُعدُّ ذلك التَّبنِّي خيارًا للدولة، وتعبيرًا عن إرادتها، فالدولة هنا هي التي تُقِر القانون الدِّيني، وليس العكس. وطالما أن هذا القانون يُعبِّر عن إرادة الدولة السيادية، فإنه لا يمكن استئناف أحكامه عند سلطةٍ أعلى، كما يوضِّح "حلاق". وهكذا، فعندما يتحدَّى أي مواطنٍ قانون دولته، فإنه يكون قد وقع في تناقضٍ منطقيٍّ (حيث إن ذلك يُعدُّ بمنزلة تحدٍّ لإرادته هو نفسه، وهي، كما قلنا، إرادة زائفة أصلًا)، أو تورَّط في عملٍ عدائي يمثِّل نوعًا من السيادة البديلة التي لا بُدَّ للدولة من أن تتعامل معها بكل العنف؛ حتى تظل إرادتها السيادية هي وحدها صاحبة الوجود والسيطرة. يقتضي القانون الذي لا تستطيع الدولة أن تقوم أو تستمر دونه، بوصفه تعبيرًا عن إرادتها السيادية، إذًا، أدوات عنفٍ تُضفي عليها الدولة مشروعية قيمية وأخلاقية (فلا تُعدُّ عقوبة الإعدام، مثلًا، "قتلًا"). ويُعدُّ هذا الحق الحصري للدولة في ممارسة العنف، والتهديد به، لإنفاذ إرادتها القانونية السيادية، أحد أهم سمات الدولة الحديثة، ويمثِّل شرطًا أساسيًّا للسيادة الداخلية للدولة باعتبارها ممثِّلةً للإرادة القانونية، ومُمثَّلةً بها، حسب رأي "حلاق".

أدوات سيادة الدولة هى، إذًا، أدوات قهر وفرض للسيطرة في جوهرها. ولهذا السبب تحتاج تلك الأدوات إلى الرقابة والترشيد المستمرين؛ حتى لا يتحوَّل القدر المقبول منها مجتمعيًّا (تحت وهم الإرادة الشعبية المزعومة) لطغيانٍ سياسيٍ كاسح تسحق فيه أجهزة الدولة الأمنية والقضائية والتعليمية والإعلامية، بل وحتى التشريعية، الفرد؛ لإحكام سيطرتها المادية والثقافية عليه، حتى يصل إلى مرحلة الخضوع الكامل لها: جسديًّا، ومعنويًّا، وثقافيًّا. ولذلك تظهر في الدول "الأكثر ديمقراطية" (بمعنى الأقل استبدادًا وتسلُّطًا) منظَّمات المجتمع المدني التي تسعى للحد من سيطرة تغوُّل الدولة، ومقاومة نزعتها المستمرة إلى السيطرة على الفرد والمجتمع.

وعلى الرغم من التحديات التي واجهتها الدولة في العقود الماضية، فقد استطاعت التغلُّب على كل الفواعل غير "الدَوْليَّة" التي نازعتها سيادتها، أو التقليل من تأثيرهم على الأقل. وتظل الدولة اليوم هي نفسها "تنِّين" "توماس هوبز" في القرن السابع عشر. وطالما أن هذا التنِّين يقوم على استخدام العنف، بعد إضافة شرعية قانونية وأخلاقية عليه، بوصفه تعبيرًا عن إرادته السيادية (الإرادة الشعبية المتوهَّمة)، يصبح العنف -حسب رأي "حلاق"- هو السبيل الوحيد لإسقاط الإرادة السيادية القائمة، لتحل محلَّها إرادة جديدة. هنا يأتي دور الثورات، على اعتبار أنها أكثر الوسائل فاعلية في إسقاط إرادة سيادية ما، وتأسيس إرادة جديدة، وهي وسيلة قد تفلح في تحييد العنف إلى أقل درجاته (حيث يصبح دفاعًا عن النفس بالأساس)؛ بشرط الحفاظ على التماسك والزخم الثوري لفترة كافية لإرهاق أجهزة الدولة القائمة. بيد أن الثورة -على فاعليتها المحتملة- تظل كالذَّرَّة الملتهبة التي -إن انفجرت قبل الوقت المناسب- لا تدمِّر الإرادة السيادية المستهدَفة، ولكنها تنسف أسس السيادة الجديدة الناشئة نفسها.

عندما تقوم ثورةٌ في بلدٍ ما، يظهر غالبًا اتجاهان بين المنضوين تحت لواء الثورة على الدولة القائمة. يسعى الاتجاه الأول إلى القضاء الكامل والشامل على أدوات الإرادة السيادية للدولة القائمة (إسقاط الدولة/ السلطة)، بكل رموزها، ومؤسَّساتها وأجهزتها، وفلسفة حكمها (إن كان لها أي فلسفةٍ غير فرض السيطرة والقمع)، وتحالفتها الداخلية والخارجية. بعبارة أخرى، يسعى هذا الاتجاه "الراديكالي" إلى التدمير الكامل الذي يتبعه تأسيس جديد على قواعد جديدة تمامًا. أما الاتجاه الآخر "المحافظ" فينزع إلى تفضيل التفاوض مع الدولة القائمة؛ سواء لأنه لا يعترض على وجود مؤسسات الدولة في نفسها، معتقدًا أنها قابلة للإصلاح، وجاهلًا أو متجاهلًا لأسسها التاريخية والميتافيزيقية، أو لأن توجهه المحافظ يُعلي من قيم الأمن الأهلي والسلام الاجتماعي، ويفضل التغيير التدريجي الأقل عنفًا على التغيير الحاسم والسريع مع ما قد يستتبعه من اهتزاز شديد لأركان المجتمع نفسه. نظريًّا، يوجد لكل اتجاه ميزة نسبية ترجِّحه على الاتجاه الآخر. كما إن التاريخ به نماذج من ثورات سريعة وعنيفة: بعضها تلقائي، كالثورة الفرنسية؛ وبعضها سابق التخطيط من قِبَل جماعات "طليعية" تأخذ على عاتقها قيادة الجماهير وتوجيهها، كالثورة البلشفية. كما توجد نماذج للثورات "التفاوضية" التي تقوم على التفاوض بين القوى الثورية والدولة القائمة من جهة، وفيما بين هذه القوى نفسها من جهةٍ أخرى. وقد تكون الثورة التونسية -إذا قُدِّر لها أن يستمر نجاحها النسبي- مثالًا لذلك، رغم كل المعيقات والمؤامرات.

نتحدث هنا، إذًا، عن طرفين أساسيين عند قيام أي ثورة: دولة النظام القديم العميقة والفاسدة والمستبدة، وكتلة ثورية تتوحد ضد هذه الدولة، ولكنها تمتلك في الوقت نفسه طاقة داخلية جبارة كطاقة الذَّرَّة التي يمكن أن تنفجر بقوة لا يمكن السيطرة عليها أو على اتجاهها. بعد النجاح الأول للثورة، عندما يسقط رأس النظام أو رمزه -وهو نجاح رمزي في جوهره- يبدأ تطوُّران مرتبطان (وإن لم يظهر ذلك الارتباط للعيان) في الحدوث. أمَّا التطوُّر الأول فهو بدء الدولة القديمة عملية استيعاب الزلزال الذي ضرب أسسها (وإن لم يُسقطها بالضرورة)، وأما التطوُّر الثاني فهو انفجار الكتلة الثورية نتيجة التناقضات الكامنة فيها، وهي تناقضات طبيعية، وربما تكون حتمية بسبب تباين الرؤى حول الأسلوب الأمثل للتعامل مع النظام القديم. فسعي الاتجاه المحافظ إلى التفاوض والمهادنة يتبعه تخوين له من الاتجاه الراديكالي الذي يسعى بدوره إلى إعاقة عملية التفاوض، على اعتبار أنها عملية تواطؤ. وتبدأ الدولة القديمة في التودد بقدر أكثر إلى الاتجاه المحافظ المستعد للتفاوض معها، بينما يزداد العداء بين الاتجاه الراديكالي والاتجاه المحافظ، حتى قد يصل الأمر إلى اتهام الطرف الراديكالي للطرف المحافظ بأنه لم يكن شريكًا في الثورة، أصلًا (أو كان طرفًا سعى لتحقيق مصالح خاصة)، بل كان، دائمًا وأبدًا، جزءًا من الدولة القديمة نفسها التي سعت الثورة لإسقاطها. هنا تتفرَّق السُبُل بالاتجاهين ليصبح بالمشهد ثلاثة أطراف: النظام القديم، والطرف التفاوضي المحافظ، والطرف الراديكالي.

عند الوصول إلى هذه النقطة، أي عند انقسام الكتلة الثورية على نفسها، تكون الدولة القديمة قد التقطت أنفاسها، ولملمت شملها، وتعلَّمت من أخطائها، وأكملت العُدَّة لتضرب ضربتها ضد الطرفين، واحدًا تلو الآخر. تأخذ عودة النظام القديم أشكالًا مختلفة: فقد تأخذ شكلًا انقلابيًّا (عسكريًّا أو غير عسكري) سافرًا؛ أو قد تنجح بقدر من الشر (المتأصل فيها بحكم الطبع والطبيعة معًا) في تكوين ظهير شعبي قوي "يُفوِّضها" بالتعامل مع من يُطلَق عليهم الآن "مثيرو الشغب" و"الإرهاب"، أي أحد شركاء الثورة عليها. هنا تصبح الدولة القديمة نفسها هي المنقذ من الهلاك، وتصبح الثورة المضادة مطلبًا شعبيًّا، لدرجة أنه قد يتم الاحتفاء بعودة الدولة القديمة بالميادين والساحات نفسها التي شهدت الضربة الأولى ضدها عند قيام الثورة. الخطير في الأمر أن عودة الدولة القديمة هي بمنزلة انتكاسة المرض؛ فهي دائمًا أشد فتكًا مما كانت عليه، ولا يصلح معها حينئذ ما كان يمكن أن يكون مجديًا وقت ترنُّحها في بداية نجاح الثورة.

المدهش أن أنظمة الاستبداد غالبًا ما تعاني غباءً سياسيًّا يعجزها عن إدراك أن هزيمة الاتجاه المحافظ في الثورة تعني، بالضرورة، انتصار نظرية الاتجاه الراديكالي الساعي إلى الاستئصال التام والجذري للدولة بكل أدوات سيادتها وتغوُّلها. فنجاح الثورة المضادة يعني انتصار نظرية أن الدولة القديمة لا أمل في إصلاحها، ولا علاج لها إلا الاستئصال التام. وسريعًا ما يتجه كثير ممن كانوا ضمن الاتجاه المحافظ (الطرف الثالث الآن) إلى الاقتناع بخطئهم التاريخي. هنالك يأتي مفترق طرق جديد يكون فيه حلَّان لا ثالث لهما: فإمَّا أن تتوحد الكتلة الثورية مرة أخرى (وهو ما يقتضي اعترافًا واعتذارًا من طرف؛ وغفرانًا وقبولًا من الطرف الآخر، مدركَيْن معًا أن الإلكترونات النشطة في الذَّرَّة لا يمكن لها وحدها أن تولِّد طاقة بدون النيترونات)، لتخوض جولة جديدة من الصراع ضد الدولة القديمة، قبل أن تستكمل هذه الدولة تدعيم ما تصدَّع من وسائل سيطرتها وقمعها (وهي تحاول ذلك بشكل ممنهج، غالبًا، عبر خطوات محدَّدة بجدول زمنى محدَّد، تحرص الدولة على تطبيقه بصورة حرفية، لأنه يُعبِّر عن إرادتها السيادية الجديدة في شكلها؛ القديمة في جوهرها)، وإمَّا أن تقضي الدولة الجديدة/ القديمة على الطرفين معًا. هذه حقيقة سيدركها، حتمًا، شركاء الأمس، فرقاء اليوم، طال الوقت أم قصر.


[1] Wael Hallaq, The Impossible State: Islam, Politics, and Modernity’s Moral Predicament, (New York: Columbia University Press, 2012).