العنوان هنا
مقالات 28 أبريل ، 2014

الناخب العراقي والأزمة السياسية المستدامة

الكلمات المفتاحية

حيدر سعيد

رئيس وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ورئيس تحرير دورية سياسات عربية. تتركز اهتماماته البحثية في العراق والمجتمعات المنقسمة والتحليل النقدي للخطاب السياسي. 

أعلنت شبكة عين العراق لمراقبة الانتخابات، وهي واحدة من أبرز منظمات المجتمع المدني المعنية بالعملية الانتخابية، أواخر شباط/ فبراير الماضي، عن نتائج استطلاع أعدّته عن مستوى المشاركة في الانتخابات النيابية المقبلة التي ستجري في 30 نيسان/ أبريل الجاري، كشفت فيه أنّ نسبة المشاركة المتوقعة في الانتخابات ستكون منخفضةً جدًّا، وأنها لن تتجاوز، بحسب عيّنة الاستطلاع 35%[1].


من الحماسة الانتخابية إلى العزوف الانتخابي

في الحقيقة، تشهد البلدان التي تخرج من ربقة أنظمة استبدادية، وتباشر مشروع بناء ديمقراطي يستلهم مبادئ الديمقراطية التنافسية التي تعتمد على الانتخابات الحرَّة والمباشرة آليةً أساسيةً، حماسةً واضحةً تجاه المشاركة في الانتخابات، بوصفها تعبيرًا عن ولادة نظام جديد، وعن إحساس المواطنين بقيمة أصواتهم، وقدرتهم على المساهمة في بناء النظام السياسي.

ولعل بلدان الربيع العربي مصداق لهذه الحماسة، فقد عاشت حماسةً واضحةً في المشاركة في الانتخابات، ضمن أوّل انتخابات تشهدها بعد سقوط الأنظمة الاستبدادية.

وقد سبق العراق هذه البلدان في مباشرته مشروع بناء ديمقراطي منذ عام 2003. وعلى الرغم من أنّ هذا المشروع ارتبط بقوَّة احتلال عسكرية أجنبية، أسقطت النظام الاستبدادي، ولم يرتبط بثورة شعبية، كما هو حاصل في بلدان الربيع العربي، وعلى الرغم من أنّ البلاد شهدت انقسامًا مجتمعيًّا عميقًا على التدخل الأجنبي، وعلى آلية إسقاط الاستبداد، وتفاصيل المرحلة الانتقالية التي أعقبته، فإنّ العراق شهد، حاله حال بلدان الربيع العربي، حماسةً تجاه المشاركة في أولى العمليات الانتخابية في مرحلة ما بعد 2003؛ وذلك من خلال انتخابات الجمعية الوطنية، في كانون الثاني/ يناير 2005، وفي الاستفتاء على مسوّدة الدستور، في تشرين الأول/ أكتوبر من العام نفسه، والانتخابات النيابية، في كانون الأول/ ديسمبر من العام نفسه أيضًا. وإذا كانت المحافظات السنية قد قاطعت الانتخابات الأولى، حيث جاءت نسب المشاركة فيها منخفضة نسبياً، ، فإنّ الاستفتاء على الدستور والانتخابات الثانية سجّلا رقمين قياسيين في نسبة التصويت، بلغت 79% و77% على الترتيب.

ولعل العوامل التي أنتجت هذا التراكم هي نفسها التي أنتجت التراكم الانتخابي في بلدان الربيع العربي؛ وذلك من جهة إحساس المواطنين بقيمة أصواتهم، وإمكانية مشاركتهم في بناء النظام السياسي.

وفي ما نرى، فإنّ هذه الحقبة من التراكم الانتخابي العالي، بالنسبة إلى لعراق، تستمرّ إلى الانتخابات النيابية آذار/ مارس 2010 التي ربما تكون آخر انتخابات تشهد مشاركةً عاليةً؛ إذ بلغت نسبة التصويت فيها نحو 63%، لتبدأ بعدها مرحلة تتسم بعزوف الناخبين عن المشاركة والتصويت، وهي المرحلة التي تشير إلى نهاية حقبة البناء الديمقراطي، وبدء حقبة أخرى، لا تكون الانتخابات فيها أداةً ديمقراطيةً، بل وسيلةً لإعادة توزيع الطبقة المسيطرة على السلطة، من دون أيّ محتوى ديمقراطي حقيقي، كما هي الحال في عدَّة  بلدان من العالم اللاغربي.

غير أنّ العزوف يصدق على الجزء العربي من العراق، وهو الجزء الغالب، إذ كشفت انتخابات برلمان إقليم كردستان الأخيرة التي جرت في أيلول/ سبتمبر الماضي، وبلغت نسبة التصويت فيها 71%، عن نمو معاكس، وعن سياقين وموقفين مختلفين كليًّا للعملية الانتخابية، ضمن بلد واحد. هذا الاختلاف لم يصنعه وضع الإقليم الإداري المختلف فحسب، بل كذلك اختلاف أوضاع التنمية السياسية والاقتصادية، آخذين في الحسبان الوضع الخاص الذي يعيشه إقليم كردستان منذ عام 1991؛ ولذلك، يبدو الإيمان الكردستاني، اليوم، بقدرة صندوق الاقتراع على التغيير أعلى من أيّ وقت مضى، بعد أن كشفت انتخابات برلمان إقليم كردستان عام 2009 عن إمكانية كسْر الثنائية الحزبية المسيطرة منذ مطلع التسعينيات، وإمكانية خلق معارضة حقيقية وفاعلة داخل الإقليم.

ولعل إدراك النُّخب السياسية للفارق البيّن في نسب التصويت بين الجمهورين العربي والكردي هو الذي حدا بالتحالف الكردستاني، في أثناء النقاش على تعديل قانون الانتخابات الذي أُقر مطلع تشرين الثاني/ نوفمبر، إلى المطالبة بأن يكون العراق دائرةً انتخابيةً واحدةً؛ ذلك أنّ تراكم الإقبال على التصويت في محافظات كردستان، وضعفه في المحافظات العربية، يُكسبان التحالف الكردستاني عددًا من المقاعد يتجاوز العشرين، بحسب ما صرّح به نواب التحالف.[2]

ومن ثمّة نكون أمام خط تنازلي في نِسب التصويت أو المشاركة في الانتخابات، وهو يبدأ بـ 79% عام 2005، ويصل إلى 51% عام 2013. وهي نسبة التصويت في انتخابات مجالس المحافظات التي جرت في نيسان/ أبريل 2013، بحسب ما أعلنت عنه المفوضية العليا المستقلة للانتخابات، مع شكوك كبيرة في صحة هذا الرقم؛ إذ قدّرت أهمّ منظمتين وطنيتين مستقلتين مختصتين في المراقبة الانتخابية، وهما منظمة تموز للتنمية الاجتماعية، وشبكة شمس لمراقبة الانتخابات، نسبةَ المصوتين في هذه الانتخابات بأنها في حدود 46%[3]، بل إنّ أرقام المفوضية نفسها ذكرت أنّ نسبة التصويت في بعض المحافظات لم تتجاوز 35%؛ ما يعني أنّ انتخابات  2013 تمثّل أوّل انتخابات وطنية تشهد الانحسار الذي تحدثنا عنه.

وسيشكل عزوف الناخبين عن المشاركة في الانتخابات هاجسًا سياسيًّا مركزيًّا في السنوات المقبلة. ولعله أحد المؤشرات الدالة على دخول العراق في حقبة سياسية جديدة.

ويُتوقَّع أن تشهد الانتخابات النيابية المقبلة رقمًا قياسيًّا جديدًا في انحدار نسبة المصوتين ما عدا محافظات إقليم كردستان. وهكذا يمكن أن نفهم الرقم الذي أعلنته شبكة عين العراق لمراقبة الانتخابات المتعلّق بمستوى المشاركة في هذه الانتخابات.


العزوف موقفًا احتجاجيًّا

إنّ أسباب العزوف عن المشاركة في الانتخابات كثيرة وعامَّة، منها الأسباب الاقتصادية، والتعليمية، والسوسيولوجية، والثقافية، وغيرها. وقد أظهر استطلاع حديث، أعدّته وزارة الشباب والرياضة، تحت عنوان "الأصابع البنفسجية"، وهو استطلاع يحثّ الشباب على المشاركة في الانتخابات، أنّ المشاركة في الانتخابات أو العزوف عنها يرتبط كلّ منهما بتلك العوامل السالفة كلّها؛ ذلك أنّ نِسب المشاركة تزداد بالنسبة إلى ذوي الدرجات الدراسية العليا، في حين أنها تقلّ بالنسبة إلى العاطلين عن العمل، وتزداد لدى الموظفين الحكوميين[4].

يُضاف إلى ذلك أنّ الثقافة الانتخابية للناخب العراقي، أو الوعي بالعملية الانتخابية، ووظائفها، وأركانها، من عوامل العزوف عن المشاركة في الانتخابات. وإذا كان ضعف الثقافة الانتخابية أمرًا طبيعيًّا لبلد ظلَّ عقودًا تحت سيطرة نظام استبدادي، لم يسمح بتنمية سياسية فعلية؛ فلا أحزاب، ولا حرِّيات، ولا رقابة ومساءلة شعبية، ولا إعلام حر، ولا مجتمع مدني - بل إنّ الانتخابات الصورية الشكلية هي التي جُرِّبت فقط، ولم يكن الجمهور يثق بها أو يعيرها أيّ أهمية - فإنه من الغريب أن نلاحظ أنّ الثقافة الانتخابية للجمهور العراقي لا تنمو إلا ببطء؛ إذ لا يزال الناخبُ العراقي يتلمس طريقًا نحو فهم الدور الجوهري للانتخابات في النظم الديمقراطية، بوصفها وسيلةً أساسيةً للمشاركة السياسية، والمساهمة في بناء السياسات العامة وصناعتها. هذا على الرغم من أنه عاش، منذ عام 2003، تنميةً سياسيةً لافتةً، وخاض، في عشر سنوات، أكثر من ستّ تجارب انتخابية، وطنية وإقليمية ومحلية؛ ولذلك، يبدو أنّ الاضطراب السياسي يقف عائقًا أمام نمو الثقافة الانتخابية.

وفي كلّ الأحوال، فإنّ هذه الأسباب السياسية العامة يمكن أن تتكرر في كثير من البلدان. أمّا الأسباب السياسية المباشرة التي كرّست هذا الانحدار في أرقام المصوِّتين، فهي الأزمات الطويلة والمتواصلة التي يعيشها النظام السياسي العراقي، والتي أفقدت نسبةً من الناخبين ثقتهم بأطراف العملية السياسية، سواء الحكومة، أو الأحزاب، أو الممارسات السياسية، ومنها العملية الانتخابية. ففقدان الثقة في العملية الانتخابية قد يصل إلى حدّ الشكّ في نزاهتها.

لقد كان للأزمة السياسية الطويلة التي عقبت انتخابات آذار/ مارس 2010، والتي دارت على الجدل في ما يتعلّق بالكتلة التي هي صاحبة الحقّ في تشكيل الحكومة المقبلة وشكلها، والاتفاقات التي تضمن شراكة المكونات في السلطة، دور كبير في هذا المجال.

وعلى نحو عامّ، يبدو عزوف الناخبين عن التصويت، إلى جانب كلّ الأسباب العامَّة التي ذكرناها آنفًا، مرتبطًا بعاملين جوهريين كلاهما سياسي:

  • تحوُّل الأزمة السياسية إلى أزمة مستدامة مستعصية على الحل، الأمر الذي أفرزته انتخابات 2010 التي قضت على الأجواء الإيجابية الناجمة عن هزيمة تنظيم القاعدة والميليشيات عامي 2008 و2009، وخلقت شعورًا، محليًّا ودوليًّا، بأنّ العراق ماضٍ إلى أزمة سياسية مستدامة، كما أنها خلّفت سلسلةً من الأزمات السياسية الحادّة التي طبعت السنوات الأربع الماضية. كلّ هذا أفقد الناخبَ ثقتَه بالعملية السياسية القائمة، وبإمكانية خروجها من الأزمة بالوسائل الديمقراطية.

  • فشل الدولة؛ وذلك من جهة أنها جهاز خدمة عامة، وهذا الأمر متولد من العامل الأول.

ومن ثمّة، يمثّل العزوف عن الانتخابات موقفًا نقديًّا من العملية السياسية؛ أي إنّه، في الحالة العراقية، احتجاج سياسي لجمهور ربّته ثقافة مفادها أنّ المشاركة في الانتخابات تمثّل الشكل الوحيد للمشاركة السياسية، وهي ثقافة أرادت أن تختزل المشاركة السياسية نفسها في هذا الشكل؛ لتُقصيَ كلّ الأشكال الأخرى الممكنة، من مجتمع مدني، وحركات مساءلة ومراقبة، وما إليها. ولذلك، لم يملك الناخب العراقي من موقف احتجاجي نقدي للعملية السياسية إلا هذا العزوف عنها، وإهمالها، ورفضها، ورفْض أن يكون مشاركًا سياسيًّا فيها، وآنئذٍ يكون غير قادر على التفكير في بدائل؛ فيفوته التفكير المعاكس المتمثّل بأنّ الموقف الاحتجاجي يمكن أن يُعبَّر عنه من خلال المشاركة في الانتخابات، بوصفها أداةً سلميةً لتغيير الوضع القائم.


إعادة بناء الثقة

لا يمكن الخروج من هذا المأزق ما لم تشرع الدولة، والطبقة السياسية عمومًا، في إجراءات إعادة بناء الثقة بالعملية الانتخابية. وهي عملية تستغرق سنوات، إن آمنت الطبقة السياسية بذلك، أو في حال تدخُّل بعض القوى المجتمعية الرئيسة، وخصوصًا المؤسسات الدينية، والمجتمع المدني، والنقابات، والمثقفين، في حثّ الجمهور على المشاركة في الانتخابات.

ويُتوقع أن تقوم المؤسسات الدينية بذلك، سواء بصورة علنية، أو غير معلنة؛ لأنها، وهي صاحبة التأثير الأكبر في الجمهور، تشاطر الطبقة السياسية الخوف من أنّ عزوف الجمهور عن التصويت قد يقلب ميزان القوى لمصلحة المكونات الأخرى، في بلد يُبنى نظامه السياسي على أساس التوازن بين القوى السياسية الممثلة لهذه المكونات، فضلًا عن أنه قد يفضي إلى غلبة أطراف سياسية على أخرى، في حالةٍ قد تقود إلى ركود سياسي طويل الأمد، ينعدم معه أيُّ أفق من آفاق التغيير.


[1] انظر: "شبكة عين: مؤشرات المشاركة في الانتخابات القادمة منخفضة"، جريدة العراق اليوم، 26/2/2014، على الرابط:

http://www.iraqalyoum.net/news.php?action=view&id=29869

[2] انظر: "التحالف الكردستاني: سنخسر عشرين مقعدًا بنظام الدوائر المتعددة ولسنا طرفًا بتأجيل الانتخابات"، وكالة أنباء المدى برس، 7/10/2013، على الرابط:

http://www.almadapress.com/ar/NewsDetails.aspx?NewsID=19368

[3] انظر: "التقرير الأولي بشأن انتخاب مجالس المحافظات 21 نيسان 2013"، شبكة شمس لمراقبة الانتخابات ومنظمة تموز للتنمية الاجتماعية، على الرابط:

 http://www.sun-network.org/details.php?l=2&id=423

[4] انظر: نتائج استطلاع مشروع الأصابع البنفسجية، وزارة الشباب والرياضة، بغداد، شباط/ فبراير 2014.