العنوان هنا
مقالات 12 مارس ، 2015

عيد المرأة وتساؤلات عن الحركة النسوية

​مسعـود ديلـمي

تحصّل على شهادة الدكتوراه من مركز الدراسات العربية والشرق المعاصر في جامعة السوربون الجديدة، باريس الثالثة، بعد مناقشة أطروحته: "الدولة في الفكر السياسي العربي الإسلامي الحديث والمعاصر في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر". عمل أستاذًا مشاركًا في قسم التاريخ في جامعة الجزائر من 1995 إلى 2001. وفي الفترة نفسها عمل باحثًا ملحقًا بالمركز الوطني للدراسات التاريخية في الجزائر. إضافةً إلى التدريس والبحث الأكاديمي، ينشط في الميدان الصحفي، ونُشر له عدد من المقالات.

يرى البعض أنّ الثامن من آذار / مارس، العيد العالمي للنساء، بدعةً؛ متسائلًا: أليس هذا سبًّا للمطالب النسائية التي لم تنته بعد؟ بينما يرى آخرون في هذا اليوم دعوةً إلى مواصلة النضال بالطرق السلمية؛ إذ يعدّونه تذكيرًا بالمعارك النسوية الكبرى التي خاضتها نساءٌ شهيرات، أمثال: الفرنسية سيمون فاي Simone Veil، والإنكليزية إملين بانكورست Emline Pankhurst، والفرنكو - أميركية مارغيريت يورسنار Marguerite Yourcenar، وغيرهنّ. وبغضّ النظر عن الجانب الاحتفالي بهذا اليوم العالمي، يطرح بعض الباحثين تساؤلاتٍ عن الحركة النسوية: مسارها، ووسائلها، وأهدافها، ورموزها، وأيديولوجيتها... في عالمٍ مأزوم بمشاكله السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والتربوية، والبيئية، والتي تهمّ الجميع. هذا العالم الذي تتفاعل فيه الأحداث، حيث تتجاوز الصورة الزمن والجغرافيا.

ترى الفيلسوفة الفرنسية إليزابت بدينتر Elisabeth Badinter في كتابها "طرق خاطئة" Fausses routes، الصادر عام 2003 عن دار لاديكوفارت في باريس، أنّ الحركة النسوية تبحث عن نفسها؛ فهي "قامت بخطوة إلى الأمام وبخطوتين للوراء". لقد بيّنت أنّ النضال النسوي تطوّر كثيرًا حتى خلق "النوع النسائي الضحيّة". وهو نوع تسلّطي يكبح، بحسب رأيها، "المعركة الحقيقية من أجل المساواة"، ما يستوجب على الأقل "توحيد الخطاب النسائي تحت راية واحدة" بوصفه تعبيرًا أساسيًا عن "النسائية الحقّة". ولكن، أغضَب هذا النقد كثيرًا من المناضلات الداعمات للنسوية Féminisme.

إنّ "النسائية الحقّة" تعني أساسًا الدفاع عن النساء اللواتي مُورس ضدّهنّ العنف والتمييز؛ والنضال من أجل فرض مساواة وتكافؤ بين النساء والرجال في المجال السياسي، وبخاصة في الأَجْر. وهذه المطالب النسوية السلمية لا تهمّ وسائل الإعلام، لأنّها لا تصنع الحدث مثلما تفعل النسوية المتطرفة التي تتجلّى في حركة "فيمن" FEMEN الجمعية الأوكرانية؛ إذ تُظهر عضوات هذه الحركة جمالهنّ أمام الكاميرات عاريات الصدور، بينما يُمارَس التمييز ضدّ النساء النحيفات أو السِّمان داخل هذه الجمعية؛ وتُبرّر الناطقة باسم جمعية "فيمن" إينا شافشنكو Inna Shevchenko ذلك قائلةً: "إذا أرادت النساء السِّمان الجري والصعود، لا يستطعن".

وبذريعة الدفاع عن النساء وقضايا أخرى، تستخدم هذه الجمعية الطرق العنيفة وغير المقبولة؛ إذ تعتمد سياسة الانفعال الاحتيالي لجلب انتباه الرأي العام. وبهذا تشارك في الصراع بين الجنسين الذي يغطّي على أولويات النضال النسوي؛ بتناول مواضيعَ لا تهمّ "المعركة النسائية الحقّة". إنّها نوع من السياسة الليبرالية التي تخدم الرأسمالية المالية (استغلال الإنسان للإنسان عن طريق رأس المال)، ويجري فيها مهاجمة متّهمين وهميّين.

تمثّل حركة "فيمن"، بكلّ ما يمكن أن يؤخَذ عليها، "النسائية" البارزة اليوم. وهناك دولٌ عالجت قضية العدالة بين الرجال والنساء بكلّ جِدّ منذ سنوات الستينيات. ويعدّ السويد بلدًا نموذجيًا في هذا المجال لأنّه الأكثر مساواةً بين الرجال والنساء في أوروبا؛ إذ كان تطوّر الحركة النسوية بارزًا بتحوّل الحزب الشيوعي إلى حزبٍ سياسي نسوي، والذي سُمّي بــــ"المبادرة النسوية". وتدلّنا أرقام ما قبل سنة 2013 على هذه الحقيقة؛ إذ تعمل 80% من النساء السويديات، نصف عددهنّ في القطاع العمومي مقابل رجل من خمسة. وبلغت نسبة المرأة في البرلمان 43%، ونسبة المستشارات البلديات 42%. ووصلت نسبة اللواتي يترأّسن المقاطعات إلى 33%، بعكس فرنسا التي لا تتعدّى فيها النسبة الـ 4.8%. وتحلم كثير من النساء في الدول المتطورة بهذا النموذج، نظرًا لمعاناتهنّ التمييز، وغياب سياسة مساواة فعلية تُلغي هذا التمييز. ولقد ترك حاجز اللغة تجربة هذا البلد الصغير والمسالم مجهولةً لدى الكثير من الشعوب الأخرى؛ لأنّه غائب في وسائل الإعلام. ولكن يرى البعض أنّه لا يمكن نقل النموذج السويدي إلى دولٍ أخرى؛ فهو مرفوض حتى في دولةٍ مثل فرنسا والدول اللاتينية المختلفة عن الدول الجرمانية والإسكندنافية، ففي هذه الدول تقوم الأمومة بدورٍ محوري. غير أنّ اليسار منذ وصوله إلى الحكم في فرنسا في 2012، عمل على بعث مشاريعَ تربوية تتجاوز القيم الاجتماعية الأساسية كالأسرة، والتمايز الطبيعي بين الرجال والنساء، إلى حدّ تدمير الهوية النوعية؛ بحجّة المساواة بين الجنسين.

ومن المفارقات أنّ السويد البلد الذي يعدّ مهد المساواة بين الرجال والنساء يشهد عنفًا كبيرًا ضدّ النساء؛ إذ يحتلّ المراتب العليا عالميًا بين البلدان التي يجري فيها اغتصاب النساء. وهذا بعد أربعين عامًا من ظهور السياسة النسائية. ويرى البعض هذا العنف ضدّ النساء غير مُختلف عمّا يقع في الهند مثلًا. لكن المخيال الاجتماعي الهندي تكوّن عبر مئات السنين، والذي يُحتّم على الرجال والنساء والأطفال اتّباع طريقة حياة قائمة على تعذيب الذات؛ يقول حكماء الهند: "تألّم ومُت في هذه الدنيا، ستربح السعادة في الآخرة". لهذا تنتحر عشرات النساء المطلّقات نتيجة التقاليد والمعتقدات التي لا تقبل المطلّقة؛ فالقول بأنّ قبول الأذى والمعاناة حتى الاستشهاد سيؤدّي إلى الفوز بالآخرة، ينافي العقل والمنطق. ولا يمكن تَقُبّل العنف كيفما كان وحيثما كان بحجّة الإيمان به، ولأنّه نابع من معتقدات شعبية راسخة؛ فمعرفة تقاليد شعبٍ ما لا تعني قُبولها كاملةً، ولا يبرَّر بها العنف الذي يمارَس على نسائه وأطفاله.

وإذا كانت بعض رائدات النسوية ترى أنّ أوّل اللامساواة هو السيطرة الرجالية، فإنّ أخريات يريْن أنّها اللامساواة الاجتماعية. ومنهنّ الفيلسوفة نانسي فرازر Nancy Fraser، الأستاذة في المدرسة الجديدة للبحث الاجتماعي في نيويورك، أحد وجوه اليسار الأميركي النقدي الذي يناقش بحدّة كيفية بلورة التعبير سياسيًا عن اللاعدالة القائمة، والتفكير في ترقية الأقلّيات، وتحرّر النساء، وتحقيق العدالة الاجتماعية. إنّها تبحث دائمًا عن الرابط بين العدالة والتحرّر Emancipation وحقوق النساء، والمساواة الاجتماعية. وتؤكّد في كتابها "النسوية في تحرّك" Le féminisme en mouvements الصادر بالفرنسية في 2012 في باريس، أنّ بعض نماذج الحركة النسوية نسي مبدأ المساواة الاجتماعية، فكان حضنًا لليبرالية لعدم نقدها النظام الاقتصادي والاجتماعي. وكان أوّل التزام في شباب هذه السيدة التي عاشت في الخمسينيات في مدينة باتيمور Batimore في ولاية ماريلاند المسيّرة بقوانين التفرقة العنصرية، هو مقاومةُ الظلم لمصلحة الحقوق المدنية للسود؛ ثم أصبحت في الستينيات مناضلة نسوية. وفي الفترة نفسها، شاركت في التعبئة ضدّ حرب الفيتنام. ولهذا ترى: "أنّ الحركة النسائية الأميركية نشأت في ظرفٍ عدائي، فأخذت عن حركة السود الأميركان طرق التعبير، ووُلد مصطلح "النسوية" Féminisme مقابلًا لمصطلح "العنصرية" Racisme". وبحسب هذه الباحثة، فالسياسة التي تدعم النساء في مناصب قيادية هي سياسة ليبرالية، لأنّها تفضّل النساء المتعلمات اللواتي يعملن، أي من الطبقة المتوسطة، وتترك على الهامش أغلبية غير محظوظة بقدر كافٍ من التعلّم؛ إذ تقول: "لست ضدّ التقدّم، أريد أن تصبح المرأة جنرالًا بخمس (5) نجوم، ولكن أُفضِّل توجيه جهدي لإلغاء الجيش".

وهناك نسوية هوياتية Féminisme Identitaire تُناضل ضدّ النموذج البترياركي (الأبوي)، لكن تترك المسائل الاقتصادية والاجتماعية جانبًا. ولقد جاءت هذه النسوية الهوياتية في فترةٍ كانت النيوليبرالية في قمّتها، حيث عملت على إسكات كلّ الذين يناضلون ضد اللامساواة الاجتماعية. وتطوّرت النيوليبرالية عندما دخلت النساء بكثرة إلى سوق العمل في كلّ أنحاء العالم لأنهنّ أيْدٍ عاملة بخسة الثمن، مما أفاد الشركات. ولقد حدث تطابقٌ مؤسف بين النسوية والليبرالية؛ فعدوُّهما المشترك هو التقاليد والرجال الذين يجمدون هياكل المجتمع.

وتتنازع المجتمع الغربي ثلاث قوى، هي: النيوليبرالية (تمثّلها الشركات، وكلّ ما يؤدي إلى الربح)، والحماية الاجتماعية (تمثّلها مؤسسات الدولة)، والقوى التحررية (رمزها الجمعيات الأهلية، والنقابات). ويوجد بين هذه القوى دائمًا تحالف يجمع اثنتين ضدّ واحدة؛ مثل تحالف الليبرالية مع "النسوية الثقافية" بالتركيز على مسألة الهوية، وتحالف النيوليبرالية مع مؤسسات الدولة لكبح المطالب التحررية، وتحالف "الحماية الاجتماعية" مع "القوى التحررية" ضدّ النيولبيرالية التي تريد السيطرة على الدولة أو إلغاءَها. لقد انتقد قسمٌ من النساء الغربيات "الحماية الاجتماعية" باسم تحرّرهنّ؛ إذ جرى النظر إلى السياسات العائلية على أنّها جنسية، وأبوية أو تراتبية ما بين عمل مقابل أَجْرٍ وينتهي بتقاعد، وعمل منزلي تربوي غير مأجور تقدّمه أساسًا النساء اللواتي لا يقبضن أيّ مقابلٍ مادي. لذا، طالبن "الحماية الاجتماعية" بإلغاء هذه التراتبية ما بين العمل المأجور وغير المأجور، لأنّها ليست في مصلحة الجميع. إنّها طريقة بعض النسويّين في فهم العلاقات بين الأيديولوجيا وحركة المجتمع وسلطة الدولة.

الأكيد أنّ التصرفات الاستعراضية لفتيات جمعية "فيمن" تسيء إلى المطالب النسوية، ولا تحلّ قضايا المجتمع. بل تُظهر عمق أزمة الحركة النسوية. وهي أحد جوانب أزمة الحداثة الغربية، لكنّها حداثة تعيش النقد المستمر والمساءلة من دون تردّد؛ بحثًا عن توازن المجتمع، وتصحيح حاضره، وبناء مستقبله. إنّ موضوع النضال النّسوي هو أيضًا إشكالي؛ كالدين، والسياسة، وحماية البيئة... تبقى مسائله دائمًا في تجدّد.