العنوان هنا
مقالات 11 مايو ، 2011

المثقفون السوريون.. مشكلة خوف أم أزمة وعي؟

عدنان علي

كاتب وصحفي متابع للشأن السياسي والإعلامي، في جريدة الثورة السورية. نشر مقالات في الصحف السورية والعربية. تحصل على إجازة في الصحافة من جامعة دمشق سنة 1988.

لعلّ من أكثر الفئات التي تعرّضت لامتحان شديد ووُضعت تحت الضغط بسبب الأحداث الجارية حاليا في سوريا، هي ما يمكن تسميتها النخبة السورية والتي يمثّلها كتاب وصحفيون وفنّانون وآخرون ممّن يندرجون تحت تسمية المثقفين، وتحديدا مَن هم داخل سوريا الذين كشف بعضهم عن هشاشة ملحوظة في الوعي السياسي والمجتمعي، بعد أن استسلموا لتفسيرات السلطة الركيكة للأحداث، باعتبار ما يجري مؤامرة خارجية تقف خلفها قوى سياسية (غير واضحة المعالم ومختلطة إلى درجة كبيرة) وينفّذها على الأرض بضع عشرات من الأشخاص، هم إمّا مغرّر بهم أو مدسوسون أو مأجورون يتلقون أموالا لقاء خدماتهم.

وابتعادا عن التعميم، وإذا حاولنا تسليط الضوء على المواقف التفصيلية للمثقفين في سوريا، يمكن تقسيمهم بوجه عام إلى قسمين: داخل سورية وخارجها. وبالنسبة إلى من هم في الخارج والذين يتمتّعون عموما بثقافة سياسية منفتحة مستوحاة من القيم السائدة في البلدان التي يقيمون فيها، وهي غالبا بلدان غربية، فقد جنح معظمهم إلى تأييد الحراك الشعبي الحالي ومعارضة الحلّ الأمني الذي لجأت إليه السلطة. ولعلّ ما سهّل عليهم ذلك، فضلا عن تكوينهم الفكري المهيأ لفكرة التغيير الديمقراطي، أن معظمهم من المنفيّين أو الهاربين من بلدهم لأسباب مختلفة، وهم بالتالي أقلّ حذرًا في التعبير الصّريح عن مواقفهم التي جنحت أحيانا إلى نوع من التطرّف في إطلاق المواقف على نحو لا يراعي بما فيه الكفاية المخاطر المحتملة لأيّة تغييرات دراماتيكية في التركيبة السّياسية القائمة في سوريا منذ عقود.

أمّا من هم داخل سوريا من كتاب وإعلاميّين وفنّانين وأكاديميين، فيمكن وضعهم في عدّة فئات:

- الموظّفون ضمن مؤسّسات الدولة الإعلامية والثّقافية والأكاديمية وهم بوجه عام جزء من المنظومة الإعلامية - الأمنية للسلطة، ويتبنى معظمهم روايتها بأنّ ما يجري مؤامرة خارجيّة تنفّذها أشباح من المندسّين والسّلفيين والإرهابيين الذين يقتلون الناس والجيش والأمن، دون تقديم تفسير واضح لسلوك هذه الأشباح القائم على القتل من دون برنامج سياسي، باستثناء الارتباط المبهم بمؤامرة خارجية هلامية لم تصدر حتى الآن أية تفاصيل بشأنها من أيّ مسؤول سوري.

- المثقفون غير الملتصقين وظيفيا بالسلطة وكانوا قبل الأحداث الراهنة يقدّمون أنفسهم مستقلّين و ينقدون السلطة بدرجات معيّنة، لكن التطوّرات دفعتهم إلى ضرورة إعلان مواقفَ صريحة، مع أو ضدّ، لأنّ السلطة لم تعد تقبل في هذه المرحلة المواقف "الرّمادية"، وقد انحاز معظم هؤلاء إلى موقف السّلطة، بينما لا يزال بعضهم يحاول المناورة في منطقة ما على أساس "التأييد الجزئي أو المشروط" للسلطة أو للحراك الشعبي.

 - مثقفون يساريون مترهلون لم يصل إلى يقينهم بعد أنّ ما يجري هو حراك شعبي حقيقي يستحقّ "المجازفة" في تأييده. ومن أجل المصالحة مع أنفسهم وكأحد أشكال التهرب من اتّخاذ موقف شجاع، عمدوا إلى التظاهر بتصديق الفزّاعة التي تبثها من طرف خفيّ السلطة، من أنّ البديل سيكون إسلاميا متطرّفا سيقيم ديكتاتورية طالبانية تقضي على "علمانية" الدولة وتضيّق على الأقليات. و التّذرّع بهذه المخاوف دون مناقشتها جدّيا، يعكس من جهة أخرى التباسا وسوء فهم من جانب هؤلاء لطبيعة المجتمع السوري المتعايش تاريخيا من دون مشكلات طائفية حقيقية.

- مثقفون "قومجيون" يفتقر معظمهم أساسا للثقافة الديمقراطية، يبرّرون موقفهم غير المنحاز للحراك الشعبي، بالحرص على "الخطّ المقاوم" الذي يمثّله النظام الحالي في سوريا، لكن دون أن يطالبوا في الوقت نفسه بتحصين هذا الموقف داخليا من خلال إقامة دولة عصرية ديمقراطية تكون سياستها الخارجية تعبيرا عن إرادة شعبية حقيقية، وهي إرادة غير بعيدة في الحقيقة عن اختيارات النظام في سوريا لناحية مناصرة القضية الفلسطينية ودعم خط المقاومة، ما يعني أنّ هذا الخط هو على أية حال، خيار الجزء الأعظم من الشعب والمعارضة في سوريا أيضا كما تشير إلى ذلك الكثير من المعطيات.

- والقسم الخامس، وربما الأكبر هم الصامتون الموجودون بكثرة بين الفئات الأربع السابقة، والذين لم يمتلكوا حتى الآن الشجاعة الكافية لإعلان موقفهم، أو أنهم في حالة انتظار انتهازي حتى ينجلي الموقف كي يقفزوا إلى الضفّة الفائزة.

- ويبقى الجزء اليسير من المثقفين الذين انحازوا صراحة للحراك الشعبي عبر بيانات أو تصريحات لوسائل الإعلام، أو من خلال نشاطهم الحقوقي والإنساني، وهؤلاء عموما من المعارضين المعروفين وقد عاش كثير منهم تجربة الاعتقال سابقا، وتعرّض بعضهم للاعتقال مجددا في هذه الفترة.

ولعلّ الفئة الأشهر التي برزت إلى السطح من بين هؤلاء خلال الأزمة الراهنة هم الفنانون الذين إمّا تطوّعوا وأحيانا بحماسة لإعلان ولائهم لـ" الوطن" والذي يتماهى في وعيهم مع السّلطة والنظام السياسي القائم، أو جرى إحراجهم عبر مطالبتهم علنا من جانب وكلاء السلطة بإعلان موقفهم باعتبار أنّ "الحياد" في هذه المرحلة غير مقبول، بل وصفه بعضهم بأنه خيانة وحقارة، وذلك تحت شعار: إمّا أن تكون معنا أو ضدّنا.

ومن هنا، لاحظنا أنّ إطلالات يومية لهؤلاء الفنّانين على الشاشات السورية المحلية عبر جلسات "حوار" كان بعضها أقرب إلى التحقيق الأمني، يتبارى فيها الحضور مع المذيع في التغني بحبّ الوطن وفي تكرار المونولوج حول المؤامرة الخارجية ورأس حربتها الفضائيات العربية والأجنبية، في حديث يكشف على نحو فاضح مدى هشاشة البنية الفكرية لهذه الفئة التي ارتسمت صورتها لدى عموم الجمهور مثالا وقدوةً من خلال أعمالهم الفنية التي تتحدث عن الكرامة والبطولة ومقاومة الظلم.

والواقع أنه، إضافة إلى الاستعداد المبدئي الموجود لدى كثير من هؤلاء الفنانين لتملّق السلطة من منطلق انتهازي مصلحي أو بسبب الخوف من التخوين والتخاذل عن الوقوف إلى جانب "الوطن" في هذه اللحظات الحرجة، فإنّ قدرا كبيرا من موقفهم المتهالك يعود إلى ضحالة فكرية وسياسية وعدم تمكّنهم من الوقوف على تشخيص دقيق لما يحدث في بلدهم، وقد أشار ببعض العفوية إلى هذه النقطة أحد الفنّانين في حديثه على إحدى القنوات السورية المحليّة بقوله إنّ الفنّان بشكل عام عاطفي وغير مسيّس وقد لا يدرك على نحو صحيح ما يدور حوله. وبالفعل، ظهر من خلال حديث معظم من أدلى بدلوه من هؤلاء الفنّانين في الأزمة الراهنة عدم قدرتهم على امتلاك ناصية التحليل والتشخيص لطبيعة الأزمة التي تمرّ بها بلادهم، والتي هي في جوهرها تتشابه مع الأوضاع التي مرّت بها بلدان عربية أخرى مثل مصر وتونس لناحية أنّ ما يجري هو تحرّكات شعبيّة حقيقية، قد لا تكون واسعة حتى الآن بسبب القمع الأمني، لكنها تقوم على أهداف نبيلة تستحقّ أن تحظى بدعم النّخبة الثقافية في البلاد و تغطيتها، لأنها تدفع للتخلّص من حكم العائلة غير المراقب والذي لا يمكن محاسبته من جانب المؤسّسات وممثّلي الشّعب، إلى دولة مدنيّة حديثة تسودها الحرّيات وتقوم على سيادة القانون والمؤسّسات.

ومَن يتابع حديث بعض هؤلاء الفنّانين لا بدّ أن يلاحظ ركاكة اللغة وهشاشة الحجّة وسذاجة التشخيص، وكلّ ذلك مغلّف بالتّباكي على الوطن والشهداء والأمن والأمان عبر كلمات انفعالية خاوية لا تستوعب جوهر الأزمة القائمة، مثلما لا تتحسّس موقف العائلات المنكوبة في المدن السورية بسبب القمع الأمني العنيف للاحتجاجات.

ولعلّ الضجّة التي أثارها البيان الذي وزّعته الكاتبة ريم فليحان ووقّع عليه بعض الفنّانين السوريّين والذي يدعو إلى إدخال الأطعمة إلى مدينة درعا، يكشف جانبا من المأزق والتخبّط الذي وجد فيه هؤلاء الفنانون أنفسهم، حيث ينتظر منهم الشّعب دعم مطالبه المشروعة بالحرية والكرامة، بينما تتوقّع السلطة أن يقفوا إلى جانبها، وأن يردّوا لها ما تعتبره جميلا في رقبتهم بعد أن كبر كثير منهم ونال شهرته في أحضانها.

والمفارقة أنّ من بين هؤلاء الذين يستنكرون على شعبهم المطالبة بالحرية والكرامة، كانوا قبل أسابيع قليلة يؤيّدون بحماس الثّورتين التونسية والمصرية باعتبارهما تعكسان إرادة شعبية عظيمة، وليس مؤامرة خارجية كما يطلقون على ما يشبههما اليوم في بلادهم. بل لطالما اشتكى بعض هؤلاء المثقّفين خلال السنوات والعقود الماضية من موات الجماهير وتقاعسها عن التحرّك ومقاومة الظلم، ولكنهم خذلوا هذه الجماهير في اللحظة التي تحرّكت فيها وسعَتْ إلى كسر قيودها.

وإذا كان يمكن تفهّم موقف من التزم الصمت خوفا على أمانه الشّخصي وأمان أسرته، أو حتى طمعًا في مواصلة الاحتفاظ بمزايا معيّنة توفّرها له السلطة، فإنّه من الصّعب تفسير موقف من جنَّد نفسه لتبرير ارتكابات الأجهزة الأمنية، وتلطيخ سمعة المحتجّين وأهدافهم.

والسؤال المطروح بداهةً عمّا إذا كان يستحقّ أن يحوز صفة المثقف كلّ من يقف على نحو فاضح ضدّ أهداف إنسانية سامية مثل الحريّة والدّيمقراطية ومقاومة الظلم، يمكن الردّ عليه تبسيطا بأنّ هؤلاء فقدوا البوصلة وبنوْا موقفهم على حسابات مغلوطة، لكن في التحليل الأعمق لا بدّ من الاعتراف بأنّنا، وبوجه عام، نقف أمام أزمة وعي سياسي عميقة تتمظهر حاليا على وجه الخصوص من خلال الشخصيات العامة التي يتاح لها الظهور عبر وسائل الإعلام، لكنها منتشرة عموما في كلّ ثنايا المجتمع السوري ( والعربي عموما) عموديا وأفقيا، حتى لدى كبار المسؤولين في الدولة والحزب الحاكم الذين تفتقر غالبيتهم الساحقة للثقافة السياسية الحديثة المتّصلة بمبادئ الحريّات والدّيمقراطية وحقوق الإنسان، حتى أنّ كلمة الديمقراطية لدى كثير من هؤلاء المسؤولين ليست غير متداولة وغير مستساغة فقط، بل تنتمي في وعيهم الداخلي إلى عالم المؤامرة والغرب المُعادي والاستعمار والإمبريالية والصهيونية.

وهذه الأزمة، هي نتاج عقود من تغييب السياسة وحكم الحزب الواحد الذي يضطهد تلقائيا حرية التفكير ومجمل الحقوق الفردية ويمجّد الجماعة، هذا في أصوله النقيّة الأولى، لينتهي الوضع لاحقا إلى نوع من تقديس الفرد الحاكم، وتسفيه كلّ ما عداه من قيم سياسية وحقوقية تنتمي إلى العصر الراهن.

وما يجدر ملاحظته أخيرًا هو أنّ جيل الشباب، وكما بدا الأمر في تونس ومصر من قبل، وإن كان لم يتح لممثّليه حتى الآن الظهور علنًا بسبب عدم اعتراف السلطة أساسا بوجود تيار شعبي يقف وراء الحراك الحالي، متقدّم في وعيه الوطني، بل وثقافته السياسية، وعلى نحو ما تظهر المناقشات الكثيرة على مواقع التواصل الاجتماعي في الانترنت، على النّخبة المفترضة التي لا يزال كثير منها أسير الكتب والنظريات الثورية المعزولة عن الواقع، او ارتبطت، كما هي حال كبار التجار والرأسمالية الوطنية، بمصالح مباشرة مع السّلطة، فوصلت إلى درجة مرضيّة من الترهّل العقلي والانحطاط الفكري. ولعلّ هذا الجيل الذي أخذ زمام المبادرة في تحريك المياه الراكدة، يستحقّ أن تكون له مكانة متميزة في تحديد خيارات البلاد والمشاركة الفاعلة في قيادتها خلال المرحلة المقبلة.