العنوان هنا
مقالات 29 نوفمبر ، 2011

أهمّ التحدّيات التي تواجه العمليّة الانتخابيّة في مصر

تعتبر العديد من القوى السياسيّة المصريّة الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية بدأت في الثامن والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2011، معركة حياة أو موت في مواجهة القوى التي يُعتقد - بحقٍّ أو بغير حقّ - أنها غير راغبة أو غير مرحّبة بتحوّل ديمقراطي حقيقيّ في المشهد السياسي المصريّ بعد الموجة الثوريّة الأولى في 25 كانون الثاني/ يناير 2011.

وفي مقابل مخاوف تتعلق بتفاقم مظاهر "البلطجة" والخروج على القانون في الشّارع، والتطوّرات الجارية في ميدان التحرير منذ ظهيرة السبت 19 تشرين الثاني/ نوفمبر؛ تعلن هذه القوى عن استعدادها لحماية العملية الانتخابية من التصويت إلى فرز الأصوات بكل ما تملك من قوّة، والتضحية بالأرواح إذا ما لزم الأمر لكي تحقّق أهدافها، لأنها الممهّدة للجولتين الثانية والثالثة في انتخابات مجلس الشعب والجولات الانتخابية لمجلس الشورى، وصولا إلى مرحلة كتابة الدستور المصريّ والانتخابات الرئاسيّة، بما يعنيه ذلك من تسليمِ الحكم إلى سلطة مدنيّة منتخبة، وعودة المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة إلى ممارسة مهامّه الأصليّة والأصيلة في حماية البلاد ضدّ الأخطار الخارجيّة.

والواقع أنّ التحدّيات التي تواجه العمليّة الانتخابية في مصر لا تقتصر فقط على المخاوف الأمنيّة؛ التي يبدو أنّ هنالك من يبالغ بخصوصها لتحقيق أغراض معيّنة، إنما هناك عدد آخر من التحدّيات، يمكن إجمال أهمّها في ما يلي:


أولًا:
سيطرة العسكر على المشهد السياسيّ والانتخابيّ والأمنيّ، فمنذ تسلّم المجلس الأعلى للقوّات المسلّحة زمام الأمور في مصر في 11 شباط/ فبراير 2011، أعلن في أكثر من مناسبة التزامه بمطالب ثورة "شعب مصر العظيم"، وذكّر خلال العديد من البيانات بالتزامه بتسليم السّلطة إلى سلطة مدنيّة منتخبة، يغادر بعدها ميدان الحكم إلى ثكناته.

ولكن كلّ هذه التأكيدات والتّطمينات يناقضها ما يجري على الأرض منذ الأيّام الأولى التي أعقبت تنحّي مبارك، والتي تبعث يوما بعد يوم الشكّ بخصوص نيّة المجلس العسكريّ في التخلّي عن السلطة، أو في أحسن الظروف تسليمها بعد ضمان إعادة إنتاج النظام القديم بما يضمن الحفاظ على المكاسب والمصالح والامتيازات وذلك بالاتّفاق مع قوى سياسيّة.

ومن ناحيةٍ ثانيةٍ يظهر إصرار المجلس العسكريّ، بالتعاون مع وزارة الداخلية، على التعامل مع كلّ الملفّات السياسيّة بالطريقة الأمنيّة المعتادة، من توظيف العنف والقمع والتّشويه هو في التّعامل مع المشكلات السياسية التي تواجه النظام السياسيّ. ويتأكّد هذا من خلال مراقبة أداء المجلس أو دعمه لوزارة الداخليّة في الأزمات المتكرّرة، بدءًا من أحداث الاعتداء على الكنائس في أطفيح وإمبابة وماريناب وغيرها، إلى استخدام العنف المفرط في التّعامل مع المتظاهرين العزّل خلال الشهور العشرة الماضية؛ وخاصّة في أحداث العباسية وماسبيرو والتّحرير. ويضع هذا النهج تحدّياتٍ كبيرة أمام العمليّة الانتخابية التي يتوقّع الكثيرون أن يطالها كثير من العنف في ضوء حالة الاحتقان والفلتان الأمنيّ التي تعيشها مصر تحت سمع وبصر المجلس العسكريّ.

وفي ضوء ما يتجدّد من استخدام مفرط وغير مبرّر للقوّة والعنف من قوّات الشرطة ضدّ المتظاهرين والمعتصمين، تتزايد الشكوك بأنَّ ما يحدث من تصعيد هو أمرٌ مخطّط له من قبل بعض القوى، التي لاتزال تحاول التمسّك بخيوط النّظام القديم.

ولكن المسألة المهمة هي أنَّ إدارة العمليّة الانتخابية في ضوء استمرار سيطرة العسكر على المشهد السياسيّ تشكّل تحدّيا مهمًّا تواجهه القوى السياسية، التي يبدو أنّ بعضها لايزال غير مستعدّ للتعاون مع المجلس العسكريّ لحماية العمليّة الانتخابية، وهو ما يدفع البعض إلى التشكيك في جدوى الانتخابات على أساس أنّ قواعد اللعبة ليست في صالح الشارع الثوريّ، وإنّما تصبّ في صالح بعض القوى دون غيرها، وفي صالح المجلس العسكريّ بشكل كاملٍ تقريبًا.


ثانيًا:
ما يبدو من تعقيد للعمليّة الانتخابية نفسها وغموض القانون وتقسيم التصويت على الدوائر الفرديّة والقوائم. ودون الدّخول في جدل إن كان تعقيد تنظيم عملية التّصويت مسألة متعمّدة أو غير ذلك، فإنه لا يمكن إنكار أنّ القانون بشكله الحالي والتّداخل بين الدوائر الفردية والقوائم، حالةٌ يصعب فهمها في مجتمع تقترب نسبة الأمّية فيه من 40%، وتزيد نسبة الأمّية السياسيّة على ذلك بكثير.

هذا الأمر من الممكن أن يكون سببًا لعزوف عدد كبير من المواطنين عن المشاركة في الانتخابات، والأهمّ من ذلك أنه قد يسبّب تشويهًا لإرادة النّاخبين، نتيجة تلاعب هذه القوى أو تلك بإراداتهم.


ثالثا:
الصّعوبات المتعلّقة بثقافة المشاركة، فعلى الرغم من أنّ العملية الانتخابيّة ليست جديدة على الواقع المصريّ (فالتاريخ المصريّ الحديث حافل بذكريات المرشّحين واللجان الانتخابية  والمؤتمرات الصحفيّة لوزراء الداخلية التي يعلنون فيها بكثير من الثّقة نتائج هذه الجولة أو تلك)، فإنّ الملايين من المصريين لم يذهبوا في حياتهم إلى صناديق الاقتراع، قناعة منهم بأنّ أصواتهم لن تُحْدث فرقًا في هذه الحالات الانتخابيّة التي كانت نتائجها معروفة سلفًا.

وقد شكّلت لحظة الاستفتاء على التعديلات الدستورية فرصةً ونموذجا عن المشاركة؛ فمن ناحية عكست النتيجة حالة الاستقطاب العنيفة التي انجرَّ إليها المجتمع المصريّ والقوى السياسيّة الناشطة فيه، وشكّل هذا الاستقطاب عاملًا سلبيًّا أحبط البعض من تكرار المشاركة السياسيّة. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، شكّلت نفس النتيجة تحدّيًا للعديد من القوى السياسيّة التي ارتبطت بالمعسكر الليبراليّ، والتي اكتشفت القيود على تواصلها مع الجمهور العريض من النّاخبين، فقرّرت تدعيم قنوات التواصل والتّعامل مع الانتخابات البرلمانيّة، باعتبارها فرصة ذهبية لتجسير الفجوات التي اكتشفتها جرّاء الاستفتاء.

 

رابعًا: قلّة خبرة الأحزاب الجديدة والصّراع بينها وبين الأحزاب القديمة، فمنذ الثامن عشر من شباط/ فبراير 2011 (تاريخ حصول "حزب الوسط" على ترخيص بعد صراع طويل في المحاكم مع نظام مبارك) وحتّى اليوم، ظهر في مصر ما يزيد على أربعين حزبًا؛ بعضها انشقّ عن أحزاب وتيّارات سياسيّة قديمة، وبعضهم ضمَّ في عضويّته عددًا من أعضاء الحزب الوطنيّ المحَلّ، والبعض الآخر جمع ناشطين مجتمعيين وسياسيين لم يختبروا العمل الحزبيّ أو الانتخابيّ من قبل.

وارتبط بتحديد موعد الانتخابات البرلمانية جدلٌ كبيرٌ حول قدرة هذه الأحزاب؛ وخاصّة القادمين الجدد إلى ساحة العمل الانتخابيّ، على التّواصل مع الشارع وبالتالي عدم قدرتهم على الوصول إلى تمثيل في داخل البرلمان الجديد، واقتصار العضويّة فيه على التيّارات القديمة الأكثر قدرةً على التنظيم، أو الأحزاب التي نشأت من رحم الحزب الوطنيّ (الفلول)، نتيجة خبرتهم في الحشد وتقديم الرّشاوى الانتخابيّة.

وعلى الرّغم من ضعف الإمكانيات المادّية والبشرية واللوجستية المتوفّرة لهذه الأحزاب الجديدة في مواجهة الأحزاب القديمة، إلا أنَّ المشهد الحالي يحمل بعض الفرص لصالحها. فخبرة المصريّين مع الأحزاب القديمة أو الأحزاب المرتبطة بالحزب الوطنيّ الديمقراطي، لا يمكن وصفها بالتجربة الإيجابيّة، حيث عملت هذه القوى إمّا في ظلّ تضييق أمنيّ وإعلاميّ شديد، أو أنّها ارتضت لنفسها دور المعارضة المستأنسة لنظام استبداديّ؛ وإمّا أنها أحزاب خذلت من صوت لصالحها لأنه لم يترتّب على انتخابها أيّ نتائجَ إيجابيّة ملموسة للدائرة الانتخابية أو الوطن. وعليه، يبدو السياق التاريخي مناسبًا لهذه الأحزاب الجديدة لتقدّم نفسها كبديل حقيقي لكل الرموز والتيارات المستهلكة والتي ارتبطت بالتجربة السياسية الفائتة.

كما أنّ هذه الأحزاب الجديدة تمتلك القدرة على توظيف التكنولوجيا ووسائط الاتصال الحديثة، التي من الممكن أن تعوّض نقص الخبرة أو نقص الإمكانيات، وتمكّنهم من الوصول إلى القواعد الجماهيرية التي لن تضمن لهم أغلبيّة برلمانية بالتأكيد، ولكن من الممكن أن تمكّنهم من الدخول إلى معقل صنع التشريعات، والمشاركة في صنع مستقبل مصر وإنجاز التحوّل الديمقراطيّ.


خامسًا:
التحدّي المرتبط بتشتّت الأصوات نتيجة العدد الكبير من المرشّحين على القوائم أو في الدوائر الفرديّة، فبعض الدوائر يتنافس فيها ما يزيد على 120 مرشّحًا على مقعدين فرديّين فقط، بينما يصل عدد القوائم المتنافسة في بعض الدوائر إلى سبع قوائم. وفي ظلِّ نظامٍ معقّد لحساب الأصوات، تتجلّى تحدّياتٌ حقيقيّةٌ ترتبط بتبعثر الأصوات، واضطرار العديد من الدّوائر إلى الدخول في جولات للإعادة، الأمر الذي سوف يتسبّب في أعباء ماليّة وإداريّة إضافيّة.

وينتج عن ذلك خشية حقيقية من تفتّت التمثيل في البرلمان القادم على كلّ القوى السياسية القديمة والحديثة، ما يعني في المحصلة النهائيّة أنه لن توجد كتلة سياسيّة تستطيع أن تمرّر ما تريد من تشريعات وقوانين، وهو ما يهدّد فعاليّة المجلس من الأساس. ولكن التحدّي الحقيقيّ في هذا الإطار يتعلّق بما هو المطلوب أساسًا من المجلس القادم، هل هو الدور التقليديّ للبرلمانات الذي يتمثّل في الرّقابة والتشريع؟ أم أنه سيأخذ على عاتقه فقط اختيار الجمعية التأسيسيّة لكتابة دستور مصر القادم، ولن يتمكّن من ممارسة باقي المهامّ المنوطة بالأجهزة التشريعية؟

والواقع أنّ تشتّت التمثيل في البرلمان القادم يستوجب ضرورة تعاون القوى السياسية الممثّلة فيه من أجل تمرير أيّ قرار أو قانون، ليشكّل فرصة ذهبيّة للتّعاون بين الفرقاء من أجل القدرة على الإنجاز في هذه المرحلة، وكذلك فرصة للتدرّب على العمل العامّ والعمل التشريعيّ للعديد من القوى التي لم تختبر هذا من قبل.

والتحدّي الأخير في هذا السّياق يتعلّق بضرورة وضع الانتخابات القادمة في إطارها الصحيح، وعلاقتها بغيرها من الإجراءات التي تضمن التحوّل الديمقراطيّ لمصر، فهي مرحلة وليست معركة حياة أو موت، ولا يجب التّضحية بكلّ شيء - بمن فيهم النّاخبين - للحفاظ عليها.