في إطار برنامج السيمنار العلمي للمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، انعقدت مناقشة لكتاب "الديمقراطية والبندقية: العلاقات المدنية - العسكرية وسياسات تحديث القوات المسلحة" الذي صدر حديثًا عن المركز، لمؤلفه الدكتور عبد الفتاح ماضي، الباحث بالمركز، ورئيس تحرير دورية "حكامة". انعقد السيمنار يوم الأربعاء 26 كانون الثاني/ يناير 2022، وأداره الدكتور مراد دياني، الباحث بالمركز العربي ورئيس تحرير دورية استشراف، وقد جمع ثلاثة من الباحثين في مجال الدراسات الأمنية؛ هم الدكتور إبراهيم السعيدي، عميد الدراسات العليا وأستاذ الدبلوماسية والدراسات الدفاعية والأمنية بكلّية جوعان بن جاسم للقيادة والأركان المشتركة، والدكتور عمر عاشور، الأستاذ المشارك ورئيس برنامج الدراسات الأمنية النقدية بمعهد الدوحة للدراسات العليا، والدكتور سيد أحمد قوجيلي، الأستاذ المساعد بالبرنامج. 

في البداية، أشاد السعيدي بالكتاب، مؤكدًا أنه عكس تطورًا معرفيًّا ذا أهمية في نظرية العلاقات المدنية - العسكرية التي تطورت عبر نصف قرن. ورأى أن الكتاب ينطلق من دراسة الربيع العربي الذي مثّل، في حدّ ذاته، محطة مهمة من محطات التحولات المعرفية؛ بما أنعشه في التفكير الأكاديمي العربي والدولي من تساؤلات في الموضوع، وما أضافه من زخم معرفي يخص السؤال عن الجيوش والثورات، والمعرفة بالكيفية التي يجري من خلالها إنجاز التحول الديمقراطي في سياق تدبير العلاقة بين المجتمع والجيش.

وأوضح السعيدي أن الكتاب يتوّج مشروعًا بحثيًّا ممتدًا للدكتور ماضي، قدّم فيه عدة دراسات وأوراق ضافية في دقائق العلاقات المدنية – العسكرية، وأن الكتاب جاء ليسد فجوة معرفية؛ إذ إنّ الأكاديميا العربية تفتقد إلى مرجع ذي أهمية يضع الطلاب أمام الأبعاد المختلفة لعلاقة السلطة بالجيش. ومن مزاياه أنه اعتنى بتجربة تقترب من العالم العربي في ظروفه وسياقاته، وهي تجربة أميركا اللاتينية، ليبيّن كيف أنّ التحول الديمقراطي فيها أنجز من خلال تعديل علاقة الجيوش بالسلطة، ويستعرض دروسًا مهمة من حالات البرازيل وتشيلي والأرجنتين، طارحًا خلاصة نوعية ضمن دراسات التحول الديمقراطي المناطقية، ودروسًا مستفادة تهمّ الحالة العربية.

وشدد السعيدي على أنّ أهمية الكتاب تكمن في طرحه المنهجي المتناغم الذي يبرز الصبغة التطورية لتحوّل العلاقات المدنية - العسكرية من مراحل الاستبداد، وصولًا إلى المرحلة الديمقراطية. وقال إنّ الكتاب لم يكتفِ بإبراز الأسس والظروف التي تجعل هذه التحولات ناجحة فحسب، بل إنه بلور خلاصته التحليلية ضِمن ما أسماه "النموذج التفاوضي" الذي يبيّن سُبل إخراج الجيش من السياسة، من خلال آليات تفاوضية توافقية، تيسّر إنجاز هذا الوضع التاريخي الذي ينتهي إلى الديمقراطية؛ وذلك وفق شروط وتفاهمات تضمن خروج الجيش بغير خسائر تثيره مخاوفه أو تدفعه إلى الانقضاض على الديمقراطية.

وجّه السعيدي ملاحظات نقدية يتعلق أهمها بمنظور الكتاب إلى قضية تحديث القوات المسلحة؛ إذ إنّ هذا الأمر لم يَجرِ من وجهة نظر استراتيجية عسكرية احترافية، بل من زاوية إبعاد الجيش عن مظاهر الانحياز السياسي وممارسة السلطة، وهي تمثل في حدّ ذاتها ملمحًا تحديثيًّا. وتساءل السعيدي عن موقع قطاع الأمن في المعالجة، وجدوى تشغيل مفاهيم من قبيل الأمننة، وبيّن أنّ المؤلِّف قد اختار ألّا يتناول قطاع الأمن بمختلف مستوياته، وأنّه ركز على زاوية تطبيق السيطرة المدنية على القوات المسلحة في السياق الانتقالي.

أما الدكتور عمر عاشور، فقد طرح مداخلة نقدية، بدأها ببيان موضع الكتاب ضمن تطور الحقل المعرفي، مثنيًا على كلام السعيدي؛ من جهة أن الكتاب، بمنهجه المقارن ونظرته المتأملة لحالات أميركا اللاتينية، يَسدّ فجوة في المكتبة العربية، ويوفر مادة غنية لطلاب الدراسات الأمنية النقدية، ويعينهم على تبيّن دروسه في انعكاسها على الحالات العربية.

طرح عاشور عددًا من مواضع التساؤل النقدي، أبرزها ما اتصل بتطبيقات نظرية الأمننة في الكتاب، وناقش حالات مختلفة، كالبرازيل مثلًا، وبيّن كيف أنّها أسهمت في عرقلة مسارات التحول الديمقراطي وجهود ضبط العلاقات المدنية - العسكرية. لكنّ أحداث 11 سبتمبر 2001، في الولايات المتحدة الأميركية، التي جرت بعناصر مدنية كليًّا، تطرح - من وجهة نظر عاشور - تساؤلًا حول فاعلية استخدام نظرية الأمننة في فهمها. وفي ما يتعلق بالرقابة الديمقراطية على القوات المسلحة، أو السيطرة المدنية، فضّل عاشور، أيضًا، وصف الديمقراطية، مبرزًا أنّ التمييز كامن في الشرعية الانتخابية أساسًا بالنسبة إلى من يقومون بهذه السيطرة، وليس من جهة أنهم مدنيين فحسب. ومن ثم، طرح مسألة دور القوة في التحول الديمقراطي، في مقابل توافقات النخب المدنية والعسكرية؛ إذ إن إخراج الجيش من السلطة جاء، في حالات غير قليلة، بتأثير من القوة العسكرية. ففي حالات كالأرجنتين مثلًا، فتحت القوة العسكرية الباب للتحولات، حيث أدت هزيمة الجيش الأرجنتيني في جزر الفوكلاند إلى انكشاف العسكريين، وظهور مساوئ حكمهم وأعمال التضليل الداخلي التي مارسوها، وكان انعدام توازن العلاقات المدنية - العسكرية سببًا في الهزيمة. وتوجد حالات أخرى كان فيها التأثير العسكري الخارجي في وضعية النخب العسكرية الحاكمة قد أفضى إلى اضطرارهم إلى الانفتاح على التحول؛ كما هو الشأن في كوريا الجنوبية. وفي السياق ذاته، عرّج عاشور على نموذج جايير بولسونارو في البرازيل، وحالة تهديد بعض العناصر العسكرية، باللجوء إلى السلاح، على نحو دفع إلى تعديل العلاقات المدنية - العسكرية، ثمّ إنّ الأمر لم يقتصر على التفاوض بين النخب، بل إنّ توظيف القوة ظل يؤدّي دوره مع التحولات وضدها.

من ناحية أخرى، أثنى سيد أحمد قوجيلي على الكتاب، ورأى أنه - بما يحمل من مادة غنية في موضوعه - يقدّم إضافات متعلقة بالأدبيات في مجال الدراسات الأمنية والاستراتيجية. وأكد قوجيلي ما في الكتاب من صرامة علمية ووضوح، وأنه يتيح فرصة لتعرّف حالات مختلفة، فضلًا عن دروس ذات أهمية لها انعكاسها على الحالات العربية. وأشار إلى تقديم الكتاب إضافات إلى جهود ترجمة المصطلحات العلمية في دراسة العلاقات المدنية - العسكرية.

ثم انتقل قوجيلي إلى بعض نقاط النقد، ومنها أن الكتاب قد اعتنى بالإشكاليات الكلاسيكية للعلاقات المدنية - العسكرية؛ أي إنجاز الرقابة المدنية الديمقراطية مع الحفاظ على الفاعلية العسكرية، وأنه تساءل عمّا يلي: متى يخرج العسكر من السلطة أولًا ومن السياسة ثانيًا؟ وكيف يكون ذلك؟ وأوضح أن دراسات العلاقات المدنية - العسكرية قد تجاوزت العديد من الإشكالات الكلاسيكية، ومنها هذه الإشكالية، وأنّ هذه الدراسات قد غَدت منفتحة على مسائل جديدة، مشيرًا إلى سؤال واحد هو: لماذا يجب على العسكريين الخروج من السلطة أساسًا أو، بعبارة أخرى، يتنازل من بيده القوة لمن لا يملكها؟ وبحسب قوجيلي، فإن الاشتباك مع هذا النوع من الأسئلة التأسيسية كان يمكن أن ينعكس على تناول المؤلّف القضايا المتعلقة بتطبيق الرقابة المدنية، وهو مفهوم لفّه الكثير من الغموض في الكتاب.

وقد بيّن قوجيلي أن مفهوم الرقابة المدنية طرح في الكتاب بوصفه معطى؛ إذ عولجت مسألة الرقابة المدنية كعملية (صيرورة)، وكجملة من الإجراءات تارةً، وكحالة ووضع قائم تارةً أخرى؛ ما أعطى الرقابة المدنية صيغة معيارية وحوّلها إلى غاية في ذاتها، وهذا الأمر لا يوضح سؤالنا: متى تكون الرقابة المدنية ملائمة؟ رأى قوجيلي كذلك أنّ ثمة تركيزًا على المخرجات، لا على المدخلات التي تخص المؤسسة العسكرية. فليس في الكتاب معلومات وافية عن المؤسسة العسكرية من الداخل، حتى إنها بدت في التحليل أقرب إلى صندوق أسود؛ فقد اقتصر الكلام على الملامح السلوكية لسلك الضباط ووحدتهم، من دون أن نعرف كيف يرى هذا السلك مصالحه، ومن دون أن نتبيّن طبيعة هذه المصالح نفسها.

شكر المؤلّف الباحثين على تحمّلهم جهد القراءة وعناء المشاركة والتعليق، ثم علّق على بعض الملاحظات. أوضح، في البداية، أن الكتاب يستخدم مفاهيم حقل السياسة المقارنة وتغيير الأنظمة تحديدًا والأدوات التحليلية المصاحبة لها، مع الاستفادة من بعض المفاهيم المطروحة في حقول أخرى، مثل حقل الدراسات الأمنية، لكنّ ذلك قد كان من دون الدخول في تحليل الكثير من المضامين الفنية. ولهذا فإنّ الكتاب، مثلًا، يتناول كيفية صُنع سياسات تحديث المؤسسة العسكرية في بعديها السياسي والسياساتي؛ أي من حيث سياقاتها وفاعلوها وتحدياتها ومضامينها (مثل دور المؤسسات المدنية؛ كالبرلمان ولجانه، ووزير الدفاع، وهيئات الأركان، في أمور مثل الرقابة البرلمانية، ووضع الميزانية العسكرية، والمناهج التعليمية العسكرية والمدنية ذات الصلة، وغير ذلك)، من دون التطرق إلى الجوانب الفنية للتحديث؛ مثل طرائق التدريب المختلفة، ونوع الأسلحة. فهذا يحتاج إلى دراسة منفصلة في مجال معرفي آخر.

وبيّن المؤلّف أنه تناول نظرية الأمننة في إطار الحديث عن تطور حقل العلاقات المدنية - العسكرية الذي اتسع عند البعض ليشمل القطاع الأمني، وأنه لم يستخدم الأمننة في أكثر من ذلك. وأكد أن الكتاب يستخدم "مفهوم العلاقات المدنية الديمقراطية"، ويعرض تطور هذا المفهوم والفوارق بين "الرقابة المدنية" و"الرقابة السياسية" و"الرقابة الديمقراطية" كما وردت في الأدبيات. وبشأن القوة والتغيير، أوضح أن الحالات التي نجحت في الانتقال من الحكم العسكري إلى الديمقراطية، تحديدًا، لم تعتمد على أداة العنف بوصفها أداة رئيسة؛ بمعنى أننا لم نشهد منازلة الجيوش عسكريًّا مثلي أي ما أوضح الكتاب بالتفصيل. وهذا لا ينفي حقيقة أن عمليات الانتقال تشهد - بلا شك - مظاهر مختلفة من العنف؛ كالتظاهرات، وأعمال العنف، أو تتأثر بالهزائم العسكرية، وقد تناول الكتاب هذا البعد مع غيره من الأبعاد.

وبخصوص النقاش حول طبيعة الأسئلة التي طرحها الكتاب، أشار المؤلّف إلى أن هذا الكتاب يتناول سؤالين كبيرين من أسئلة الواقع الراهن، هما: كيف يخرج العسكريون من السلطة؟ وكيف تجري معالجة دورهم في السياسة عبر إقامة الرقابة المدنية على القوات المسلحة؟ والمقصود هنا الحد من نفوذهم في السياسة والاقتصاد والمجتمع أو "نزع السياسة من الجيش" (السؤال الثاني)، بعد خروج، أو إخراج، العسكريين من السلطة (السؤال الأول)، مع أهمية تأكيد أن النظرة هنا ليست ثنائية؛ فالعمليات متداخلة وممتدة زمنيًّا وقد تشهد انتكاسات.

وأوضح المؤلّف أن السؤال "لماذا يتنازل من بيده القوة لمن لا يملكها؟" هو نفسه سؤال الخروج من السلطة، وسؤال كيفية إقامة الرقابة المدنية على القوات المسلحة؛ فالمسألة تتعلق فعلًا بصراع مصالح وموازين قوة داخل الجيوش أحيانًا، وبين العسكريين والمدنيين في كل الحالات. ولفت الانتباه إلى أهمية عامل تكتّل القوى الديمقراطية الذي يُعدّ من أهم عوامل تعديل ميزان القوة ومواجهة من يمتلك القوة المادية. ثمّ إنّ في الكتاب تفاصيل كثيرة أخرى، أهمها الأبعاد الخمسة التي تجري فيها عملية إقامة الرقابة المدنية الديمقراطية على القوات المسلحة وتعديل ميزان القوة، وهي: مضامين هذه الرقابة، والفاعلون الرئيسون، والتوقيتات، والاستراتيجيات والأدوات، والتحديات والسياقات والعوامل المؤثرة فيها. وضمن الحديث عن السياقات والتحديات يَرِدُ في الكتاب تحليل بنية الجيوش من الداخل وطبيعة الصراعات حول المصالح التي دارت داخل الجيوش وبين الفاعلين المختلفين، بما في ذلك الحديث عن تأثير العديد من العوامل؛ مثل الجيل، والطبقة، وتغير العقيدة الاستراتيجية، وتبدّل المهمات التي تقوم بها الجيوش في الداخل والخارج، والمقررات التعليمية والمناهج العسكرية، وطبيعة النظام السياسي ومدى قوة مؤسساته الديمقراطية وحيوية الحياة الحزبية والمجتمع المدني، ومهارات السياسيين، وتوافر الخبرات المدنية، وغير ذلك.