نظّم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، فرع بيروت، ندوة نقاشية حول كتاب دلال البزري يساريون لبنانيون في زمنهم: مذكرات وشهادات، الصادر عن المركز العربي.

بروز اليسار

تحدّث بول طبر، الأستاذ في الجامعة اللبنانية الأميركية، عن مساهمة دلال البزري، عبر كتابها، في التأريخ لليسار اللبناني، من خلال تتبع سير اليساريين وعلاقتهم بالأحداث السياسية التي تفاعلوا معها، مبيّنًا ديناميات نشوء الأحزاب اليسارية، والمسارات التي أوصلتها إلى ما وصلت إليه.

غير أنه سجّل على الكتاب أنه لم يتطرق إلى نشأة اليسار ثقافيًا واجتماعيًا مع نشأة لبنان الكبير، وكذلك منذ استقلال لبنان. فلبنان تأسس، في نظره، على تناقضين؛ أحدهما طائفي والآخر متعلق بالهُوية، مع وجود نزاعات طبقية وطلابية وعمالية وغيرها، ضمن التناقض الطائفي السياسي والكياني؛ فنشأة اليسار لا تُفهم بمعزل عن هذين التناقضين. وأوضح أن صعود اليسار كان نتيجة تحالفه مع الطوائف المحرومة، ووقوفه مع المعسكر القومي العربي، والتزامه القضايا القومية، في ظل انقسام رافق نشأة الكيان اللبناني، اعتبره جزءٌ من أبناء لبنان فعلَ تجزئةٍ للأمة العربية أو الأمة السورية.

الكتابة الذاتية والوثائقية

تناول الكاتب والصحافي التونسي شوقي بن حسن الكتاب من "زاوية صحافية" بحسب تعبيره، أبرز فيها خصائص المادة النصية للكتاب في محاولة لتصنيفه، وقدّم بعدها تأملات في الكتاب من الناحية الصحافية.

ويصنف بن حسن كتاب يساريون لبنانيون ضمن الكتب الوثائقية، فهو يصف الواقع، بوثائق تحقيقية، ويحمل خصوصية الذاتية، كما أنه يدخل ضمن كتابة المقالة التجريبية. وهذا الكتاب يتموضع ضمن جنس التجريب مثلما صنفته المؤلفة، أو "المحاولة أو المقالات" وفق ترجمة Essay العربية أحيانًا. ويحمل الكتاب، بحسب جنس الكتابة هذا، أوصافًا أهمها الذاتية واقتحام الموضوع باعتباره تجربة، والاشتغال الأسلوبي، والتواضع المعرفي. ويعتبر بن حسن أنّ تصنيف المؤلفة لكتابها يُمثّل حضور وعي أجناسي، عادةً ما يغيب في ثقافتنا العربية، كلما خرجنا من دائرة الأدب. ويرى أن الكتابة الفكرية العربية محتاجة إلى تأمّل من هذا القبيل في الكتابة وتصنيفاتها. وبفضل التموضع في جنس التجريب، تحلّ المؤلفة إشكالية القطيعة بين البحث والكتابة الذاتية؛ فالكتابة حين تأخذ صبغة الشهادة، والعلاقة بالواقع، تُستَعدَى من ثقافتنا العربية. وقال إنّ على المؤلفة طرْحَ الإشكاليات على أنها جزء من بنية الكتاب، بدلًا من التبرير. فالقضية أنه نتيجةً لـ "العدوانية ضد الحقيقة"، هُجِّرت الكتابة الذاتية من الكتاب الفكري. واعتبر كتابَ البزري ذاتيًّا بامتياز، واعتبر، أيضًا، أنّ الكتاب الوثائقي امتداد طبيعيّ للصحافة، في وصف الواقع. وقال إننا إذا بحثنا عمّا يعرقل إنتاج الكتب الوثائقية عربيًا، فسنجد إشكاليات تعيشها الصحافة أيضًا. فمثلًا، تذكر المؤلفة عدم رغبة الكثيرين في المشاركة والحديث عن تجاربهم، وتراجع بعضهم عن المشاركة، أو تعديل أقوالهم، وهذه الأمور تحدث يوميًا مع الصحافيين. صوت الباحث هو ما يملأ الفراغ، فصعوبات الباحث هنا هي صعوبات الصحافي.

من جانبه، أشار محمد أبي سمرا، وهو صحافي وروائي، إلى الأهمية الكبيرة التي يكتسيها كتاب دلال البزري بالنسبة إليه وبالنسبة إلى العديد من المهتمين بالموضوع أيضًا؛ وذلك لأنّه يقدّم عددًا من سِيَر وشهادات أفراد ساهموا في نشأة اليسار اللبناني وتحولاته. وذكر أن الكتاب وثائقي، وأنه يمكن أن يكون مرجعيًّا، فقد وزعت المؤلفة مقابلاتها على مناطق وأجيال وتركتهم يعرِّفون بأنفسهم؛ ما جعل الأشخاص يحكون تجاربهم، كما يرونها.

وتحدث وسام سعادة، الأستاذ في معهد العلوم السياسية في جامعة القديس يوسف والباحث في الفكر السياسي وتاريخ الأفكار، عن عنوان الكتاب، لافتًا إلى أنه يضمر عناوين عدة، وأنه يطرح أسئلة وهواجس، ويُبرز إشكالية مفادها أن اليسار، على الرغم من اختلاف الأمزجة داخله، ما زالت النظرة الامتداحية للذات تعتريه. وأشار إلى أن استخدام عبارة "في زمنهم" (اليساريين) يوحي بالكثير من التساؤلات: هل يعني ذلك أنهم خارج زمانهم، خارج زماننا؟ هل لهم زمنية خاصة؟

واعتبر أن هناك صيغة وسطًا بين سؤال الشخصيات عن حياتهم الشخصية وحياتهم النضالية. وقال إنّ الكتاب يشير إلى وجود أزمنة لهذا اليسار في لبنان، بين صعود وهبوط، منذ الأربعينيات؛ فلكل فترة يسارها. أما اليوم، فقد تأسلم اليسار اجتماعيًّا؛ إذ انضمّ شيعة إليه، وكان اليسار اللبناني في تحولاته ذا تكوين ديموغرافي طائفي تبدلي، وهذا له تداعيات على المفاهيم التي يعتنقها اليساريون.

ووافق سعادة ما ذهب إليه بول طبر من جهة أنّ اليسار لم يستطع بناء موقف من الكيان اللبناني بصفته دولة؛ ففي السبعينيات، كان في مجمله صفًّا واحدًا، مع التحالف الفلسطيني - اللبناني الإسلامي - الجنبلاطي في وجه الطرف الآخر. وهذا الأمر اختلف مع المعطى السوري في لبنان، فأصبح هناك يسار ممانع، ويسار اعتدالي قريب إلى الغرب. أما في الحصيلة، فلوحة السبعينيات تختلف عما آلت إليه بعد التسعينيات؛ إذ لم يعد هناك يسار للجبهة اللبنانية مثلًا! ورأى سعادة أنه يجب أن يكون للكتاب جزء ثانٍ يتناول عدم إمكان رأب الصدع بين اليسارين.

وتناولت المؤلفة دلال البزري، الكلمة بعد المتحدثين، وقالت في بداية كلامها: "أنا الآن لست يسارية، فلم يبقَ ما يدفعني لأكون". وأشارت إلى بعض الصعوبات التي واجهت إنجاز الكتاب؛ بدءًا من الاكتفاء بسيرتَي امرأتين فقط من بين السِيَر التي يحتويها الكتاب، بسبب رفض قياديات يساريات المشاركة في هذا الشأن. وأوضحت المؤلفة أن الفكرة التي أرادت دراستها في البداية هي: ما الذي يجعل يساريًّا يتفق مع باقي اليساريين يصبح في الموقع النقيض؟ وما الذي قسّم اليساريين ممانعين وغير ممانعين؟ ثم ما الذي جعل اليساريين يساريين؟ وكيف يتّخذ الواحد منهم موقفًا يساريًّا؟