العنوان هنا
مراجعات 14 مايو ، 2012

"في الثّورة والقابليّة للثّورة": نحو تأسيس نظريّة علميّة عن الثّورة العربية الحديثة

الكلمات المفتاحية

هشام القروي

​حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون. تخصّص الدكتور القروي في علم اجتماع النخب والعلاقات الدولية. وشملت أبحاثه دراسة شبكات السياسيين ورجال الأعمال والعسكريين على المستويين المحلي والدولي. تتركز اهتماماته البحثية خصوصًا على: علاقات الولايات المتحدة بمجتمعات المنطقة العربية- الإسلامية (الشرق الأوسط/شمال أفريقيا)؛ وإعادة إنتاج النخب وارتباطاتها؛ ودراسة الشبكات المحلية والدولية للساسة ورجال الأعمال والعسكريين؛ والأيديولوجيات والإطارات المرجعية والمفاهيم والقيم المقارنة؛ وتفاعل الأقليات العربية والإسلامية في الغرب مع محيطها وأصولها.
 وقد كان مؤسس مجلة "دراسات الشرق الأوسط" الفكرية المحكمة (الناطقة بثلاث لغات)، ورئيس تحريرها. وهو يتابع السياسة العربية والدولية بالتحليل والتعليق منذ ربع قرن تقريبًا في الصحف والمجلات. نشر مئات المقالات والعديد من الأبحاث بالعربية والفرنسية والإنجليزية في الدوريات المتخصصة في أوروبا والولايات المتحدة والعالم العربي. صدرت له منذ الثمانينيات عدّة مؤلفات عن العلاقات الدولية، والأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط. من مؤلّفاته المنشورة: التّوازن الدولي من الحرب الباردة إلى الانفراج (تونس 1985)؛ النسر والحدود: مقدمات في نقد الواقع السياسي العربي (تونس1989 )؛ ما بعد صدام في العراق (باريس 2005)؛ المملكة السعودية إلى أين؟ (باريس 2006)؛ المسلمون: أكابوس أم قوّة في أوروبا؟ (باريس 2011).

 
العنوان: في الثورة والقابلية للثورة

المؤلف: عزمي بشارة

الناشر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات -الدوحة

السنة: الطبعة الأولى، 2012

عدد الصفحات: 104


مقدّمة

يستعرض عزمي بشارة في كتيِّب "في الثّورة والقابليّة للثّورة" -الذي لا يتجاوز عدد صفحاته المئة- أهمّ ما ينبغي أن يُعرف عن الثّورات، من حيث فلسفتها النّظريّة وممارستها العمليّة وتاريخها؛ وذلك بطريقةٍ مختصرة ومفيدة. وهو بذلك يقيم الدليل على قوّة النّهج الذي ألمح إليه أساتذةٌ وكتّابُ كبار بأنّ أعمق الأفكار يمكن تقديمها والتّعبير عنها من دون الحاجة إلى إسهاب. ويذكّر هذا الكتيّب بنوعٍ من الأدبيّات السّياسيّة؛ كان قد انتشر في أوروبا، وظفِر بشعبيّة كبيرة، خصوصًا في مطلع القرن العشرين. وهو الذي عمّمته الأدبيّات الماركسيّة بالخصوص، وكان لماركس وإنغلز نصيب فيه، ثمّ تبعهما في ذلك العديد من المنظّرين الثّوريّين.  

ويبدو بشارة في هذا الكتاب حريصًا على أمرين مترابطين؛ أوّلهما: العمل على إضاءة ما يجري في الوطن العربي، منذ أحرق ذلك الشابّ الفقير نفسه في بلدة سيدي بوزيد التّونسيّة، مشعلًا بذلك الثّورة في بلاده وفي البلدان ذات الأنظمة المشابهة، دون أن يكون قد قصد ذلك؛ وثانيهما: أن لا تكون تحديدات الكاتب للثّورة وللحالة الثّوريّة تطبيقات فوقيّة سطحيّة ومتعسّفة لنظريّات أجنبيّة على واقعٍ اجتماعي وثقافي مختلف.

وعلى الرّغم من إمكانيّة إدراج هذا الكتاب ضمن التّراث الإنساني الأوسع للأدبيّات الثّورية؛ فإنّه يتميّز بخاصيّات نوعيّة، تجعله "يتيمًا" -تقريبًا- في أدبيات العلوم الاجتماعية العربية الحديثة. وليس هذا الأمر بغريب، فعلى الرّغم من أنّ الثّورة ليست ظاهرة جديدة في التّاريخ العربي، فقد ظلّ التنظير متخلّفًا شيئًا ما، حيث نرى أغلب الكتب التي أُلِّفت عن الثّورة -كفكر وممارسة في الوطن العربي- إمّا أنّها تنحو تجاه الكتابة التّأريخية التّسجيلية والسّرد الحدثي (كجلّ ما كُتب مثلا عن الثّورة العربية الكبرى ضدّ العثمانيّين، وثورة عرابي، وثورة الأمير عبد القادر، وثورة علي بن غذاهم، والثورات الوطنية ضدّ الاستعمار...)، أو أنّها تستوحي النموذج الماركسي-اللينيني أو الماركسي-الماوي من دون أن تقدّم إضافةً نوعيّة تجعل العرب مساهمين فاعلين في هذا التّراث الإنساني لا مستهلكين. وحين شذّت الكتابات عن هذين النّمطين، وقعت تحت تأثير الأيديولوجيا "المغناطيسي"، فقدّمت لنا "أيديولوجية ثورية" على هيئة "نظريّة قوميّة عربيّة"  أو "إسلاميّة" عن الثّورة، وليس بالضّرورة معرفة علميّة.

حتّى الثّورة الفلسطينية نفسها، وعلى الرّغم من أهميتها وخطورتها وعراقتها، ظلّت أسيرة القوالب الجامدة والتّفكير الدوغمائي أو البراغماتية المسطّحة والانفعالات السياسوية التي لا ترقى إلى مستوى الفكر العلمي والنّظريّة الاجتماعية. وهذا بلا شكّ، يمثّل جزءًا من المعضلة الفلسطينيّة والتّحدّيات التي واكبت القضيّة، واستمرّت ملازمة لها إلى اليوم. وكثيرًا ما ذكر الفلسطينيّون الثّورة الجزائريّة أو الفيتناميّة كنموذج، ولكن الأولى لم تُنتج نظريّةً ولم تستند إلى نظريّة، على الرّغم من محاولة إلصاقها بأفكار فرانتز فانون، ولم يكن هذا الأخير جزائريًّا، وإنّما كان كاتبًا متعاطفًا فحسب. وأمّا الثّورة الفيتنامية، فقد كانت منذ البداية مؤسّسة على الفهم الأيديولوجي الماركسي للتاريخ. وهو فهم سقط في الامتحان العربيّ، ولم يكتب له النّجاح والاستمراريّة في العالم.

فكتاب د. عزمي بشارة يريد تقديم شيء مختلف، إذ نجد أوّلًا في تبويب المؤلّف لكتابه انعكاسًا لمنهجه البحثي. فقد اهتمّ بتحديد "الثّورة" كمفهوم، ومن ثمّ تحدّث عن "الجدّة والتجديد"، و"الحرّية والثّورة"، و"الحالة الثّوريّة أو القابليّة للثّورة"، ومنها إلى "الثّورة كحالة قابلة للانتشار"، وختم تحليله بموضوع "الثّورة الدّيمقراطية والأيديولوجية".


تعريف الثّورة قضيّة منهجيّة

في تعريفه لمفهوم "الثّورة"، لم يبدأ بشارة  كلامه من نظريّات عصر الأنوار وفلاسفة الثّورة الفرنسيّة الكبرى، ومن ثمّ صعودًا نحو القرنين التّاسع عشر والعشرين اللذين ملأهما المفكّرون الاجتماعيون حديثًا عن الثّورة، لكنّه اقتفى أثر فلاسفة العرب الأوائل الذين عدّوا أرسطو "المعلّم الأوّل"، فترجموه وشرحوه وحلّلوا نصوصه. فالجملة الأولى من هذا الكتاب تبدأ كما يلي:

"يقول أرسطو في كتابه 'السّياسة‘ إنّ أنماط الحكم كلّها معرّضة للثورة، بما فيها نمطَا الحكم الأساسيّان وهما: الأوليغاركية والديمقراطية، وكذلك ما يسمّيه نظام الحكم المتوازن، أو الدّستور، أو الأرستقراطي..." (ص7).

لكن غاية بشارة هنا ليست استعراض معلومات تاريخيّة، فقضيّته -كما يبدو لنا- منهجيّة في الأساس. وسندرك أهمّية هذه الخطوة (الرّجوع إلى أرسطو) إذا ربطناها بالمنهج العامّ الذي انتهجه كاتبنا بسعيه نحو إضاءة عربيّة نوعيّة لمفهوم الثّورة. وعلى الرّغم من أنّه لم يصرّح بهذا الهدف، فهو ما يمكن استنتاجه من بين السّطور. فدون وجود هذا الهدف غير المصرّح به في ذهن الكاتب، كان بالإمكان أن يتحوّل كتابه إلى مراكمة معلومات. ولكنّه في الواقع يحاول أن يثبت شيئًا عن طريق البرهان العقلي. فما الذي يريد بشارة إثباته؟

نجد أنّ العديد من الكتّاب الأوروبيّين الّذين عالجوا الموضوع نفسه، يبدؤون عادةً بفلسفة الأنوار، حيث يعدّونها المنبع الأساس للفكر الثوري في الأزمنة الحديثة. أمّا أصحاب النظريّة الاجتماعيّة، فهم على ديْدنين، إذ يميل اليساريّون منهم إلى التّقليد الذي أرساه ماركس بمناقشة هيغل (الذي كان مثل كانط وغيرهما من المعجبين بالثّورة الفرنسية)، أمّا البقيّة فينتهجون نهجًا مغايرًا يقوم على تصنيفات لا تزال تدرّس في علم الاجتماع، مثل: السّلوك الجماعي والحركات الاجتماعيّة، ديناميكيات الحشود، نظريّة العدوى، نظريّة الالتقاء، القيادات والتّعبئة، نظريّات التّغيير الاجتماعي، نظريّة النّزاع...إلخ.

لقد ابتعد عزمي بشارة عن كلا الفريقين، ورأى أنّ مساهمة أرسطو في الفكر السياسيّ لا يمكن إغفالها، حيث تأسّس عليها تفكير العرب المسلمين الأوائل وكذلك روّاد عصر النّهضة في أوروبا، ومن جاء بعدهم. كيف لا ونحن جميعًا لا نزال نقرّ اليوم بتقسيم أرسطو للثّورات؟ وهو كما يذكّرنا بشارة تقسيم إلى نوعين: "نوع يؤدّي إلى تغيير الدستور القائم، فينتقل من نظام حكم إلى نظامٍ آخر؛ ونوع يغيّر الحكّام في إطار بنية النّظام القائم" (ص 7). وعلى الرّغم من اختلاف الأزمنة والأنظمة السّياسية، فإنّ الحقائق الاجتماعيّة ذات العلاقة بالهويّة وأفكار المساواة والعدالة هي ذاتها لم تتغيّر. فالدافع إلى الثّورة -كما يشير بشارة (ص 8)- هو بالنسبة إلى الجماهير المطالبة بالمساواة النابعة من شعور مسبق يفترض أن يعامل النّاس جميعا بالتساوي، أما النبلاء والأرستوقراطيون فإنهم يثورون ضد المساواة لأنهم يشعرون أنّهم "متميّزون".
والواقع أننا نجد فكرة التميّز أيضا في الثورات الديمقراطية، لكنها لا تعادل فكرة التميز لدى طبقة النّبلاء والأرستوقراطيين، وإنّما تتبلور في هوية وطنية هي نتاج "وعي الأمّة بسيادتها (...) عبر حقوق المواطنين" (ص 9).

فالثّورة الفرنسية، وكذلك ثورات 1820-1848 في أوروبا، ساهمت في "تنمية الشّعور الوطنيّ وبلورة القوميّة" (ص 9). ويرى بشارة أنّ هذا ما سيكون عليه أيضًا تأثير الثّورات العربيّة الحاليّة، فهي "تساهم في بلورة الهويّة الوطنيّة الّتي لم تحظ بشرعيّةٍ كافية حتّى الآن" (ص 10) بسبب منافسة الشّعور القوميّ- العربي لها. لكن ذلك لن يتمّ إلا إذا نجحت هذه الثّورات في "بناء المؤسّسات الديمقراطيّة" (ص 10). هل سيعني هذا تأسيس الكيانات القُطريّة وترسيخ دويلاتها على أساسٍ جديد؟ لا يحاول الكاتب الإجابة عن هذا السّؤال، لأنّه لا يطرحه. وهو لا يطرحه لأنّه يتجاوز الإطار الموجز والمكثّف الذي وضع في نطاقه، ولعلّ عزمي بشارة يعود إلى ذلك في مكانٍ آخر، خصوصًا وأنّه يوحي بأنّه يفكّر في هذه المسألة، حيث يقول: "إذا قامت الدّيمقراطيات فعلًا، فلن يحصل ذلك على حساب القوميّة العربيّة، بل سيتغيّر مفهومها إلى هويّة ثقافيّة وشراكة وجدانيّة، ومصالح سياسيّة واقتصاديّة تكمّل الهويّة الوطنيّة" (ص 10).


مناقشة رأي بشارة

يبدو لنا أنّ الكلام السّابق المتعلّق بالانتشار المتوقّع للديمقراطية وترسيخ الهويّة الوطنيّة يحتاج إلى مناقشة، فهو لا يقدّم إجابة عن السؤال المطروح آنفًا، إذ أنّ الكاتب يسوق تأكيدات لا يثبتها. ولا يمكن للكاتب أن يتجاهل أنّ العكس قد يحصل أيضًا. فليس من الضّروري أن يكون نجاح الديمقراطيّة في بلدٍ ما مؤدّيًا إلى نجاحها في بلدانٍ أخرى. وليس من الضروري أيضًا أن يكون نجاحها مؤدّيًا إلى ترسيخ الفهم القوميّ للمصالح السّياسية والاقتصاديّة المكمّلة للهويّة الوطنيّة. فالديمقراطيّة راسخة في بريطانيا، والنّرويج مثلًا؛ ولكن بريطانيا لم تقبل استبدال عملتها والخضوع للاتّحاد الأوروبي في كلّ ما يقرّره، والنرويج لم تقبل الدّخول إلى الاتّحاد أصلًا. وقد رفضت بلدان عضوة في الاتّحاد المصادقة على مشروع الدّستور الأوروبي، ولا يزال هناك في فرنسا مثلا -وغيرها من البلدان الأوروبيّة- قوى وأحزاب سياسيّة تنادي بالتّخلّي عن ماستريخت والعملة المشتركة والعودة إلى الوضع السّابق، وتطلق على هؤلاء تسمية "السياديّون". وجملة القول إنّ الديمقراطيّة -بسبب تعدّدية الرّأي وتعدّدية المصالح وتنوّعها داخل البلد الواحد وبين البلدان المتجاورة- يمكن أن تعرقل البناء الوحدوي، كما يمكن أن ترسّخه أيضًا وتجعله أقوى. والولايات المتّحدة الأميركيّة ولدت من خلال حرب طاحنة بين الشّمال والجنوب، عندما تناقضت المصالح بين أولئك الّذين يريدون الحفاظ على نظام الرقّ مصدر اليد العاملة المجانية وأولئك الذين سعَوا إلى تحرير العبيد وبناء الاتّحاد على أساس فكرة الحرّية والمساواة للجميع كما يؤكّد الدّستور. والاتّحاد السوفياتي أيضًا، بُني بالقوّة وانهار عندما صاحبت البيريسترويكا وغلاسنوست أفكار الدّيمقراطية على الطريقة الغربيّة. والصّين وحّدت بالقوّة ولا تزال موحّدة. ومن ثمّ، فإنّ موضوع مدى مساهمة الدّيمقراطية في بناء المشروع القومي العربي لا يزال في حاجةٍ إلى بحثٍ ومعالجة علميّة. ولكن من الإنصاف القول إنّه ليس موضوع الكتاب الذي بين يدينا، وعليه، ليس مطالبًا بمعالجته.


العودة إلى الفكر الإسلامي الكلاسيكي

عندما يتساءل الدكتور بشارة  "هل هنالك تحديد علمي لمفهوم الثّورة؟" (ص 12)، يجيب بالنّفي، لأنّ الكلمة راجت إلى درجة أصبحت تُطلق على ظواهرَ مختلفة. ويربط هذا الرّواج وصعوبة التّحديد العلميّ بالتّراث العربيّ والإسلاميّ القديم والحديث، كما يربطه بثوريِّي القرن التاسع عشر الأوروبيّين وبنهج اليسار الألمانيّ. فيذكّرنا بأنّ كلمة "ثورة" أُطلقت في التاريخ على حركات مختلفة من "الزّنج" و"القرامطة"، إلى عمر المختار، والفلسطينيّين، والجزائريّين، وجمال عبد النّاصر، وعبد الكريم قاسم، وسبارتاكوس، وتوماس مونتسر،...إلخ. وبرأيه، فإنّ "أقرب كلمةٍ إلى مفهوم الثّورة المعاصرة هي "الخروج"، بمعنى الخروج لطلب الحقّ" (ص 14) عند الكتّاب العرب القدامى. وهنا يتبيّن ذلك الجزء "الخفيّ" (غير المصرّح به) في أجندة الكاتب من حيث سعيه إلى ربط الواقع الحالي (الرّبيع العربيّ) بالتّراث الثّقافي والسّياسيّ لهذه الأمّة، بحيث يؤسّس لنظريّة ثورة عربية من خارج الإطار الأيديولوجي الذي تحرّك فيه المفكّرون العرب المعاصرون بمن فيهم القوميّون بشقّيهم النّاصريّ والبعثيّ. ومن الواضح أنّ الهمّ الأساس للدكتور بشارة علميّ وليس أيديولوجيًّا، معرفي وليس سياسيًّا فئويًّا، في استعراضه آراء الشّخصيات الإسلاميّة الكلاسيكيّة المؤثّرة، من أبي ذرٍّ الغفاري إلى الماوردي وابن خلدون؛ ومن ابن تيمية إلى ابن حنبل والشّافعي وابن مجاهد البصري وابن حزم الظّاهري.

ويربط ذلك كلّه بثنائيّة "الخروج" و "التغلّب"، مُقرًّا في الوقت نفسه بأنّ هذه الثّنائية لا تعدّ نظريّة في الثّورة (ص 14)، حتّى وإن تلازم المفهومان عند الكتّاب المسلمين الكلاسيكيّين. وألمح بشارة إلى كيفيّة تطوّر هذين المفهومين لديهم، حيث كان "الخروج" دائمًا يعني الثّورة، فيما "التّغلب" يبرّر عمليًّا المبايعة التي تضفي شرعيّةً على "دولة الخروج". وألمح كذلك إلى الاختلاف بين أولئك الكتّاب بشأن موضوع الخروج والتغلّب، بين من يبرّر الخضوع بصيغة "سلطان غشوم خير من فتنةٍ تدوم" (ص 18) ومن يعجب "لمن لا يجد القوت في بيته، كيف لا يخرج على النّاس شاهرًا سيفه" (ص 15). وهذا ما يلخّص في الحقيقة التّاريخ الإسلامي برمّته.

في هذا السّياق، يدعونا بشارة للتمييز "بين الموقف السلفيّ الظاهريّ والموقف التأويليّ" (ص 19)، ملاحظًا أنّ سلفيّي عصرنا لم يأخذوا "إلّا جانبًا من خطاب المؤسّسين أمثال ابن حنبل وابن تيميّة، وهو منع الخروج على السّلطان" (ص 19). غير أنّه يجدر أن نلاحظ مع ذلك كيف أنّهم استفادوا تمامًا من "الخروج على السّلطان" في تونس ومصر، و"وثبوا" - تقريبًا- على السّلطة. ومن ثمّ، فإذا كانوا فعلًا يحافظون على جانبٍ واحد من خطاب المؤسّسين يتعلّق بمنع الخروج، فلا شكّ في أنّ هذا الموقف مرتبط بوجودهم في السّلطة، ولا يمكن إطلاقًا أن يصدر عن جماعة خارجها. فالسلفيّون في السعودية وغيرها، يبرّرون طبعًا الخضوع للسّلطان بـ"وجوب طاعة أُولي الأمر". وليس هذا هو بالضرورة موقف السلفيّين في بلدانٍ أخرى، حيث أنّ وجودهم في المعارضة سيكون لا معنى له إذا تجنّبوا خطاب الثّورة.

ويربط الدكتور بشارة موقف ابن تيميّة الرافض عمومًا للثورة على الحكّام المستبدّين بـ"واقعيّته" واعتقاده أنّ "أهل السنّة لا يرون الخروج على الأئمّة وقتالهم بالسّيف، وإن كان فيهم ظلم" (ص 21)، حيث لم يكن يرى "أنّ الإمام هو مصدر الشّرعية، وإنّما العمل بالشّريعة" (ص 22)، ومن ثمّ فالأحاديث الصّحيحة تنصّ على "قتال الخارجين على الشّريعة لا على الإمام". هكذا بُرّر خروج معاوية على علي بن أبي طالب بكونه يتضمّن خلافًا في التّأويل. وأوضح بشارة كيف تطوّر هذا الموقف مع الوهابيّين ليصبح معاديًا للثّورات.  ويخلص من ذلك إلى أنّ "الفكر الإسلاميّ الفقهيّ يبرّر القبول بالسّلطان الجائر، ويرفض الخروج الذي يشبه الثّورة المسلّحة ضدّ النّظام في عصرنا" (ص 25).


الثّورة في العصر الحديث

بعد محاولة الكاتب تحديد فهم العرب المعاصرين للثّورة، مستغربًا تشكيك بعض المثقّفين في الثّورات العربيّة الرّاهنة، ينبري إلى التمييز بين ما يستعمل أحيانا كمترادفات، مثل: الثّورة، والانتفاضة، والانقلاب، والإصلاح. وهنا أيضًا، وفي سياق المقابلة بين الإصلاح والثّورة، نجد الكاتب يستعرض بإيجازٍ وكثافة تاريخ الأفكار وصولًا إلى النّقاش الذي شغل الاشتراكيّين من أمثال روزا لوكسمبورغ وإدوارد برنشتاين وكارل كاوتسكي وغيرهم، والّذي غذّى "انشقاق الحركات العمّالية إلى أحزابٍ شيوعيّة وأخرى اشتراكيّة ديمقراطيّة". وفي رأي بشارة فإنّ المقابلة بين المفهومين لا مبرّرَ لها "إلا تلك الخصومة في داخل الماركسيّة" (ص 33)، فالثّورة والإصلاح عنده متلازمان، ودون ذلك قد تؤدّي الثّورة إلى العدميّة والفوضى والاستبداد الجديد.

ونتبيّن إلى أيّ مدى يقدّم بشارة تحليلا أصيلًا لمفهوم الثّورة، لا فقط من خلال سعيه إلى إضاءة النّصوص الإسلاميّة الكلاسيكيّة ذات الصّلة، وإنّما كذلك لربطه بالإصلاح، في حين يبقى غيره ممّن عالجوا هذه القضيّة في مستوى المقابلة بين مبدأَي "الثّورة" و"الإصلاح" بوصفهما متناقضيْن. ولكنّ كاتبنا يؤكّد عن طريق المحاجّة العقلية أنّ "في أيّ إصلاح جدّي ثمّة عناصر ثوريّة، وفي أيّ ثورة لا تكتفي بالهدم والفوضى، وتنهمك في البناء، لا نلبث أن نجد عناصر إصلاحيّة" (ص 35). ولكنّه يقابل بين الفهم الحديث للثورات من حيث كونها "تقوم على الجدّة والتّجديد" وفهم الفلاسفة اليونانيّين القدامى لها، من حيث اعتبارها "دورة متكرّرة من تغيير الأنظمة" (ص 36). وما يميّز الثّورات الحديثة أيضًا عنده أنّها "شأن علمانيّ حتّى إذا كانت دينيّة" من حيث أنّها ترفض "التّسليم بوجود مبرّرات ثابتة للنظام القائم" (ص 37) حتّى وإن كانت مؤسّسة - كما يحدث أحيانًا- على تأويل تعاليم دينيّة.

ويتوقّف بشارة ليقارن بين الثّورات التي أسّست للحداثة، تلك التي تحمل بعدًا اجتماعيًّا كما هو شأن ثورة 14 تموز / يوليو 1789 الفرنسية، والثّورة الأميركيّة، والثّورة البلشفيّة، وتلك الّتي تعبّر عن تغيّر النموذج أو المنظومة السّائدة في الميدان العلمي (الثورات العلميّة) والاقتصادي (الثّورة الصناعيّة مثلًا). ويشمل تحليله مقارنة مهمّة، حيث يستند فيها إلى علماء اتّسموا بالجدّية في هذا المجال وأصبحوا اليوم مراجع كلاسيكيّة، ونقصد توماس كون وإيريك هوبزباوم وحنة أرندت وكارل بوبر.


مشاكل مطروحة على الثّورات العربيّة

يوظّف عزمي بشارة ثقافته الفلسفيّة الواسعة ومعرفته بتاريخ الأفكار من أجل إضاءة مشاكل جوهريّة تعترض الثّورات العربيّة اليوم. فيوضّح لنا كيف أنّ الثّورة والديمقراطية لا تتلازمان ضرورةً، وهو الأمر الذي يمكن أن يغيب عن الأذهان فيما يحتدّ الصّراع على السلطة بعد الثّورة، فيقول: "إنّ الثّورة في سبيل الحرّية لا تضمن بناء الديمقراطيّة دائمًا" (ص 49)، مشيرًا في المقابل إلى بلدان ككندا وأستراليا، لم تحتجْ إلى ثورة لتحقيق الديمقراطية. وبالفعل، كيف ننسى أنّ الثّورة في روسيا وفي الصّين أدّت إلى إرساء نظام حكم بيروقراطي باسم "دكتاتوريّة البروليتاريا"، يمكن أن نصفه بأيّ صفة ماعدا نظام ديمقراطي؟ وفي إيران، بعد إسقاط الشّاه في ثورة شعبيّة كبرى شاركت فيها جميع الأحزاب والقوى الحيّة بيمينها ويسارها ووسطها، أضحى البلد أسير طبقة المُعمّمين من رجال الدّين الّذين أقصَوا كلّ من يخالفهم الرّأي وكمّموا المعارضة ونصّبوا أنفسهم حكّامًا باسم الحفاظ على الدّين.

ومع ذلك، ارتبطت الثّورة في العصر الحديث بالأفكار الجديدة والتّجديد؛ كما ارتبطت بـ"ظهور الجمهور أو الحشد" (ص 53)، وأصبح هدفها "سعادة الشّعب" (ص 54)، وتمثّل بعدها الاجتماعيّ في التّحرّر من الفقر، وظهور مفهوم المواطنة وحقوقها وواجباتها، وما يلزم من الحرّيات العامّة والخاصّة، وكلّ هذا جرى التّعبير عنه داخل حدود ما يسمّى بالدولة- الأمّة أو الدّولة الوطنيّة.


نحو نظريّة نموذجيّة للثّورة العربيّة

يوضّح الدكتور بشارة في فصلٍ خاصّ ما يعنيه بـ"الحالة الثّورية"، فيربطها بجملةٍ من العناصر الّتي ذكر لينين بعضها، مقدّمًا في الوقت نفسه نقدًا لمقاربة الثّوريّ الروسيّ. ومن تلك العناصر: رفض النّاس العيش بالطّريقة القديمة، وبلوغ المعاناة حدودًا لا يمكن احتمالها، إضافةً إلى ما أثبتته التّجارب العربيّة من بروز وعيٍ بكلّ ما ينتج عن الظّلم. وفي الحالة العربيّة تحديدًا -وعلى أنّ النموذج لم يكتمل بعد-،  يبدو للكاتب أنّ وقوع انشقاقٍ في الطّبقة الحاكمة وفي الجيش ضروريّ لاستيلاء الثّوار على السّلطة (ص 66). استنتج الكاتب أيضًا من تحليل "النّموذج العربيّ" غير المكتمل بعد أن لا ضرورة لوجود قيادة من طرف "حزب" أو "مجموعة ما"، عكس الطّرح الذي كان سائدًا في السّابق، فالثّورات العربيّة تنفي مثل هذه المعايير  (ص 67).

ويبدو لنا بذلك أنّ بشارة يسعى إلى استكشاف "النّموذج الثّوري العربيّ" -إذا جاز القول-، فها هو يعقد المقارنةَ تلو المقارنة، فيذهب إلى أنّ "المرحلة ما بين 1830 و 1848 [ في أوروبا] هي أكثر الحقب شبهًا بالحقبة العربيّة الحاليّة" (ص 69)، حيث يتلازم فيها انتشار الثّورة بسعي الحكومات إلى إحباطها. وهو يلجأ هنا -كما في مجمل نصّه- تارةً إلى التّحليل التّاريخي، وتارةً أخرى إلى التّحليل الاجتماعيّ أو الفلسفيّ،  مقدّمًا بذلك الدّليل على الاتّصال الوطيد بين العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة. ويخلص من ذلك إلى بعض النّتائج الجديرة بإعمال الفكر، منها مثلا أنّ العالم العربيّ "كان جسمًا موصلا للثّورات" (ص 75)، رابطًا ما بين الثّورات في الزّمان والمكان، منتقلًا من انقلاب الضبّاط الأحرار في مصر سنة 1952 -الذي سمّي "ثورة بحقّ" (ص 76)- إلى ثورة 14 تمّوز / يوليو 1958 في العراق ضدّ الحكم الملكيّ، وصولًا إلى ثورات عام 2011 في العالم العربيّ. كلّ ذلك مع الرجوع إلى الثّورات الوطنيّة في الولايات المتّحدة وإيرلندا وبلجيكا وهولندا وفرنسا في القرن الثّامن عشر، وثورات شرق أوروبا والبلقان وروسيا في القرن العشرين. وهدفه أن يكشف حقيقة "الحالة الثوريّة" الّتي تملّكت العالم العربي وجعلت "ثورةً في دولة عربيّة صغيرة مثل تونس [تسري] مثل تيّارٍ كهربائي في جسد عربي ضعيف ولكنّه موصل للهموم والآمال والأجندات والأفكار" (ص 79).

ومن بين النّتائج الأخرى الّتي يخلص إليها كذلك، أنّه نظرًا لعدم قيادة الأحزاب للثورات العربيّة، فمن الضّروري "وجود خطّةٍ وبرنامج تتّفق عليهما أوسع قوى سياسيّة ممكنة لضبط عمليّة التّحوّل الدّيمقراطي وتوجيهها" (ص 90). والدكتور بشارة يمسّ هنا صميم الإشكال الكبير المطروح في مرحلة ما بعد الثّورة، وهو مثل العديد من المثقّفين والمتابعين منتبهٌ إلى احتمالات الثّورة المضادّة وسيطرة القضايا الأيديولوجية على الفعل السياسيّ، ممّا يعيدنا إلى مربّع الانطلاق.

وعلى الإجمال، يُقرأ هذا البحث الموجز والمكثّف في جلسةٍ واحدة -إذا أمكن-، ولكن مع قلم رصاص أو "ماركر" للباحثين المهتمّين بموضوع الثّورة في العالم العربي، إذ أنّ كتاب الدكتور بشارة يسعى من خلال المحاجّة المنطقيّة والاستدلال التّاريخي والفلسفيّ والتّحليل المقارن إلى وضع أسسٍ مبدئيّة لما يمكن أن يكون في المستقبل مشروعًا متكاملًا لنظريّةٍ علميّة (غير أيديولوجية) عن الثّورة العربيّة تبتعد عن النّماذج النّمطية- الأيديولوجيّة تحديدًا الّتي كانت سائدة قبل الرّبيع العربي في مجالنا الثّقافي، بمختلف تيّاراتها، اليساريّ منها، والقوميّ، والإسلاميّ.