العنوان هنا
مقالات 28 نوفمبر ، 2012

احتمالات جديدة في النّزاع

الكلمات المفتاحية

هشام القروي

​حاصل على شهادة الدكتوراه في علم الاجتماع من جامعة السوربون. تخصّص الدكتور القروي في علم اجتماع النخب والعلاقات الدولية. وشملت أبحاثه دراسة شبكات السياسيين ورجال الأعمال والعسكريين على المستويين المحلي والدولي. تتركز اهتماماته البحثية خصوصًا على: علاقات الولايات المتحدة بمجتمعات المنطقة العربية- الإسلامية (الشرق الأوسط/شمال أفريقيا)؛ وإعادة إنتاج النخب وارتباطاتها؛ ودراسة الشبكات المحلية والدولية للساسة ورجال الأعمال والعسكريين؛ والأيديولوجيات والإطارات المرجعية والمفاهيم والقيم المقارنة؛ وتفاعل الأقليات العربية والإسلامية في الغرب مع محيطها وأصولها.
 وقد كان مؤسس مجلة "دراسات الشرق الأوسط" الفكرية المحكمة (الناطقة بثلاث لغات)، ورئيس تحريرها. وهو يتابع السياسة العربية والدولية بالتحليل والتعليق منذ ربع قرن تقريبًا في الصحف والمجلات. نشر مئات المقالات والعديد من الأبحاث بالعربية والفرنسية والإنجليزية في الدوريات المتخصصة في أوروبا والولايات المتحدة والعالم العربي. صدرت له منذ الثمانينيات عدّة مؤلفات عن العلاقات الدولية، والأوضاع السياسية والاجتماعية في الشرق الأوسط. من مؤلّفاته المنشورة: التّوازن الدولي من الحرب الباردة إلى الانفراج (تونس 1985)؛ النسر والحدود: مقدمات في نقد الواقع السياسي العربي (تونس1989 )؛ ما بعد صدام في العراق (باريس 2005)؛ المملكة السعودية إلى أين؟ (باريس 2006)؛ المسلمون: أكابوس أم قوّة في أوروبا؟ (باريس 2011).

كثُر الجدل بشأن إذا ما كانت إيران قدّمت أسلحة إلى حركة "حماس" أم لا، حتّى تحوّلت إلى نشازٍ أصواتُ أولئك الذين أنكروا في إيران تزويد "حماس" بالصّواريخ، وكذلك أصوات القادة الفلسطينيّين الذين اعترفوا علنًا بتلقّي ​​المساعدة (الأموال والأسلحة)، وعبّروا عن امتنانهم لإيران. في الحقيقة، بدا النّشاز أكثر حدّةً بين الإيرانيّين أنفسهم؛ فمن جهةٍ، رأينا رئيس البرلمان الإيرانيّ علي لاريجاني، يصرّح للصحفيّين قائلًا: "نحن نقول بكلّ فخر إنّنا ندعم الفلسطينيّين عسكريًّا وماليًّا"، مضيفًا أنّ "النظام الصهيونيّ في حاجةٍ إلى أن يدرك أنّ القوّة العسكريّة الفلسطينيّة مصدرها القوّة العسكريّة الإيرانيّة". ومن جهةٍ أخرى، وفي الأسبوع نفسه، قال علاء الدين بروجردي، رئيس اللجنة البرلمانيّة الإيرانيّة للأمن القومي والسياسة الخارجيّة، "إنّ المزاعم الإسرائيليّة بأنّ إيران تزوّد الفلسطينيّين بالصّواريخ، مزاعم لا أساسَ لها".

تحدّث بعض المراقبين منذ فترة عن حدوث تقاربٍ أيديولوجيّ بين "حماس" وإيران. ولكنّ التعجيل بمثل هذا الاستنتاج، تعوزه الدقّة. فلربّما أمكن التحدّث عن تقاربٍ سياسيٍّ، أو تكتيكيّ، بين طرفين يعاني كلاهما من ضائقةٍ وحصار، قامت فيهما إسرائيل - في الغالب - بدورٍ أساسيّ. أمّا التّقارب الأيديولوجيّ - إذا وُجد - فيبدو أقلّ احتمالًا. فـ"حماس" هي في النّهاية حركة سنّية، وهي أقرب أيديولوجيًّا إلى جماعة الإخوان المسلمين في مصر، منها للداعمين الشّيعة في طهران الذين لديهم زبون تقليديّ هو "حزب الله" في لبنان.

خلال الأيّام الماضية، أظهرت الصّواريخ الإيرانيّة الصّنع - ولأوّل مرّة - أنّ بوسعها أن تطال المدن الإسرائيليّة الكبرى، وهذا جانبٌ من الأوضاع قلّما تطرّق إليه المحلّلون والمعلّقون قبل حرب غزّة الأخيرة. فمنذ بداية المعركة، رأينا كيف مكّنت الصّواريخُ الإيرانيّة التّصميم، "فجر 3 " و"فجر5"، كلًّا من "حماس" و"الجهاد الإسلاميّ" من الوصول إلى قلب إسرائيل، ما أحدث حالةً من الخوف بين الإسرائيليّين، ولفت الانتباه إلى بعض الاحتمالات الجديدة الخطرة المتعلّقة بالصّراع الأوسع.

والملاحظة الأولى في هذا السّياق، هي أنّ الانقسام الشيعيّ / السنّي ليس بالضرورة عقبةً تحُول دون وجود أيّ تعاونٍ بين طرفين لهما عدوٌّ واحدٌ مشترك. إنّ اعتراف "حماس" العلنيّ بالامتنان للمساعدة الإيرانيّة، هو في حدّ ذاته، دليلٌ على الانقسام الأيديولوجيّ لا ينفي أنّ للطّرفين مصلحةٌ في التّعاون. وفي أيّ مواجهةٍ مع إسرائيل، تحتاج "حماس" إلى الأموال والأسلحة، بغضّ النّظر عن مصدرها.

أمّا بالنّسبة إلى إيران، فإنّ تلبية بعض احتياجات "حماس" من المال والسّلاح، تساعد على تحقيق هدفين على الأقلّ؛ أحدهما سياسيّ، والثاني إستراتيجيّ:

1 - على الصّعيد السياسيّ، فإنّ إيران المعزولة تمامًا في محيطها الإقليميّ وعلى الساحة الدوليّة، تحتاج إلى كسر هذه الدّائرة، وكسب حلفاء. وفي وضعٍ من المواجهة والحرب لن يكون لدى القادة الإيرانيّين خيارات كثيرة. إذ إنّ "أصدقاءهم" يُحسبون على أصابع اليد الواحدة، ومنهم من يعتمد بشكلٍ كبير على المساعدة الإيرانيّة. بل إنّ الحديث عن "أصدقاء" في مثل هذه الحالة، ربّما يلحق بسياق الهزل. فإيران لديها "زبائن" بالتأكيد، وهم جميعًا يعتمدون على مساعداتها. ومن دون الأموال والأسلحة التي تقدّمها طهران، ماذا يحدث لـ"حزب الله"، وماذا يحدث لما تبقّى من الحكومة السوريّة؟ حتّى في بغداد، ليس لإيران أصدقاء، بل هناك أناسٌ يحتاجون إلى دعمها بسبب خوفهم من احتمال "الغرق" مرّةً أخرى داخل بحرٍ من السكّان السنّة. وفي العراق، جعل حلفاء إيران من الانقسام الطائفيّ "عقيدةً جديدة"، تقريبًا. إنّهم مدينون بأيّ قوّةٍ أحرزوها إلى حدّ الآن، لتلك العقيدة التي من المرجّح أنّها شكّلت أذهانهم منذ زمنٍ طويل نسبيًّا، عندما كانوا منفيّين في إيران، قبل سقوط "صدّام". أمّا في فلسطين، فلا يمكن لطهران أن تحلم باعتناق الكثير من النّاس التشيّع الذي يتقيّد به نظامها. ومع ذلك، فالمراهنة على "حماس" المحاصرة، هي نوع من "شراء" زبونٍ محتملٍ قد تكون فائدته كبيرة جدًّا في حالة اندلاع مواجهةٍ شاملة بين إسرائيل وإيران. وهكذا، فعلى الصعيد السياسيّ، فازت إيران بحليفٍ مهمّ جدًّا بموقعه الجغرافيّ المتاخم لإسرائيل. ما يمكّن من استعادة السيناريو اللبنانيّ، فقد كان دور "حزب الله" أساسيًّا في طرد الإسرائيليّين من جنوب لبنان وإبقائهم على مسافةٍ بعيدة، وذلك بفضل الصّواريخ الإيرانيّة، وهو ما يحتمل أن تتوقّعه طهران من "حماس".

2 - أمّا على الصّعيد الإستراتيجيّ، فالهدف مرتبطٌ بسيناريو الحرب الذي لا بدّ لطهران من أخذه في الاعتبار، خاصّةً بعد تهديدات رئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو. فمن ناحيةٍ أولى، يبدو من غير المرجّح أن تبادر طهران بالهجوم على تل أبيب، بل العكس هو بالأحرى ما يجب أن نتوقّع، باعتبار حدوث سوابق في سياقٍ مماثل (الهجوم على المنشآت النوويّة العراقية والسوريّة). وبالمثل، لا يمكن أن نعدّ تزويد "حماس" بالصّواريخ التي أُطلقت على إسرائيل هجومًا مباشرًا أو غير مباشر، ضدّها. في الحقيقة، لم تبادر "حماس" بالعدوان، بل إسرائيل هي التي بدأت الحرب بقتل القائد العسكريّ أحمد الجعبري، ومن ثمّ جاء ردّ فعل الفلسطينيّين. ومع ذلك، فاحتمال أن تحصل "حماس" على المزيد من الأسلحة الإيرانيّة والصّواريخ التي يمكن أن تضرب تل أبيب، هو الآن معطًى جديد، ولا شكّ في أنّ الإسرائيليّين والأميركيّين يدرسونه بعناية. ماذا يعني هذا؟ يعني أنّ إسرائيل ستقع بين نيران قوّتين قريبتين جدًّا من قراها ومدنها، هما: "حزب الله" في لبنان، و"حماس" (و"الجهاد الإسلاميّ" في غزّة)، في حالة اندلاع حربٍ بينها وبين إيران. فإذا نجح الإيرانيّون في تسليح هذين الحليفين، كما يرغبان وبحسب ما يحتاجان إليه، من حيث القدرة على قصف المدن والقرى الإسرائيليّة، فإنّ إسرائيل ستعاني الأمرّين.

استشهدت مقالة نُشرت في "نيويورك تايمز" (22 تشرين الثاني / نوفمبر) بمايكل أورين، السفير الإسرائيليّ في الولايات المتّحدة الذي شبّه إدخال الصواريخ الإيرانيّة إلى غزّة بأزمة الصواريخ الكوبيّة. إذ قال أورين بعد إعلان وقف إطلاق النار: "في أزمة الصواريخ الكوبيّة، لم تكن الولايات المتّحدة في مواجهة كوبا، ولكن بالأحرى الاتّحاد السوفييتي. وبالمثل، في عمليّة "عمود الدّفاع" (الاسم الذي أطلقه الإسرائيليّون على حربهم ضدّ غزّة)، "فإنّ إسرائيل لم تواجه غزّة، ولكن إيران."

ومع ذلك، ليست مشكلة "حماس" الحقيقيّة هي كيف تحصل على الأسلحة، وإنّما كيف تخفيها بعيدًا عن أعين الإسرائيليّين، لتستخدمها في اللّحظة المواتية. ويبدو أنّ "حماس" جمعت في وقتٍ سابقٍ ترسانةً من الصواريخ تقدّر بنحو 12000 صاروخ. ولكن قد يكون غالبها دُمِّر، في الهجمة الجويّة الأخيرة بحسب التقارير الإسرائيليّة.

صحيح، هناك الآن وقفٌ لإطلاق النار، ولكن كم من الوقت سيصمد؟ هذا هو السّؤال الذي يحاول عددٌ من الناس الإجابة عنه، في حين تستمرّ جميع الأطراف، كما هو مرجّح، في الاستعداد لمواجهةٍ مقبلة.