العنوان هنا
مقالات 28 فبراير ، 2011

حول الأمل بشباب لبنان ورحيل النظام الطائفي

وجيه كوثراني

مؤرخ لبناني، عمل كوثراني أستاذًا باحثًا في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ومديرا للإصدارات فيه. وتشمل أبحاثه دراسات التّاريخ الاجتماعيّ وعلم اجتماع السياسة ومنهجية البحث التاريخيّ. عمل الدكتور وجيه سابقًا مديرًا للدراسات في مركز دراسات الوحدة العربية ومدير تحرير مجلّة "منبر الحوار" في بيروت. وشغل الدكتور كوثراني وظيفة أستاذ في الجامعة اللبنانية قبل عام 2005.

لنتصوّر أن شباب لبنان نادى ذات يوم "الشعب يريد إسقاط النظام"، وكان ذلك عبر انتفاضة شبابية شعبية، طالبت بإلغاء الطائفية السياسية وبمدنية الدولة أو علمنتها وبتحقيق الحرية والكرامة والمساواة وبالعدالة من كل وجوهها: عدالة إجتماعية إلى جانب عدالة قانونية لا تفصل جرائم الإغتيال السياسي عن جرائم التعامل مع العدو الصهيوني، عن جرائم إفقار الشعب وعن جرائم إستحماره واستلابه بالإيديولوجيات السائدة التي أسست لأنظمة الإستبداد من كل نوع.

ولنتصوّر، استكمالاً لمنطق هذا المشهد وتداعيات خطوطه، أن التنادي للتظاهر والإحتشاد والإحتجاج، قام بصمت وهدوء، وعبر شبكة، أو شبكات من التواصل الإلكتروني الذي من شأنه أن يخلق نوعاً رائعاً من التواصل والحوار والمحاكاة، الأمر المؤدي أيضاً إلى التفاهم على شعارات وأساليب عمل وإتباع طرائق وسلوك، سبق لثورة الشباب المصري أن قدّم أمثولة رائعة عليها، فكان من أرقى تعبيراتها في خضم حركة الإحتجاج في الشارع: "مدنية..مدنية سلمية سلمية..." فلا قطع لطرقات، ولا حرق لدواليب، ولا اعتداءات على أملاك عامة أو خاصة ولا شعارات نابية ومستفزة وعنصرية، ولا ترهيب للآخر بسلاحٍ أو قمصان سود أو بسلفيات انتحارية وأكفان بيضاء... بل تركيز على هدف واحد وموحّد، وبألفاظ مهذّبة وحضارية ولكن حازمة ومصرّة: تفكيك ذاك النظام بالطّرْق المكثّف على حلقته المركزية، حيث يؤدي نزعها إلى تلاحق انفكاك الحلقات الأخرى، أي إلى اسقاط النظام ورحيل رمزه الأول، فانهيار أركانه واحداً بعد الآخر...

لنتصوّر أن حدثاً كهذا حصل في لبنان في مستقبل قريب أو بعيد، ولنتأمل للأسف في إحتمال وإمكان تحقيقه... ينتصب أمام هذا التصوّر أو الحلم، إستدراك وربما اعتراض يقول: "إن صعوبات، بل عوائق، وربما استحالات، تقف في وجه استحقاق هذا التصوّر". "إنه حلم جميل ولكنه مستحيل التحقق".

ومع ذلك، لنسأل أنفسنا أين تقع هذه العوائق؟ وأين تكمن الإستحالة في ما هو ظاهر وفي ما هو باطن في الحياة السياسية اللبنانية؟

كثر سيجيبون: إن الطائفية السياسية هي مكمن الداء، وهي المعيق، وهي عامل الإستحالة في أن نتصوّر المشهد الذي نحلم به محققاً.

بل أكثر من ذلك، إن بعض المحترفين السياسيين لا يترددون عن رفع مطلب "الغاء الطائفية السياسية" وهم مدينون بنفوذهم وزعامتهم أو نيابتهم أو وزارتهم لآليات اشتغال الطائفية السياسية في الإجتماع السياسي اللبناني، الأمر الذي يكشف عبثية اللعبة.

 وبالمقابل، يرفع آخرون وبصدق وبالتماثل أو التماهي مع الشعار العربي الذي ساد ويسود المرحلة العربية الجديدة، "الشعب يريد إسقاط النظام"، وفي الحالة اللبنانية، النظام نظام طائفي.

ولكن، ولكي لا يبقى الشعار شعاراً غائماً، لندقق في السؤال: ما هو النظام الطائفي وبم يتمثّل؟

  • هل يتمثَّل في قانون الإنتخاب؟
  • هل يتمثَّل في المادة 95، والتي لا يزال مفعولها يتفاقم رغم النص على تعديلها في وثيقة الطائف؟
  • هل يكمن في شرائع الأحوال الشخصية التي تحول دون الخيارات الشخصية والفردية للمواطن اللبناني، وتحوّل الطوائف اللبنانية إلى نوعٍ من "الكاست" (Caste) المغلقة.
  • هل هو أخيراً ميثاق أو عقد بين طوائف غير متجانسة، عدداً وعتاداً، وثقافة وتوجهات وتطلعات وحسابات، وعلى الفرد في الطائفة أن ينصاع ويطيع بحكم "الضرورات" على الأقل؟

الحقيقة أن النظام الطائفي هو كل هذا من زاوية قانونية ومؤسسية. ولكنه أيضاً وفوق هذا كله، وربما قبل هذا كله، هو ممارسة وسلوك، أي أنه عمل ثقافي وسياسي وأخلاقي.. أي أنَّ حيزاً من من العقل العملي والأخلاق العملية، يؤطر هذا النظام ويسكنه ويؤمن استمراراه في التاريخ، ويعيد انتاجه، بل أكثر من ذلك، يفاقم تجذّره ويقوي خصائص الفرز فيه بين الطوائف، بحيث تصبح الطائفة حقلاً ثقافياً ودينياً وسياسياً للتعبئة والتنظيم والعمل الحزبي وصعود القيادات والزعامات وتهيئة الكوادر.

وفي هذا الحيز من الثقافة السياسية والأخلاقيات العملية الذرائعية، تتحوّل النصوص الدستورية والقانونية وكذلك أحكام الأحوال الشخصية ومؤسساتها، وكذلك الأعراف والميثاق الوطني بين الطوائف، إلى أسلحة صراع يجري من خلالها التأويل والتفسير...

على أن التأويل أو التفسير في التجارب التاريخية اللبنانية ولا سيما الأخيرة منها، ليسا من طبيعة الإجتهاد أو تعدد القراءات، إنه إستنساب إرادوي، يخضع لمنطق القوة الذي هو نتاج استقواء بالتعبئة الطائفية (أي قوة الطائفة) أو بقوة إقليمية أو دولية أو بها جميعاً.

هكذا حصل عندما استقال وزراء أمل وحزب الله من وزارة السنيورة فجرى التعامل مع الإستقالة في خطاب سياسيي أمل وحزب الله أنه خرق للميثاق الوطني. وإذ حُرّم قبول أي شيعي بالوزارة، وفقاً لفتوى أحد مشايخ الشيعة، اعتبرت الحكومة غير ميثاقية وغير دستورية وذلك بحكم "استحالة" التمثيل الشيعي في الحكومة "عملياً".

وهكذا حصل أيضاً، عندما أجمعت قوى الشيعية السياسية (في البرلمان) على اختيار المرشح الوحيد لرئاسة مجلس النواب، وعندما أجمعت قوى السنية السياسية على اختيار الرئيس المكلّف من تيار المستقبل، فكان كل هذا مبرراً أيضاً للجنرال عون - بحكم ادعاء تمثيله الأكثري للمسيحيين وللموارنة بصورة خاصة، للمطالبة بأحقيته أيضاً برئاسة الجمهورية...

ووفقاً لهذا المنطق من الممارسة السياسية التي تكرّست خلال السنوات الست الأخيرة، جرى التعامل مؤخراً مع تكليف الرئيس ميقاتي، إذ اعترضت السنية السياسية الممثلة بالقيادة الحريرية الجديدة على هذا التكليف، بحكم أنه لا يحظى - ضمناً بقبول الأكثرية السنية.. وكان هذا ما عبّر عنه إجتماع المجلس الإسلامي الأعلى في دار الفتوى عندما طولب الرئيس السني المكلّف "بالتبصُر"، وهي صيغة تبطن عدم قبول المجتمعين تكليفه.

والطريف في هذه المناسبة أن يبرر الجنرال عون، تكليف رئيس سني لا يحظى -بالضرورة- بالأكثرية السنية، مستثنياً رئاسة الجمهورية التي يجب في رأيه أن تحظى بالأكثرية المسيحية. أما التبرير فيقوم على الإعتبار التالي: "رئيس الحكومة، يملك كل السلطات وهو الوحيد الذي يجب التوافق الوطني عليه"، أي بين الطوائف. أما منصب رئاسة الجمهورية، فهو أقرب إلى الرمز منه الى السلطة، فهو ضمناً لا يحتاج إلى توافق وطني: "علينا أن نعرف أين مركز السلطة الذي يحتاج إلى توافق، وليس الرموز التي لا سلطة بيدها". فهل يستثني عون هنا رئاسة مجلس النواب أيضاً من "التوافق"؟ (الصحف 26 كانون الثاني 2011).

وعلى كل حال، الأمثلة كثيرة على هذا المنهج التلفيقي من الإستنسابات الإرادوية. على أن جميعها تخضع لمنطق من الثقافة الذرائعية حيث يجري تقاطع وظيفي بين قانون ومؤسسة من جهة، وإرادة تأويلية وذرائعية من جهة أخرى، إرادة تخضع الأخلاق والدين والطائفة والمذهب للسياسة اليومية ومتطلباتها..

والواقع اللبناني يشير إلى انطباق هذا المنهج على معسكري الإنقسام في لبنان: على قوى 14 آذار وعلى قوى 8 آذار معاً. وهذا الإنقسام في مضمونه الفعلي، أي في مضمونه الحاسم والمقرِّر هو انقسام بين شيعية سياسية "تقود" قوى 8 آذار، وبين سنية سياسية تقود 14 آذار. الأولى تقود باسم "مقاومة" أضحت تحتاج إلى إعادة نظر في تركيبها ودورها وعلاقتها بمشروع الدولة المدنية. والثانية تقود باسم "عدالة" أضحت هي الأخرى، وبعد تجارب ومعطيات ملتبسة، تحتاج إلى رقابة وتدقيق وحذر خوف الوقوع في مهب السياسات الدولة وأفخاخها.

والأنكى، أن المسيحية السياسية منقسمة على نفسها بين مسيحية شيعية تتمثل بالزعامة العونية، ومسيحية سنية تتمثَّل بأطراف حزبية تراوح بين كتائب وقوات، على أن كلهم يتنافس من أجل الوصول إلى احتكار التمثيل المسيحي، تيمناً باحتكار حزب الله للشيعية السياسية واحتكار الحريرية الجديدة للسنية السياسية.

داخل هذه الترسيمة الطائفية للقوى السياسية في لبنان، نقرأ نوعاً من التناوب القسري على السلطة، وهو تناوب أشبه "بتناتش" للسلطة، باسم أكثريات زئبقية، تتكوّن من خلال انزياحات طارئة وغير مبدئية (طائفية أيضاً) من هنا ومن هناك. وكما فعل وليد جنبلاط بنوّابه الخمس، يمكن أن يفعلها غيره باتجاه معاكس. ويسمون كل هذا "ديمقراطية توافقية" !!

السؤال / أين هي دينامية الشباب اللبناني من كل هذا؟

  • هل تكمن خارج هذه الترسيمة التي رسمناها كما تبدو في الظاهر؟
  • هل ثمة استلاب لها من خلال شعارات 8 آذار و14 آذار؟ مقاومة وعدالة؟
  • هل بقيت مع كل التحوّلات العربية التي شاهدناها ونشاهدها في تونس ومصر وليبيا وبلدان عربية أخرى، مستعدّة لتكون قوى احتياط لحشود مليوينة لهذا الزعيم أو لذاك الزعيم؟. أين مطالبها المستقلة عن القوى الطائفية المهيمنة والمسيطرة على الحياة السياسية اللبنانية؟
  • هل يخرج شباب لبنان من سجون طائفياتهم السياسية، ومجالس ايديولوجياتهم العقيمة وقياداتهم وزعاماتهم الهرمة والتي لم تعترف بعد بهرمها التاريخي والثقافي، رغم شبابها العمري أحياناً؟
  • هل ثمة كوامن شابة تهيء لطفرة، اي لقفزة نوعية في التاريخ، لا ينتظرها المؤرخ الوضعي؟

متغيرات كثيرة نبّهت له ثورتا مصر وتونس وليبيا: متغيرات في معنى المفردات والمصطلحات وأشكال التعبئة والتنظيم، متغيرات أعادت النظر في مفهوم القائد، والزعيم والحزب والثورة والدولة والمواطن، وفي سلوك المحتج أو "الثائر" وأخلاقه وقيمه ولغته وشعاراته.

وكل هذا المتغير لا علاقة له بايديولوجيا أو مرجعية قومية أو إسلامية أو خمينية، والخوف كل الخوف أن يتم الإستيلاء على هذا المتغير من قبل المتربصين..

كل مرّة أشاهد فيها على شاشة بعض الفضائيات العربية، ذاك المواطن التونسي وهو يضع يده على رأسه الذي غطاه الشيب وهو يقول: "هرمنا، هرمنا.. بانتظار هذه اللحظة التاريخية"، يغمرني شعور عارم بالفرح والأمل والقلق: فرح بالنهضة العربية الجديدة، وقلق يسائل النفس: هل يقيض لنا القدر والتاريخ معايشة هذه اللحظة التاريخية في لبنان"، أي عندما يتحقق مطلب: "الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي"؟