العنوان هنا
مقالات 18 أبريل ، 2012

تجربة ناجحة في بناء الجسور بين الثّقافات

رياض العكبري

يمني مقيم في كندا. شغل مواقع سياسية في اليمن، منها عضو مجلس الشّعب، وعضو في هيئة رئاسة الدولة في الجنوب قبل الوحدة، ثمّ عضو برلمان وسفير ومستشار لرئيس الجمهوريّة بعد الوحدة. وهو حاليًّا الرئيس التنفيذي لمركز جسور لتشجيع الحوار والمشاركة المدنيّة.

لم يكن محمد باعبيد استثناءً في اقتفائه آثار الأجداد من روّاد المهجر الحضارمة الذين أبحروا منذ قرونٍ بعيدة إلى أصقاع الأرض المترامية كرسل محبّة وخيرٍ وبُناة للجسور بين البشر والحضارات. إذ يكرّس باعبيد، رئيس مركز الدّعم الاجتماعي والاندماج للمسلمين [1] MRCSSI، والقادم قبل عقدٍ من الزّمن إلى كندا، جلّ وقته للاهتمام بتقديم الدّعم الاجتماعي والاندماج لعائلات المهاجرين المسلمين القادمين حديثًا إلى مدينة لندن أُونتاريو الكنديّة. وتشير الإحصاءات إلى أنّ الجالية المسلمة تعدّ الأسرع نموًّا في كندا. ووفقًا لتقريرٍ صدر مؤخّرًا عن مركز "بيو للأبحاث"، فإنّ عدد مسلمي كندا سيبلغ ثلاثة أضعافه خلال العقدين المقبلين ليصل إلى 2.7 مليون نسمة في عام 2030، وحينها سيمثّلون نسبة 6.6% من سكّان كندا، بينما يبلغ عدد المسلمين حاليًّا 940 ألف نسمة تقريبًا[2]. إنّ نحو 31% من سكّان مقاطعة أُونتاريو مسلمون قدموا من مختلف القارّات. ويُعدّ المجتمع في مدينة لندن الكنديّة نموذجًا مصغّرًا للمجتمع الكندي شديد الثّراء بالتنوّع العرقي والدّيني والثّقافي. في هذا السّياق، اطّلعْت على دراسةٍ نُشرت مؤخّرًا[3]، بيّنت ريادة كندا عالميًّا من حيث معدّلات التعدّدية الثّقافية في أماكن العمل والدّراسة، حيث أنّ قرابة ثلاثة أرباع الكنديّين يذهبون إلى أماكن العمل أو الدّراسة في بيئات متعدّدة الثّقافات، الأمر الذي ساعد -بحسب الدّراسة- على جعل الكنديّين من بين شعوب العالم الأكثر تسامحًا.

واليوم، أضحى ملفّ الهجرة والاندماج في صدارة الاهتمامات والسّجالات العامّة الرسميّة والإعلاميّة والشعبيّة في العالم، بل تحوّل إلى قضيّةٍ سياسيّة وانتخابيّة داخليّة ساخنة في عددٍ من الدّول الغربيّة. إنّ احتدام الجدل بشأن هذه المسألة لا يعني أنّها معضلة مستجدّة أو مناسباتيّة عابرة. إذ كما يفعل البشر منذ فجر التّاريخ، سيستمرّ تدفّق حركة الأمواج والكتل البشريّة الهائلة المهاجرة عبر الحدود، والتي تقدّر راهنًا بنحو 214 مليون شخص هاجروا عبر الحدود الدوليّة بدايةً من عام 2010، أي نحو 3% من سكّان العالم[4]. وترجع هذه الهجرة أساسًا إلى أسبابٍ تتراوح بين العوامل الاقتصاديّة ومحفّزات البحث عن الحرّية. والمعروف أنّ حركة انتقال النّاس من أوطانهم الأصليّة إلى مناطقَ أخرى من العالم أحدثت تغييرات مهمّة، ليس في أنماط سلوك المهاجرين أنفسهم وتفكيرهم وحياتهم فحسب، بل حتّى في نظرة المجتمعات المستقبلة لهم وانشغالاتها وتركيبتها.

وعلى الرّغم من وجود إخفاقات ونتائج سلبيّة في تجارب بلدان العالم في مجال الهجرة والاندماج، لا يمكن تجاهل قصص النّجاح والتفوّق، ووجود عددٍ من الأصوات المنصفة المؤيّدة لقضايا العرب والمسلمين في الغرب. وفي رأيي، سنظلّ نرى بين الفينة والأخرى بروز مثل تلك التحدّيات في الواجهة الإعلاميّة والسّياسية، كالجدل الدّائر حاليًّا في الغرب بشأن نجاح التعدّدية الثّقافية أم فشلها، والموقف من اندماج المسلمين في المجتمعات الغربيّة، وما سُمّي بـ "الهجرة الانتقائيّة"، والجدل الأوروبي بشأن الحجاب وتقنينه، وقضايا تعدّد الزّوجات، وقضايا أخرى تَسبَّب تضخيمها في بثّ موجةٍ من الهلع بين العامّة، وجُيّرت لخدمة أجنداتٍ سياسيّة وانتخابيّة، مثل التّحذير من اعتماد الشّريعة الإسلاميّة، ومن "الخطر" المزعوم لهيمنة المسلمين على الولايات المتّحدة الأميركيّة، بل إنّ البعض ذهب إلى حدّ ادّعاء أنّ غالبيّة سكّان أوروبا وأميركا سيصبحون عربًا ومسلمين مع حلول القرن الثاني والعشرين.

إذًا، فالفهم والتّطبيق الصّحيحان لمفهوم الاندماج، يعَدّان الخطوة المفتاحيّة نحو نجاح الجاليات العربيّة والمسلمة وتفوّقها. ولا يعني الاندماج إطلاقًا الذّوبان والانصهار، بمعنى تقمّص الفرد هويّة غيرهويّته الأصليّة، وهو بالضّرورة نقيض للسلبيّة والانزواء والعزلة عن محيط المجتمعات الجديدة اجتماعيّا وثقافيّا واقتصاديّا. إنّ أيّ تشويش في تعريف الاندماج سيقود حتمًا إلى أزمة انتماءٍ وهويّة تصعب معالجتها.

أمّا آثار الهجرة السلبيّة في المهاجرين الجدد، فتتمثّل في تعرّض كثيرٍ منهم لما يسمّيه الباحثون المتخصّصون في قضايا الاندماج "الصّدمة الثقافيّة" Culture Shock و"صدمة ما قبل الهجرة" Pre-migration Trauma والتي يعاني منها المهاجرون واللّاجئون القادمون من مناطق الحروب خصوصًا. ومن خلال أبحاثه وبرامجه، سعى مركز الدّعم الاجتماعي والاندماج للمسلمين MRCSSI إلى تحويل حالة الصدمة إلى حالةٍ من الاستقرار العائلي. إذ تواجه الأسر المسلمة تحدّيات التكيّف مع المجتمع الكنديّ، وأبرزها وجود فجوة ناجمة عن طبيعة المجتمع الكنديّ القائمة على الفرديّة، في حين أنّ الأسر المسلمة  تغلّب المصلحة الجمعيّة. وهي الفجوة بين مفهومين مختلفين بشأن العلاقات العائليّة والتي تغذّي الفوارق، وتؤثّر سلبًا في تكيّف الكثير من الأسر المسلمة والعربيّة مع المجتمع الكنديّ وثقافته. وهذا الأمر لم يجعل الصّراع بين المفهومين صراعًا ثقافيًّا فحسب، بل تعدّاه إلى حدوث مشكلات لها علاقة بإنفاذ القوانين السّارية، أي تحوّل الفوارق في القيم والثّقافات إلى مشكلات قانونيّة.

وتتعامل الجهات المنفّذة للقانون مع النّزاعات الأسريّة المصحوبة بالعنف من منظورٍ جنائيّ صرف، بحيث يطبّق القانون بصرامةٍ بغضّ النّظر عن علاقة المعتدي بالضحيّة؛ زوج أو أمّ أو أب أو أخ إلخ..، إذ لا تشفع هذه القرابة للمعتدي عند تطبيق القانون. ويأتي كثيرٌ من القادمين الجدد وقد حملوا معهم توقّعاتٍ معيّنة تصطدم بقوانينَ صارمة تطبَّق بطريقةٍ لا تراعي الخلفيّات الثقافيّة التي حملها هؤلاء المهاجرون الجدد معهم، وعليه، تكون النّتيجة في الغالب انهيار الأسرة وتفكّكها. وكمثال، فقد بيّنت الإحصاءات في حالة الأطفال ضحايا العنف الأسريّ أنّ المعالجات الصّارمة تقود إلى نتائجَ عكسيّة، كحرمان الأسرة من أطفالها بقوّة القانون، وبالتّالي إبعادهم عنها قسرًا إلى بيئةٍ غير بيئتهم الثّقافية.

يرى كثيرٌ من المهاجرين الجدد الضّرب –مثلًا- وسيلةً من وسائل التّربية والتّأديب بغرض الحماية من الاستمرار في الخطأ، بينما ينظر لها القانون نظرةً مختلفة، ويعدّ الطّفل بموجبه ضحيّة العنف الأسري. وهي عواقب تسبّب الصّدمة جرّاء حرمان الأبوين من طفلهما وإرساله إلى دُور الرّعاية وإلى الأسر التي تتبنّاه، وإخضاعه لمؤسّسات حماية الطّفولة التي تعمل بحسب قوانينَ صارمة، وتتمتّع بصلاحيّات قانونيّة تخوّلها أخذ الأطفال وإبعادهم عن ذويهم تحت مبرّر الحماية من الاعتداء عليهم.

إنّ الخدمات والبرامج التي يقدّمها مركز الدّعم الاجتماعي والاندماج للمسلمين بالتّعاون مع منظّمات مماثلة تستهدف في الأساس منع الاعتداء على النّساء والأطفال، وبذلك تفادي تعريض الأطفال لأن يتمّ إبعادهم عن أسرهم.

والعنف كمفهوم عامّ ظاهرة قديمة لازمت جميع المجتمعات، تنوّعت مظاهره لتشمل مثلًا العنف السّياسي والعنف الدّيني والعنف الأسري الذي يشتمل على العنف ضدّ المرأة والطّفل والمسنّين والشّبّان. وقد كان على الدّوام سببًا من أسباب انهيار العائلة كوحدةٍ مجتمعيّة أساسيّة. بل أثّر تأثيرًا عظيمًا في استقرار المجتمع ككلّ. ويعني العنف جميع الممارسات العدوانيّة الواعية المدعومة بإرادةٍ وإصرار، سواء كانت مبرّرة أو غير مبرّرة، ويتّخذ أشكالًا متنوّعة تشمل العنف اللّفظي، أو الضّرب، أو الاغتصاب، أو الحرق، وما يخلّفه من عاهاتٍ وآلامٍ نفسيّة وجسديّة ومعاناة قد تلحق بالفرد أو الجماعة، وقد يصل الأمر إلى القتل، ويؤدّي إلى تفكّك الرّوابط الأسريّة. ويعاقب القانون الكنديّ كل مرتكبي أشكال العنف التي تلحق بالضحيّة أضرارًا جسديّة ونفسيّة.

واتّخذ مركز الدّعم الاجتماعي والاندماج للمسلمين MRCSSI نهجًا فريدًا في معالجة عوامل الخطر النّاجمة عن الصّدمة الثقافيّة وصدمة ما قبل الهجرة، وبذلك يسهم في معالجة مشكلات استقرار الأسر المسلمة في المجتمع الجديد. واستطاع المركز أن يتابع ظروف انتقال الأفراد من بلدانٍ تختلف في ثقافتها وعاداتها، وما ينطوي عليه ذلك من صدامٍ مع القوانين الكنديّة. إضافةً إلى تجربة بعض المهاجرين مع الحروب في بلدانهم الأصليّة، وما قد يترتّب على ذلك ممّا يُعرف بالاضطرابات النفسيّة لما بعد الصّدمة PTSD : Post Traumatic Stress Disorder. أضف إلى تلك العوامل حقيقة أنّ الجاليات المسلمة تظلّ لفترةٍ طويلة تحت تأثير موروثها الثّقافي الذي جلبته معها من مجتمعاتها الإسلاميّة الأصليّة. وغنيّ عن القول إنّ ثقافة العنف الأسري وممارساته ومظاهر المجتمع الذّكوري الأبوي ومشكلاته موجودة وبقوّة في كلّ الثّقافات والمجتمعات دون استثناء، بما فيها المجتمعات الغربيّة نفسها.

لقد شرع مركز MRCSSI من خلال الأبحاث والبرامج العمليّة في توفير العلاج المكثّف للتّعامل مع تلك الصّدمة، حيث اتّبع نهجًا اتّسم بالعمل الجمعي والتّكاملي عبْر إشراك المؤسّسات المعنيّة بتقديم الخدمات النفسيّة والاجتماعيّة لما من شأنه تلبية الاحتياجات المركّبة للأسرة المسلمة في ظروفها الجديدة. وقد استخدم هذا النّموذج أساليب نشر الوعي لدى مقدّمي تلك الخدمات، وتشجيعهم على فهم ثقافة العائلة المسلمة واحتياجاتها، وشرح الخلفيّات الثقافيّة والتاريخيّة التي تُنتج عاداتٍ وتقاليدَ وأنماطًا من السّلوك قد تتعارض مع تلك التي تحيط بهم في مجتمعاتهم الجديدة.

إنّ جوهر عمل مركز  MRCSSI هو السّعي لتحقيق التّوازن بين تطبيق القانون وتثقيف الجالية المسلمة وتعريفها بالقانون من جهةٍ، وتعريف الجهات المنفّذة للقانون والجهات الدّاعمة والمقدّمة للخدمات في مجال رعاية الأسرة بعواقب تجاهل الخلفيّات الثقافيّة للقادمين الجدد عند تطبيق القانون بصرامةٍ من جهةٍ أخرى. ولتحقيق ذلك الغرض، تقوم الفكرة الأساسيّة على تقديم برامج وخدمات دعم اجتماعيّ تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيّات الثقافيّة للأسر العربيّة والمسلمة وكيفيّة التّوفيق بين صرامة القوانين السّارية وبين مراعاة تلك الخصوصيّات. ويتمّ ذلك من خلال المزج بين إعداد الدّراسات والأبحاث ووضعها في صورة برامجَ اندماجيّة INTEGRATIVE PROGRAMS، والتوفيق بين مختلف البرامج الكنديّة في مجال معالجة العنف الأسريّ والخصوصيّات الثقافيّة للأسر المسلمة، دون التّضحية بأيٍّ من الجانبين، أو المساس بقوانين المجتمع المضيف وقيمه، ودون تجاهلٍ لخلفيّات المهاجرين الثقافيّة. أي أنّ دور المركز يتمثّل في إيجاد بدائلَ لا عنفيّة من خلال العمل مع الأسر واتّباع وسائلَ إرشاديّة واستشاريّة في كيفيّة التّعامل مع حالات النّزاع الأسري بين الأزواج وبين الآباء والأبناء.

وعلى مدى السّنوات القليلة الماضية، وبالتّعاون مع هيئة حماية الأطفال، نجح مركز MRCSSI في تخفيض عدد الأطفال المسلمين الذين يدخلون في رعاية هذه الهيئة بنسبة 80٪. ولدى مركز MRCSSI حاليًّا برنامجان من البرامج القائمة والمؤسّسة، هما مشروع الاندماج الآمن Safe Integration Project ومشروع أمان الأسرة Family Safety Project، وهما يخاطبان حالات العائلات التي تمّ دعمها قبل حدوث أيّ عملٍ من أعمال العنف. وقد نجح المركز في منع وقوع عنف أسري في حالاتٍ عديدة.

ويتزايد الاهتمام بقضايا العنف الأسري في بلدٍ متعدّد الثّقافات ككندا، وكثيرًا ما تهتمّ وسائل الإعلام وقادة الرّأي العامّ ومنظّمات المجتمع المدني بتشجيع إجراء الأبحاث والبرامج بهدف منع المفاهيم التقليديّة - ومنها على سبيل المثال ما يسمّى "جريمة الشّرف"- من التسبّب في حدوث الصّدمة وتطوّرها لدى القادمين الجدد، والسّعي لإدماجهم في المجتمع الجديد بأقلّ التّكاليف الممكنة. وعلى الرّغم من أنّها ليست المرّة الأولى التي يهتمّ فيها المجتمع والحكومة، إلّا أنّ وسائل الإعلام الكنديّة ركّزت مجدّدًا في الفترة القصيرة الماضية على نشاطات باعبيد، ومنها صحفٌ كبرى مثل غلوب اند ميل[5] Globe and Mail. كما بثّت محطّة التلفزيون الكنديّة الرّئيسة CBC، في نشراتها الرّئيسة مقابلات معه. وهدفت جميع تلك التّغطيات إلى تسليط الضّوء على تجربة المركز وإبراز نجاحه في تصميم وابتكار برامج عمليّة[6] ذات نتائج ملموسة وناجحة تستند إلى البحث العلميّ. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى الفرق بين الدّعم المقدّم من تلك الجهات العلميّة والحكوميّة والشّعبية في بلدٍ مثل كندا، واهتمامات عددٍ من الدّول العربيّة والإسلاميّة بأبنائها المغتربين. حيث تخصّص هنا أموالٌ ومساعدات كثيرة وندوات وبحوث وبرامج ومتابعة إعلاميّة، وهو ما لا يلاحظ في الدول الأصلية للمغتربين. وعلى الرّغم من تسليط الإعلام الضّوء على قضيّة "غسل العار" بين الفينة والأخرى، إلّا أنّ محاكمات عائلة "شفيعة"[7] دفعت بموضوع العنف الأسري إلى الواجهة مجدّدًا، وطرحت للنّقاش الحاجة إلى البحث عن حلولٍ وطنيّة على مستوى كندا كلّها، وجرى الحديث عن كيفيّة نقل التّجربة النّاجحة لمركز الدّعم الاجتماعي والاندماج للمسلمين. وكان لتسليط الضّوء على تلك القضيّة جوانبه الإيجابيّة والسلبيّة، من حيث أهميّة دور الإعلام إمّا في تعديل الصّورة النّمطية السلبيّة للجاليات المسلمة أو في تثبيتها.

على الرّغم من أنّ مركز الدّعم الاجتماعي والاندماج للمسلمين أُسّس رسميا في كانون الثّاني / يناير سنة 2009، إلّا أنّ تاريخه يعود إلى سنة 2002 عندما كلّف مركز أبحاث العنف ضدّ المرأة والطّفل في جامعة ويسترن أونتاريو، محمد باعبيد بإعداد بحثٍ عن المعوقات التي تحول دون استفادة ضحايا العنف الأسري من النّساء المسلمات من برامج الهيئات المعنيّة بخدمات العنف الأسري في مدينة لندن أُونتاريو. وتركّزت توصيات البحث[8] في أهمّية إشراك مكوّنات الجاليات العربيّة والمسلمة في مجمل أنشطة المؤسّسات المعنيّة بمكافحة العنف الأسري على قاعدة الشّراكة الحقيقيّة، وتشجيع قياداتها على تحمّل مسؤوليّاتها الدينيّة والأخلاقيّة للوقاية من العنف الأسري، وتفادي كلّ ما من شأنه أن يساهم في تكريس الصّورة النمطيّة السلبيّة عن الإسلام والمسلمين، والتي تعزّزها مناخات التطرّف السّائدة في كلٍّ من الغرب والشّرق على حدٍّ سواء. وتشير الوقائع إلى خطإ تعميم النّماذج السلبيّة على مجمل الجاليات المسلمة المهاجرة، أو تعميم ظاهرة العنف ضدّ المرأة على المسلمين كافّةً. وغنيّ عن القول إنّ الإعلام الغربي بدوره، خصوصًا في فورة ظاهرة الإسلاموفوبيا بعد الحادي عشر من أيلول / سبتمبر، يتحمّل قسطًا مهمًّا من المسؤوليّة عن تنميط المرأة المسلمة في رسائل إعلاميّة يوميّة مكثّفة وربطها بالحجاب والبرقع والسلبيّة وعدم القدرة على التّفكير والاضطهاد والعنف. وفي مقالة نُشرت مؤخّرًا، كتبت خيما مارتن مونيوزGemaMartinMunuz أستاذة علم الاجتماع في العالم العربيّ والإسلاميّ في جامعة مدريد، تقول: "إنّ تقديم وسائل الإعلام للمرأة في البلدان الإسلاميّة، وبصرف النّظر عن تغطيتها لممارسات التّمييز غير المقبولة، إنّما يخدم في المقام الأوّل إدامة مجموعةٍ من التوقّعات والمسلّمات الثقافيّة التي تشوّه التنوّع الواسع للثّقافة العالميّة"، بينما تقول علياء هوغبن، المدير التّنفيذي للمجلس الكندي للمرأة المسلمة: "إنّ نشر تلك المفاهيم الخاطئة والتّحريفات عن النّساء المسلمات يؤدّي في الواقع إلى زيادة سوء الفهم الثّقافي"[9].

وخلال العشر سنواتٍ الماضية، عُقدت مجموعة من النّدوات وحلقات النّقاش بخصوص نتائج هذا البحث، أدّت إلى تبنّي "لجنة لندن لإنهاء العنف ضدّ المرأة" توصيات البحث، وتحويله إلى برنامج عمل لبناء جسور التّواصل بين مؤسّسات هذه اللّجنة التي تضمّ أكثر من 35 مؤسّسة حكوميّة وغير حكوميّة، وقيادات الجالية المسلمة والعربيّة. وتكوّنت حينها شبكةٌ من العلاقات ذات التعدّد الثّقافي لتكون داعمًا أساسيًّا لكلّ النّجاحات التي توالت خلال السّنوات الماضية.

وفيما يلي ملخّصٌ لأهمّ المحطّات والنّجاحات في هذا المجال:

  1. نتيجة لتوصيات البحث الأوّل، جرى تأسيس مشروعٍ عُرف بمشروع أمان الأسرة المسلمة في شباط / فبراير سنة 2004. ومن أهمّ إنجازاته أنّه أسّس لحوارٍ بين الجالية، وخاصّة أئمّة المساجد والمؤسّسات المعنيّة بالعنف الأسري، يتضمّن برامجَ تثقيفيّة وتوعويّة لأبناء الجالية، وبرامج تدريبيّة للمؤسّسات الكنديّة تهتمّ بالخصوصيّات الثقافيّة للأسر العربيّة والمسلمة لتراعَى عند تدخّل السّلطات الكنديّة لدى هذه الأسر.
  2. في سنة 2005، جرى تأسيس برنامج خدمي عُرف ببرنامج دعم الأسرة المسلمة، وهو برنامج شراكةٍ بين الجالية ومركز خدمات الأسرة في المدينة، يتيح الفرصة للأسرة والأشخاص المتردّدين والمتخوّفين من اللّجوء إلى المؤسّسات الكنديّة مباشرةً تحسّبًا من سوء الفهم، للتّعامل مع مركزٍ محايد يجمع بين الثّقافتين الكندية والمسلمة.
  3. تأسيس مركز الدّعم الاجتماعي والاندماج للمسلمين في سنة 2009.
  4. ومن أهمّ إنجازات المركز التي تحقّقت خلال هذه الفترة، قيامه بحملة للتّوعية والتّثقيف، وتنفيذ برامج تدريبيّة مكثّفة للمؤسّسات الكنديّة المعنيّة بالعنف الأسري، وإنجاز دراسة[10] ودليل إرشادي[11] يتعلّقان بقضايا العنف الأسري وصدمة ما قبل الهجرة، بصورةٍ تتّفق مع الخصوصيّات الثقافيّة للأسر المسلمة وتجربتها في مرحلة ما قبل الهجرة بوصفها من العوامل المؤثّرة في العلاقات الأسريّة.
  5. تصميم برامج مشتركة مع هيئة حماية الأطفال، وهي تجربة رائدة وفريدة من نوعها في كندا، كان من نتائجها انخفاض عدد الأطفال المسلمين الذين يبعدون قسرًا وبقوّة القانون السّاري عن أسرهم إلى نحو 80%. كما أنّ عام 2011 لم يشهد أيّ حالة إبعاد للأطفال، وهذه حالة فريدة لم تعشها الجاليات المسلمة والعربيّة في السّابق.
  6. وبفضل هذا البرنامج، استطاع المركز تجنيب هذه الأسر الاحتكاك بالنّظام القضائي الجنائي الكنديّ من خلال التّشخيص المبكر لمؤشّرات العنف والتّعامل معها في مرحلةٍ مبكرة، وبذلك تتمّ الإحاطة بها والحيلولة دون تصاعدها بصورةٍ تؤدّي إلى انهيار الأسرة وضياع أطفالها.
  7. تدشين أوّل برنامج من نوعه في كندا، هو برنامج شرف العائلة The Family Honor Project، والذي يهدف إلى إعادة الاعتبار لمفهوم شرف الأسرة من خلال فكّ الارتباط الخاطئ بين العنف والشّرف.

تجدر الإشارة إلى وجود جهاتٍ راعية كثيرة مهتمّة بالتّجربة الفريدة من نوعها في لندن أُونتاريو، على المستويين الفيدرالي والمحلّي[12]، منها وزارة العدل، ووزارة الصحّة، والأحزاب، والجامعات ومنظّمات المجتمع المدني، والسّلطات المحلّية في مقاطعة أُونتاريو وفي مدينة لندن. وتقدّر تلك الجهات والسّلطات الفيدراليّة والمحلّية مساعي المركز وتدعم أبحاثه وترجمتها إلى توصيات تُنتج برامجَ مهمّتها حلّ مشكلات النّزاع الأسري، وتسهيل الاندماج، ونبْذ الانغلاق بين أوساط الأسر المسلمة. ويعمل باعبيد استشاريًّا لكثيرٍ من اللّجان الحكوميّة على نطاق مقاطعة أُونتاريو والحكومة الفيدراليّة بشأن السّياسات المعنيّة بمكافحة العنف الأسري والوقاية منه.

كما تضاعف الاعتراف الدّولي والوطني بنشاط المركز تقديرًا لمساعي باعبيد ومركز الدّعم الاجتماعي والاندماج للمسلمين MRCSSI ودورهما. وحقّق عمل المركز أصداء عالميّة إيجابيّة من خلال المشاركة في عددٍ من المؤتمرات الدوليّة، وقيام وفد من وزارة العدل الهولنديّة بزيارة للمركز في عام 2010 للاطّلاع على تجربته في مجال الوقاية من العنف الأسري بين أوساط المهاجرين المسلمين. وجرى اعتماد برامج المركز كبرامج نموذجيّة على المستوى العالمي في مجال الوقاية من العنف الأسري في إطار التعدّد الثّقافي. وفي السّنوات 2009 - 2010-2011 اختير باعبيد ضمن الخمسمائة شخصيّة إسلاميّة الأكثر تأثيرًا في العالم، وهي قائمة تصدر سنويًّا عن المركز الملكيّ للبحوث والدّراسات الإسلاميّة في المملكة الأردنيّة الهاشميّة[13].

ويسعى مركز MRCSSI حاليًّا إلى نقل عمله في مجال العنف الأسري خطوة أخرى إلى الأمام بالتّعاون مع مشروع شرف العائلة الذي يسعى إلى إشراك المجتمعات المحلّية الجمعيّة في إيجاد بدائلَ مشرّفة لمعالجة الأزمات العائليّة. وسيقوم مشروع شرف العائلة بإشراك المجتمعات المحلّية لتشجيع وتعزيز الاعتقاد بأن ليس هناك شرف في أعمال العنف. هذا هو أمل مركز MRCSSI في أن يكون هذا المشروع  رائدًا لما سوف يصبح مقاربة ونهجًا ذا صلةٍ ثقافيّة للتّعامل مع العنف المنزلي. وسيتمّ بناء مشروع شرف العائلة على الممارسة القائمة على الأدلّة بحيث لا يعالج فقط العنف الأسري داخل المجتمع في أونتاريو لندن، ولكن بالتّعاون مع المجتمعات المحلّية والعديد من وجهات النّظر والرّؤى الثقافيّة الأخرى في جميع أنحاء كندا، بل على الصّعيد الدّولي.

إنّ قصص النّجاح الفرديّة الكثيرة لعددٍ من المهاجرين المسلمين، رجالًا ونساءً، تروي في حدّ ذاتها جوانبَ من قصّة نجاح النّموذج الكنديّ للتّطبيق السّليم لمفهوم الاندماج الآمن، بصفته الخطوة المفتاحيّة نحو النّجاح والتفوّق، على الصّعيد الفرديّ أو على مستوى الجاليات المهاجرة. إذ بيّنت التّجربة الكنديّة أنّ وجود تحدّيات لا يُستهان بها لا يعني البتّة فشل التعدّدية الثقافيّة، وأنّ الحاجة تزداد لإحلال ثقافة التّفاهم وبناء الجسور بين الثّقافات والأديان والشّعوب والمجموعات البشريّة المختلفة من خلال الحوار البنّاء، في عصرٍ يتّسم بتدفّقٍ غير مسبوق للمعرفة وانتشارٍ كاسح للقنوات ولوسائل الإعلام والاتّصال الجديدة.

ختامًا، آمل أن تجد تحدّيات الهجرة والاندماج صدًى لها في البلدان العربيّة والإسلاميّة، الأوطان الأمّ للمهاجرين المسلمين والعرب، من جهة ضرورة توثيق التّعاون بين منظّمات المجتمع المدني والجهات الحكوميّة المعنيّة في تلك البلدان، وبين مؤسّسات وروّاد المهجر العاملين في مجال الحماية الاجتماعيّة والاندماج الآمن للجاليات العربيّة والمسلمة على الضفّة الأخرى من العالم في شتّى بلدان الاغتراب البعيدة.


 

[6]  Mohammed Baobaid, “Guidelines for Service Providers: Outreach Strategies for Family Violence Intervention with Immigrant and Minority Communities (Lessons Learned from the Muslim Family Safety Project)”, http://www.lfcc.on.ca/MFSP_Guidelines.pdf

[7] تتعلق القضية باتهام السيد شفيعة ذي الأصول الأفغانية وزوجته وابنه بقتل ثلاث من بناته وزوجته الأولى في جريمة شرف، وهزت محاكمتهم الرأي العام في كندا وخارجها.

للاطلاع على تفاصيل القضية، انظر:

http://mrcssi.com/wp-content/uploads/2011/10/Shafia-trial
-a-wake-up-call-for-Canadian-Muslims-The-Globe-and-Mail.pdf

[8] Baobaid, M., “Access to women abuse services by Arab-speaking Muslim women in London”, (Ontario: Centre for Research on Violence Against Women and Children), 2002. Retrieved from http://www.crvawc.ca

[10] Baobaid, M., Community service responses towards men’s violence against women and children in the context of pre-migration experiences, (Unpublished Manuscript), (London, ON –Canada: Muslim Resource Center for Social Support and Integration), 2008.

[11] Baobaid, M., Tremplay, Nessan, N. & Adlm, K., Understanding Risk of Domestic Violence in the Context of a Collectivist Family, (Unpublished Manuscript), 2012.