Author Search

​أستاذة مشاركة في قسم التاريخ بكلية بوسطن، وأستاذة مشاركة زائرة في برنامج التاريخ بمعهد الدوحة.​

تاريخ مدينة دمشق موضوعًا لسيمنار المركز العربي
تاريخ مدينة دمشق موضوعًا لسيمنار المركز العربي
دانة السجدي
دانة السجدي
هاني عواد
هاني عواد
أمل غزال
أمل غزال

​​​​​​​​​​استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 8 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، الدكتورة دانة السجدي، الأستاذة المشاركة في قسم التاريخ بكلية بوسطن، والأستاذة الزائرة في برنامج التاريخ بمعهد الدوحة للدراسات العليا، التي قدّمت محاضرة بعنوان "دمشق: مدينة من كلمات". وتناولت الباحثة تقاليد الكتابة الأدبية والتاريخية عن مدينة دمشق منذ القرن الثاني عشر، مركزةً على الجغرافيا النصية التي صاغها ابن عساكر في عمله الموسوعي تاريخ مدينة دمشق. وقد عقّبت على المحاضرة الدكتورة أمل غزال، أستاذة التاريخ وعميدة كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية بمعهد الدوحة للدراسات العليا.

استهلّت الباحثة مداخلتها بالعودة إلى ابن عساكر الذي عاش في القرن الثاني عشر، في زمنٍ تميّز باضطرابات سياسية متلاحقة شهدتها بلاد الشام؛ بدايةً من سيطرة الفاطميين إلى السلاجقة والبوريين، ثم الزنكيين. وأوضحت أن ابن عساكر عاش لحظة تاريخية انتقالية كانت فيها دمشق مركز صراع ديني وسياسي حادٍّ؛ بين الدعوات الشيعية الفاطمية والوجود الصليبي من جهة، ومحاولات إعادة تأسيس السنّية السياسية على يد نور الدين زنكي من جهة أخرى. وفي هذا السياق، رأت الباحثة أن مشروع ابن مؤلَّف تاريخ مدينة دمشق لم يكن موسوعة تراجم أو سجلًّا للمآثر فحسب، بل إنه نصٌّ تأسيسيٌّ أنتج رؤية جديدة للمدينة بوصفها كيانًا معرفيًا ورمزيًا يجمع بين المقدس والمدني، ويعكس نشوء ما سمّته "العقد الاجتماعي الجديد" بين السلطان والعالم والمجتمع من خلال العمران والوقف والتعليم.

ركّزت السجدي على المجلد الثاني من كتاب ابن عساكر، الذي وصف فيه المدينة من منظور العابر أو "الماشي"، بدلًا من وصفها "من عَل". فهذا العالِم الدمشقي جال في شوارعها وسجّل معالمها، من مساجد ومدارس وحمامات وأسواق، مبينًا وجود مؤسساتٍ جديدة، مثل المكتبات العامة والأوقاف، كانت وليدة مرحلة تشكُّل اجتماعي وسياسي جديد في القرن الثاني عشر. وقد أشارت الباحثة إلى أن هذا الوصف الحي للمدينة يُعدّ لحظة مفصلية في الأدب التاريخي؛ لا بوصفه تمجيدًا للماضي كما هو الشأن في تقاليد "فضائل المدن"، بل بوصفه تمثيلًا للحاضر المتغيّر، وإدخالًا للمدن الإسلامية - وفي مقدمتها دمشق - إلى فضاء الكتابة الحضرية بوصفها عالمًا متحركًا متعدّد الطبقات.

وانطلقت الباحثة من تحليل العلاقة التي جمعت ابن عساكر بالسلطان نور الدين زنكي لتوضح ما سمّته "معادلة المدينة الإسلامية": العالِم، والسلطان، والبناء، والنص. فالعالِم من خلال العلم والتأليف يُنتج شرعية معرفية، والسلطان يُنتج شرعية أيضًا من خلال الرعاية والعمران يؤسس شرعية سياسية. أما المدرسة والوقف، فكلاهما نتاجٌ مادي لهذه العلاقة التي توثّقت في مؤسسة المدرسة النورية وكتاب تاريخ مدينة دمشق في حدّ ذاته الذي أهداه ابن عساكر للسلطان. وبيّنت الباحثة أن هذا التحالف بين الفقيه والسلطان أعاد تشكيل بنية المدينة الإسلامية اجتماعيًّا، وجعل من العلماء فئة مهنية مستقلة تمارس أدوارًا تعليمية وقضائية وإدارية، وعزّز مكانتهم بوصفهم "ورثة الأنبياء". وهكذا، تَحوّلت المدينة إلى مجال يجمع نصوص السلطة بالعمران، وصار البناء نفسُه لغةً سياسية تعبّر عن عدل السلطان وتقواه.

وفي قراءة الباحثة لهذا الإرث النصي، أكدت أن "دمشق المكتوبة" ليست تمثيلًا حياديًّا للواقع، بل هي إنتاج للمدينة عبر الكلمة. فالمؤرخ الدمشقي لم يكن مراقبًا، وإنما كان صانعًا لصورها. ومن خلال النصّ، امتلك العالم سلطة إعادة تمثيل المكان؛ على غرار ممارسة السلطان لسلطته من خلال الحجر والعمران. لهذا، ترى أن الكتابة "مدينةٌ" في حدّ ذاتها، وأن دمشق تُكتب كما تُبنى، وأن ابن عساكر لم يدافع عنها بالسيف في مواجهة تهديدات الزمن والاندثار، بل دافع عنها بالكلمات.

وقد قدّمت الدكتورة أمل غزال، في تعقيبها، قراءة لمشروع السجدي، ورأت أنه يُعيد الاعتبار لدمشق بوصفها مدينة أنتجت نفسها سرديًّا على مدى قرون. واعتبرت أن تاريخ مدينة دمشق يمثّل نصًّا تأسيسيًا في التاريخ المعرفي للمدن الإسلامية؛ فهو قد أسّس لكتابة حضرية استخدمت أدوات المحدِّثين والفقهاء لتشييد هوية علمية وأخلاقية للمدينة، وليس لتدوين أسطورة ما. وأشارت إلى أن عمل ابن عساكر يعكس انتقال الذاكرة من الشفوي إلى المؤسس، ومن التدين الفردي إلى الدين المؤسسي، في لحظة أسهمت في تكوين ما يُعرف بـ "النهضة السنّية" في الشرق الإسلامي. وربطت غزال بين مقاربة السجدي ومقاربات معاصرة بخصوص العلاقة بين الدين والسلطة في الفكر العربي الحديث؛ مثل مقاربة وجيه كوثراني في الفقيه والسلطان: جدلية الدين والسياسة في تجربتين تاريخيتين: العثمانية والصفوية – القاجارية، ومقاربة عزمي بشارة في الدين والعلمانية في سياق تاريخي؛ ذلك أنّ هاتين المقاربتين تنظران إلى العلماء بوصفهم فئة اجتماعية مؤسسية تمارس السلطة المعرفية على أنها جزءٌ من بنية الحكم، لا مجرد ظاهرة دينية معزولة.

وقد أثار السيمنار نقاشًا ثريًّا بين الباحثين وأساتذة معهد الدوحة للدراسات العليا حول مفهوم المدينة النصيّة، وإمكانات قراءة التراث العمراني الإسلامي عبر لغته الأدبية، ودور العلماء في إنتاج الفضاء الحضري بوصفه حقلًا سياسيًا وثقافيًا ومعرفيًا في آنٍ واحد.​​