Author Search
كاتب وباحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا​


الإنجاب بعد الموت في إسرائيل موضوعًا لسيمنار المركز العربي
الإنجاب بعد الموت في إسرائيل موضوعًا لسيمنار المركز العربي
عزّ الدين أعرج
عزّ الدين أعرج
هنيدة غانم
هنيدة غانم
هاني عواد
هاني عواد

​​استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بالدوحة، يوم الأربعاء 29 تشرين الأول/ أكتوبر 2025، الباحث والصحافي الفلسطيني عزّ الدين أعرج، الذي قدّم محاضرة بعنوان "الإنجاب بعد الموت في إسرائيل: الحرب على غزة وإعادة تأهيل الأمة الاستيطانية"، تناول فيها تفاعل التكنولوجيا الحيوية والإنتاج الإنجابي مع الأيديولوجيا الصهيونية باعتبارهما أداتين لإعادة تشكيل المجتمع الإسرائيلي بوصفه كيانًا استيطانيًا يربط بين الحروب، والعسكرة، والسياسات السكانية، بما يعزز استمرار المشروع الكولونيالي من ناحية كونًا مشروعًا بيولوجيًا بقدر ما هو سياسي.

بدأ الباحث بتحليل البنية الفكرية التي تؤطر الخطاب الصهيوني حول الجسد والذكورة منذ نشأة الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، مشيرًا إلى أن المشروع الصهيوني سعى مبكرًا لإعادة بناء "اليهودي العضلي" بوصفه نقيضًا لصورة "اليهودي المنفي الضعيف"، التي اعتمدتها الصهيونية لتبرير استيطان فلسطين بدعوى إعادة تأهيل الجسد اليهودي المريض والمنفي. ومن ثم انتقل إلى تفكيك علاقة السياسات الإنجابية بالإطار البنيوي للدولة الاستعمارية الإحلالية. وأوضح أن الاستعمار الاستغلالي يعتمد على التحكم في قوة العمل في المستعمرات، في حين يسعى الاستعمار الاستيطاني لـ "محو الأجساد الأصلية" وإحلال المستوطن مكانها؛ ما يجعل سياسة الإنجاب في هذا السياق جزءًا بنيويًا من منطق الإحلال، لا منطق التنمية. ثم تناول ظاهرة "السياسة الإنجابية" في إسرائيل، مشيرًا إلى أنّ الأخيرة تُعدّ الدولة الأكثر استخدامًا لتقنيات الإخصاب الاصطناعي في العالم؛ إذ إنها تموّل بالكامل إجراءات أطفال الأنابيب حتى إنجاب طفلَين، في حين تُجري النساء الإسرائيليات أكبر عدد من دورات التلقيح الصناعي عالميًا. وأوضح أن التفسيرات الثقافية والدينية التقليدية، مثل الموروث التوراتي الذي يحثّ على التكاثر أو عقدة الهولوكوست، لا تكفي لفهم الظاهرة؛ إذ تتجاهل الطابع المؤسسي الاستيطاني الذي يحوّل الجسد اليهودي إلى موقع لإعادة إنتاج الأمة. فالدولة لا تشجّع التكاثر بوصفه قرارًا فرديًا فحسب، بل تدمج الإنجاب في مشروعها القومي العسكري أيضًا.

وفي هذا السياق، أشار الباحث إلى التداخل العميق بين العسكرة والسياسات الإنجابية، مستشهدًا بحملة تبرع جنود وحدات النخبة بالحيوانات المنوية خلال حرب غزة عام 2014، حيث بدأت بنوك النطف في تسويق "المتبرعين" بناءً على خلفياتهم العسكرية. وارتبطت صورة الجندي المقاتل في الخطاب الإسرائيلي بصورة "الأب الأنسب"، وجرت عسكرة الخصوبة بتقديم البطولة العسكرية مؤشرًا على التفوق الجسدي والوراثي. فالمعيار البيولوجي في هذه البنوك لم يعد الذكاء أو المظهر، بل البنوّة العسكرية الاستيطانية؛ ما يعكس اندماج الرجولة المقاتلة في تصور الخلود القومي. لكنّ اللحظة المفصلية، كما أوضح الباحث، كانت مع تصاعد ظاهرة "الإنجاب بعد الموت"؛ أي استخراج الحيوانات المنوية من الجنود القتلى خلال 72 ساعة من وفاتهم، وهي ممارسة فريدة في إسرائيل بدأت في عام 2002 وأخذت بعدًا مؤسسيًا بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، حين تحوّلت الاستثناءات القانونية إلى قاعدة؛ فقد أُتيح للأسر استخراج النطاف من أجساد أكثر من 200 جندي من دون إذن قضائي مسبق، واعتُبرت هذه الخطوة "واجبًا وطنيًا" لا خيارًا شخصيًا. وبيّن الباحث أن الأخلاقيات الحيوية اليهودية الجديدة تربط بين الاستمرارية البيولوجية والخلود الوطني، فالجسد يُعامل بوصفه مِلكًا جماعيًا للمجتمع، لا للفرد.

وأشار الباحث إلى أن هذه السياسات لا تمثّل انحرافًا مؤقتًا، بل مرحلة متقدمة من "العقد الحيوي" الذي يربط الحياة والموت بالمشروع القومي، ويحوّل الجسد الذكري إلى مادة لإعادة إنتاج الأمة. ولتأطير هذه الظاهرة نظريًا، قدّم الباحث مفهوم "الذكورة النيكرومية" Necro-Masculinity لوصف تفاعل العنف الاستعماري مع إعادة إنتاج الرجولة عبر الموت. فالحرب لا تنتهي في ساحة المعركة، بل تمتد إلى المختبر وغرف الإخصاب، حيث تُحوّل الخسارة البشرية إلى طاقة إنجابية رمزية.

أشادت الدكتورة هنيدة غانم، المديرة العامة للمركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار)، في تعقيبها، بغنى المادة البحثية وعمقها النظري، معتبرةً أن الباحث قدّم قراءة استثنائية للصلة بين الذكورة والعسكرة والسياسات الحيوية في إسرائيل، وربط بين ما هو جسدي وسياسي بطريقة مبدعة. ورأت أن ظاهرة "الإنجاب بعد الموت" تكشف عن تحوّل إسرائيل إلى نموذج قريب من "الدولة الإسبرطية" التي تمزج بين التفوق التقني والإنتاج المكثف للمحاربين. وأثارت مسألة "اليهودي العضلي" بوصفها رمزًا أشكنازيًا في الأصل، متسائلةً عن دلالات هذا النموذج في ظل التفاوتات الطبقية والإثنية بين الأشكناز والمزراحيم اليوم، وعن إمكانية وجود تدرّج عرقي حتى في بنوك النطف التي تفضّل "خميرة" جينية معيّنة على أخرى. ورأت أن هذه الممارسات تحمل أبعادًا نفسية ودينية عميقة؛ إذ تكرس فكرة "الخلود الجماعي" وتعيد تعريف الموت بوصفه فعلًا منتجًا يرتبط بالتضحية والفداء، لتستعيد بذلك إحدى ركائز السردية الصهيونية، المتمثلة في تقديم الحياة والموت قربانًا للأمة. وأشارت إلى أن "الأمومة الوطنية" التي تنتجها هذه السياسات تذيب النساء في الجسد الجماعي للدولة؛ فالأم لا تُنجب ابنًا لعائلتها، بل "جنديًا للأمة". وختمت بالتنبيه إلى ضرورة إدراج الظاهرة ضمن نقاش عالمي أوسع حول التكنولوجيا الحيوية والسياسات النيوليبرالية للجسد.

شهد السيمنار نقاشًا ثريًا شارك فيه باحثون من المركز العربي ومعهد الدوحة للدراسات العليا، تمحور حول العلاقة بين الحرب والإنجاب والتكاثر في تشكيل الدولة الإسرائيلية، ودلالات الجمع بين التكنولوجيا والطب في سياق إعادة إنتاج المشروع الاستيطاني الصهيوني.