Author Search

​أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة قطر​

السيمنار
السيمنار
ناصر أحمد إبراهيم
ناصر أحمد إبراهيم
دانة السجدي
دانة السجدي
نجلاء مكاوي
نجلاء مكاوي

​​​استضاف سيمنار المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة، يوم الأربعاء 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، الدكتور ناصر أحمد إبراهيم، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة قطر، الذي قدّم محاضرة بعنوان "رائحة النبيذ ورائحة الموت: مدخل جديد إلى قراءة الحملة الفرنسية على مصر". قدّم الباحث قراءة إثنوغرافية للحملة، مستندًا إلى دفاتر الضباط والجنود وشهاداتهم اليومية. وعقّبت على المحاضرة الدكتورة دانة السجدي، أستاذة التاريخ بكلية بوسطن والأستاذة الزائرة في معهد الدوحة للدراسات العليا.

استهلّ الباحث محاضرته بتساؤل منهجي: هل يمكن أن تُقرأ الحروب من خلال تفاصيل الحياة الصغيرة التي تشهد على هشاشة الإنسان في أوقات الحرب، بدلًا من قراءتها من خلال قرارات الجيوش والمعارك الكبرى؟ وانطلاقًا من هذا المنظور، استخدم ثنائية "رائحة النبيذ ورائحة الموت" لتفسير تجربة الجنود الفرنسيين في مصر بين عامَي 1798 و1801. فالنبيذ، كما أوضح، لم يكن مشروبًا فحسب، بل كان – فضلًا عن ذلك - رمزًا للهوية الفرنسية والوطن المفقود الذي ارتبط في أذهان الجنود بالفرح والدفء والذكريات، في حين مثّل الموت إحساسًا غامرًا عاشه هؤلاء الجنود في أثناء العطش، والحر، والسأم، والوباء، والتحرير الذي لم يتحقّق.

قرأ الباحث مذكرات الجنود بوصفها "نصوصًا وجودية" تصف انهيار الحلم الكبير لنابليون بونابرت حين اصطدم بالواقع المصري، وليس بوصفها توثيقًا عسكريًّا. فالذين رافقوا نابليون إلى مصر كانوا مفتونين ببطولاته في إيطاليا، مدفوعين بصورة القائد العبقري الأقرب إلى الأسطورة. لكنهم سرعان ما واجهوا قسوة الصحراء مرضًا وجوعًا، وبدأت عبارات السخرية والتمرد تظهر في دفاترهم: لم يكونوا يعرفون سبب مجيئهم ولا مَن يقاتلون. وقد بيّن الباحث أن الجيش الفرنسي خسر نحو ألفٍ من الجنود في إثر سَيْره بين الإسكندرية والقاهرة بسبب العطش، وأن الجنود باعوا ما عندهم ثمنًا لقليل من الماء، وأن ملامح التمرد ظهرت بعد أن علموا بأن النبيذ يُخصَّص للجنرالات وحدهم. وعندما حاول نابليون تهدئتهم أعطاهم مشروبًا كحوليًا رخيصًا بدلًا النبيذ الذي اعتادوه. ومن هنا تنشأ رمزية "النبيذ" بالنسبة إلى الباحث؛ فهو ليس شرابًا لرفع المعنويات فحسب، بل هو أيضًا دلالة على الهوية الوطنية، والتراتب الطبقي داخل المؤسسة العسكرية التي ميزت بين الجنرال والجندي حتى في أوضاع الموت والعطش.

انتقل الباحث إلى توصيف البعد الثقافي للحملة من منظور الحسّ اليومي. فقد حاول نابليون تحويل القاهرة إلى "جزيرة فرنسية صغيرة" تحاكي موطن الجنود في عاداتهم ومقاهيهم وحاناتهم ومسرحياتهم. غير أن هذه المحاولة اصطدمت بممانعة دينية واجتماعية قوية. أجرى نابليون حوارًا مع كبار مشايخ الأزهر حول السماح بإقامة الحانات داخل المدينة، محاولًا الحصول على فتوى تشرعن استهلاك النبيذ مقابل ضريبة. وأثار هذا المطلب سجالًا واسعًا بين العلماء وقائد الحملة، في إطار ما وصفه الباحث بـ "تفاوض أنثروبولوجي بين ثقافتين متناقضتين": ثقافة فرنسية علمانية ترى اللذة شرطًا للحياة، وثقافة إسلامية تعتبر النبيذ محظورًا دينيًّا. رأى إبراهيم أن هذه المشاهد تجسّد تلاقي الحضارتين في لحظة قلقٍ: لحظة دهشة المصريّ من الحداثة الوافدة، واغتراب الجندي الفرنسي عن أرض لا تُشبِهه. وهكذا تحوّلت "رائحة النبيذ" إلى شاهد على صدام الثقافات، مثلما كانت "رائحة الموت" شاهدة على مأزق الحملة الإمبريالية في بيئة لا ترحم.

وفي التعقيب على المحاضرة، أثنت الدكتورة دانة السجدي على عُمْق المقاربة وجِدّتها، معتبرةً أن قراءة الحملة الفرنسية عبر "تاريخ الحواس" تُعيد النظر إلى لحظة طالما اعتُبرت بداية الحداثة العربية. وأوضحت أن روايات الاحتلال ظلت تُقدّم هذه الحملة بوصفها "صدمة تنويرية" جاءت من أوروبا إلى الشرق، ثم كُرّست في الوعي القومي العربي على أنها بداية للنهضة أو بداية للهيمنة. لكن الباحث، بحسب رأيها، خرق هذا الإطار، ومنح الصوت للجنود - بدلًا من القادة - ولمشاعرهم الحسية التي تكشف تهافت "الحداثة الكولونيالية". وقد طرحت السجدي أسئلة منهجية عن كيفية تأويل الرموز الحسية، منها: أكان النبيذ فعلًا رمزًا قوميًّا في المخيال الفرنسي أم رابطًا اجتماعيًّا لم يتحوّل إلى رمز وطني إلّا بعد فقدانه في المنفى؟ ثم تساءلت عن أثر هذا النوع من الكتابة في إعادة تعريف الحداثة في التاريخ المصري والعربي، حين يُقرأ الماضي من منظور الجسد والمشاعر، بدلًا من قراءته من منظور السياسة والسلطة.

وقد شهد السيمنار عددٌ من باحثي المركز العربي ومعهد الدوحة للدراسات العليا وطلبته وباحثين ومهتمين من ضيوف المركز، وأعقبه نقاش ثري حول إم​كانات "التأريخ الحسّي" في إعادة تركيب الأحداث الكبرى من خلال قراءتها من أسفل، وآثار الحملة الفرنسية في مسارات التحديث السياسي والاجتماعي في البلدان العربية.