خلال جائحة فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19)، بلغت النظم الصحية حافة الانهيار؛ وفي هذا الإطار، رأت دورية حكامة للإدارة والسياسات العامة إعداد ملف خاص بموضوع النظم الصحية، وعقدت يومي 11 و12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2023، ورشة عمل بعنوان "النظم الصحية في البلدان العربية: النجاحات والإخفاقات وسبل الإصلاح"، بالشراكة مع المكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية، وشبكة البحوث التطبيقية في الصحة والبيئة والتنمية. ضمّت الورشة مجموعة من الأوراق التخصصية كشفت عن طبيعة التحديات الراهنة ومداخل الإصلاح العديدة، وأثر السياسات المطبقة في البلدان العربية، والمحددات والشروط والإشكاليات التي تحكمها.

افتُتحت أعمال الورشة بكلمة لحيدر سعيد، المشرف على الدوريات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومعهد الدوحة للدراسات العليا، أشار فيها إلى أهمية الموضوع، خصوصًا في ظل ما تتعرض له مستشفيات قطاع غزة على يد المحتل من استهداف بالدمار وفرض الحصار وحرمان الفلسطينيين المعرّضين للعدوان من حقّهم في العلاج؛ فقد وصل النظام الصحي إلى مرحلة العجز عن توفير الخدمة، وأكد سعيد أن ذلك يندرج ضمن جريمة الإبادة الجماعية. ورحب عبد الفتاح ماضي، رئيس تحرير حكامة، بالمشاركين، مشيرًا إلى أن انعقاد الورشة في هذا الوقت يؤكد الدور المهم والحيوي الذي تؤديه النظم الصحية، وأن العمل على دعمها وإصلاحها والارتقاء بخدماتها يعزز صمود المجتمعات وتنميتها. وأوضح أيهب سعد، عميد كلية الاقتصاد والإدارة والسياسات العامة في معهد الدوحة، أهمية التعاون المثمر بين المعهد والدورية والجماعة البحثية العربية، وهو تعاون انعكس على "حكامة"، وعلى جودة الإنتاج المعرفي الذي تقدّمه.

في المحاضرة الافتتاحية، قال عوض مطرية، مدير التغطية الصحية الشاملة للنظم الصحية في مكتب منظمة الصحة العالمية الإقليمي لشرق المتوسط بالقاهرة، إن جائحة كورونا دقت الأجراس منبهةً إلى ضرورة إصلاح النظم الصحية حول العالم، وبينت أهمية إنجاز أهداف التغطية الصحية الشاملة. وطرح مطرية منظور منظمة الصحة العالمية لإصلاح النظم الصحية وتنميتها عبر تضافر الجهود بين مختلف القطاعات، وصولًا إلى تحقيق التغطية الصحية الشاملة، بوصفها ملمحًا مهمًا للعدالة الاجتماعية.

وفي الجلسة الأولى التي أدارتها مروة فرج، مديرة تحرير دورية حكامة وأستاذة السياسات الصحية بمعهد الدوحة، قدّم محمد أبو زينة، الأستاذ المشارك في معهد الدوحة للدراسات العليا، ورقته المشتركة مع سميرة عواودة، الأستاذة بجامعة بيرزيت، بعنوان "توسيع التغطية الصحية في الدول العربية من خلال برامج التأمين الصحي المدعومة". وبيّن أبو زينة ضرورة تقييم البرامج الصحية المدعومة من الحكومات، في ظل تعدد المعوّقات التي تكتنف عمليات الإصلاح. ورأى أن نقص المعلومات عقبة في هذا السياق. وخلص إلى أن سياسات الدعم الحالية لا تكفي لإنجاز المطلوب من الإصلاح. وشدد على ضرورة تطوير مجال تمويل منظومة الصحة وإدارتها؛ لتحقيق التغطية الشاملة ودعم آليات تنفيذها.

ثم قدّم إسماعيل أيت باسو، الباحث في برنامج الدكتوراه في السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا في جامعة محمد الخامس، تحليلًا لمسارات تعميم التغطية الصحية بالمغرب، وتقييمًا للسياسات الحكومية في هذا المجال. وبيّن أنّ هذا التعميم يصطدم بغياب البيانات المحدثة المعرّفة بالسكان وتباطؤ عمل السجل الاجتماعي الموحد، الذي يتطلبه توزيع الدعم الموجّه إلى الفئة غير القادرة على سداد الاشتراك في التأمين الإجباري. وأوصى بضرورة تطوير حكامة التدبير المالي والإداري، مؤكدًا على أثره في تعزيز المساواة، وضمان حقوق المواطنين في الخدمات الصحية.

وفي محور الموارد البشرية، تناول أحسن زهناتي، المدير في مركز البحث في الاقتصاد المطبق من أجل التنمية، موضوع هجرة الأطباء الجزائريين إلى فرنسا، وبيّن أن معدلات الهجرة في عديد التخصصات الطبية أصبحت خطِرَة، وأن العوامل التي تدفع إلى الهجرة ينبع غالبها من النظام ذاته.

وحظي موضوع العبء الاقتصادي للأمراض باهتمام الورشة، فناقش وو تسنغ، الأستاذ المشارك في الصحة العالمية بجامعة جورجتاون، التأثير الاقتصادي لوفيات الأمهات في الأردن، خاصة مع تدفق اللاجئين. وأشار إلى أن العبء الاقتصادي الناجم عن وفيات الأمهات يظل كبيرًا، على الرغم من انخفاض معدلاته مقارنةً بالدول الأخرى. وأوصى بضرورة العمل على تحسين الرعاية والحد من هذا العبء.

في اليوم الثاني، جرت مناقشة موضوع استجابة النظم الصحية لجائحة كورونا. وفي هذا الإطار، قدّم وليد بقاش، الأستاذ المساعد في جامعة المسيلة، ورقة مشتركة مع عبد القادر بريش، أستاذ التعليم العالي في المدرسة العليا للتجارة، تناولا فيها مسألة مرونة النظامَين الصحيَّيْن في الجزائر وتونس، في مواجهة الجائحة، وذلك من خلال بحث ميداني للمستشفيات في عاصمتَي البلدين. وخلصا إلى أهمية إعادة تقييم أداء المستشفيات والخدمات الصحية وتحسينها؛ لضمان فاعلية مواجهة الأزمات الصحية في المستقبل.

وفي ورقة مشتركة مع بوحنية قوي، أستاذ العلوم السياسية والتنظيم الإداري والسياسي في جامعة قاصدي مرباح بورقلة، ناقش محمد العيد حسيني من جامعة عنابة بالجزائر، استجابة النظام الصحي الجزائري لمؤشرات الحكامة الصحية العالمية، من خلال دراسة المؤشرات من عام 1998 إلى ما بعد جائحة فيروس كورونا. واستعرض الباحثان مرتكزات الحوكمة الصحية في ظل الجوائح، وبيّنَا أهمية تعزيز أنظمة الإنذار المبكر، وإشراك المجتمع المدني، وتعزيز نظم المعلومات ودعم القرار عبر الرقمنة، وضمان تمويل مستدام للنظام الصحي؛ بما يساعده على التكيف مع الأزمات.

وتناول نور الدين حاروش، أستاذ العلوم السياسية بجامعة الجزائر، الأسباب التي حالت دون تحقيق أهداف إصلاح المنظومة الصحية في الجزائر. وخلص إلى أن مشكلة التنسيق بين النظام الوطني للصحة وفروعه من جهة، والمنظومة الصحية بوصفها قطاعًا اجتماعيًّا وباقي القطاعات الأخرى من جهة أخرى، أحدثت نوعًا من عدم الانسجام بين الصحة العامة وسائر السياسات العمومية. وأوصى بضرورة دمج الأنشطة القطاعية ذات الصلة في الاستراتيجية العامة لوزارة الصحة.

ثم استعرض حسين السوسي، الأستاذ المشارك في المدرسة الوطنية للتجارة والتسيير بالداخلة في جامعة ابن زهر بالمغرب، موضوع الابتكار والإصلاح في النظام الصحي المغربي، موضحًا إصلاحات هذا النظام، بتحليلها وفقًا للمعايير الدولية.

وفي ختام الورشة، عُقدت جلسة حول جودة الخدمات الصحية، قدّمت خلالها أميرة إبراهيم، المسؤولة عن قسم الخدمة الاجتماعية بمستشفى سموحة الجامعي للأطفال التابع لمستشفيات جامعة الإسكندرية، مداخلة حول حوكمة التنظيمات الطبية وجودة الخدمات الصحية في مدينة الإسكندرية، بمنظور مقارن بين المستشفيات الحكومية والمستشفيات الخاصة. وخلصت إلى وجود جوانب عديدة تفرض الشراكة بين القطاعات المقدمة للخدمات الصحية، سواء القطاع الحكومي، أو القطاع الخاص، أو المجتمع المدني. وأخيرًا، قدّم طارق بالحاج لطيف، الأستاذ المساعد للتعليم العالي في قسم علم الاجتماع في الجامعة التونسية، عرضًا عن السياسة الصحية في تونس وآثارها في المنظومة الاستشفائية، من خلال دراسة ميدانية شملت عيّنة من سكان أربع ولايات. وخلص إلى أهمية أن تواجه تونس تحدّيات التفاوت الجهوي في التنمية الصحية، في ظل نقصٍ حادٍّ في الموارد الطبية المختصّة، خاصة في المناطق الداخلية.

ناقشت الورشة القضايا التي تناولتها الأوراق، وتطرقت أيضًا إلى حالاتٍ وتجاربَ أخرى، عربية ودولية. وحظيت الأدوار التي تقوم بها منظمة الصحة العالمية بقدرٍ من الاهتمام في هذا النقاش، مع تشديد كثير من المشاركين على أهمية الاستفادة من المعايير الدولية ذات الصلة، والعمل على تطويرها والبناء عليها، والاهتمام بآليات تنفيذ الإصلاحات ومقترحات التطوير وقضايا الحوكمة والرقابة والمتابعة.