عقدت وحدة الدراسات الاستراتيجية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الخميس 21 كانون الأول/ ديسمبر 2023، ندوة بعنوان "الحرب على غزة: تداعيات الأمن الإقليمي والدولي"، شارك فيها سابان كارداس، أستاذ باحث في مركز دراسات الخليج في جامعة قطر، وليلى سورا، باحثة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - فرع باريس، ومحجوب الزويري، مدير مركز دراسات الخليج في جامعة قطر، وأدارها مهند سلوم، أستاذ مساعد في برنامج الدراسات الأمنية النقدية في معهد الدوحة للدراسات العليا.

في المداخلة الأولى، أشار محجوب الزويري إلى أنّ حكومات رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتعاقبة عملت حثيثًا على حرف الاهتمام عن القضية الفلسطينية، وفي هذا السياق استُدعيت إيران منذ عام 1996 على أنها تُشكّل أزمة في الشرق الأوسط، خاصةً في العلاقات العربية - الإسرائيلية. في حين تؤكد إيران في سرديتها على مركزية القضية الفلسطينية، ودورها في الدفاع عن الشعب الفلسطيني بصفته شعبًا محتلًا، ورفضها الوجود الإسرائيلي. ويُمكن القول إنّ ثمّة حربًا شخصية بين نتنياهو وإيران، إذ إنه قدّم كل خياراته السياسية في المنطقة على أساس حالة الحرب مع إيران، وشنّ حربًا استخباراتية عنيفة على طهران، فضلًا عن اغتيال نحو ثمانية علماء نوويين إيرانيين، واستهداف منشأة نطنز ومنشآت أخرى في أصفهان؛ الأمر الذي يجعل إيران تغتبط بإهانة إسرائيل عبر حركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي تدعمها، كون إضعاف إسرائيل يؤكد السردية الإيرانية.

وأضاف الزويري أنّ طهران أكّدت، خلال الحرب الدائرة على غزّة، على حق حماس في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، مع ابتعادها عن الخطاب الأيديولوجي، ودعت إلى وقف الحرب، مع السعي إلى فضح السياسة الخارجية الأميركية التي وصفتها بازدواجية المعايير. وإضافة إلى ذلك، تمكّنت من بناء علاقات دبلوماسية ورسم صورة إيجابية لها بوصفها لاعبًا في إمكانه المساعدة في حل الصراع، لا تأزيمه، خاصةً بعد نفي حزب الله علاقته بهجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. ولم يؤثر اختلاف المواقف بين طهران والرياض في العلاقات السعودية - الإيرانية. أما ما يجري في باب المندب، فيرتبط بمحاولات إيران الرامية إلى إرهاق إسرائيل والدول الداعمة لها، وقد تأخر استخدام ورقة هجمات الحوثيين في باب المندب لاعتقاد إيران أن الحرب على غزة لن تدوم طويلًا، ويشير استعمال هذه الورقة إلى أن للحوثيين القدرة على اتخاذ قرارات، وتقديم أنفسهم على أنهم لاعبون مهمون لا مجرد فاعلين ما دون الدولة أخذوا السلطة بالقوة كما يُنظر إليهم دوليًا، ويؤكد كذلك على وحدة الساحات التي تنشط فيها إيران.

أمّا ليلى سورا، فقدمت في المداخلة الثانية قراءة في السياسة الخارجية لحماس لفهم سياق هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، مشيرةً إلى أنّ حماس أبعدت نفسها تدريجيًا عن التقيّد بإملاءات الدعم الخارجي وحازت نوعًا من الاستقلالية، بعد ترسّخ اعتقادها أنّ شرعيتها لن تأتي من الدول والعلاقات الدبلوماسية ولا المؤسسة الرسمية الفلسطينية، بل من المقاومة المسلحة للاحتلال الإسرائيلي. فمع تقلّد يحيى السنوار قيادة الحركة في غزة في عام 2017، أصبح هناك تعزيز للعمل العسكري، وحاولت الحركة كسر عزلة غزة وربطها بباقي أجزاء فلسطين من خلال التعبئة للنضال المسلح، وهو ما تجلّى في معركة سيف القدس في عام 2021. ومما يؤشر على استقلالية حماس عن إيران من جهة، وعن مكتب الحركة في الخارج من جهة أخرى، تنفيذُ هجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من دون التنسيق مع أيٍ منهما. وقد بدأت هذه الاستقلالية تدريجيًا منذ عام 2000، وتعززت في عام 2006 مع سيطرة حماس على غزة وتمكنها من تنويع مصادرها الاقتصادية. ومع اندلاع الربيع العربي والخلاف بين قيادة حماس في الخارج وإيران بسبب موقفها من الثورة السورية، تمكّنت قيادة كتائب الشهيد عز الدين القسام (الجناح العسكري لحماس) في غزة من تقوية علاقتها مع طهران، ونقل القوة إلى صالح غزة على حساب مكتب الخارج الذي كان يقوده خالد مشعل. وعمومًا، يتمتع الحوثيون وغيرهم من الفاعلين في العراق وسورية وفلسطين ولبنان، الذين تدعمهم إيران، بفاعلية مستقلة، ولا يجب النظر إليهم على أنهم مجرد أذرع لها. وليس من قبيل الصدفة أن هؤلاء الفاعلين خرجوا في سياقات عملت الولايات المتحدة الأميركية على زعزعة الاستقرار فيها.

وفي ما يخص تداعيات معركة طوفان الأقصى، أشارت سورا إلى خمس نقاط. أولًا، لم تُبرز الحرب قيادة حماس في بيروت على المستوى الإعلامي فحسب، بل على المستوى العسكري أيضًا، إذ أطلقت كتائب القسّام صواريخ من جنوب لبنان. ثانيًا، سوف يقود نجاح حماس في البقاء في غزة إلى اعتراف إقليمي ودولي بها في نهاية المطاف، ويؤدي إلى انخراطها في منظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي يفيد أطرافًا دولية مثل الولايات المتحدة للخوض في نقاش معها على نحو غير مباشر. ثالثًا، أكدت الحرب على مركزية فلسطين بالنسبة إلى الدول العربية، وظهور جبهات مختلفة للحرب مع إسرائيل من شأنها تقويض سياسة إسرائيل في المنطقة. رابعًا، بيّنت الحرب فشل استراتيجية التطبيع العربي - الإسرائيلي في بناء سلام، وأظهرت محدودية إسرائيل في تقديم الدعم الأمني والاستخباري للدول العربية، إذا إنها لا تستطيع حماية نفسها في الأساس. خامسًا، بيّنت الحرب أن التزام الدول الغربية تجاه إسرائيل أصبح أكثر تكلفةً، إذ لقي انخراط الولايات المتحدة في حرب الإبادة الجماعية، مثلًا، معارضة كبيرة من الشعب الأميركي.

كانت المداخلة الثالثة لسابان كارداس، التي تطرق فيها إلى الموقف التركي من تطورات الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، مشيرًا إلى أن فهم السياسة التركية تجاه هذه الحرب الحالية يتطلب النظر في السياق الإقليمي والدولي الأوسع من جهة، والنظر في السياسة الخارجية التركية تجاه الأزمات الإقليمية تاريخيًا من جهة أخرى؛ إذ صحيح أنّ السياسة التركية غالبًا ما تكون مدفوعة من فاعلين محددين، وتحديدًا الرئيس رجب طيب أردوغان على مدار السنوات الأخيرة، إلا أنّ نهج تركيا في التعامل مع الأزمات الإقليمية يعتمد على هوية الدولة ونهجها أيضًا. فهجوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر جاء في سياق كانت فيه السردية الطاغية في المنطقة هي التطبيع العربي مع إسرائيل في سياق اتفاقيات أبراهام، وتطبيع تركيا لعلاقاتها مع بعض دول الخليج العربية من جهة، ومع إسرائيل من جهة أخرى. وقد انتقدت تركيا الفاعلين الإقليميين المنخرطين في مسار التطبيع بسبب تجاهل هذه الاتفاقيات للحل الجوهري لقضية فلسطين، واعتقاد تركيا أن من دون حل شامل للقضية الفلسطينية في إطار حل الدولتين سيبقي مسار التطبيع غير مكتمل.

وفي ظل هذا السياق، رأى كارداس أن تركيا كانت حذرة، وأبقت استجابتها تجاه الأزمة في مستوى متدنٍ، ثم صعّدت من خطابها وانتقادها المباشر لإسرائيل، وتجلّى ذلك في خطاب أردوغان، لكن مع ذلك يُتوقع أن يكون الدور المنوط بتركيا أكبر من ذلك كثيرًا؛ أي أكثر من استضافة الجرحى الفلسطينيين ومعالجتهم في المستشفيات التركية وإرسال المساعدات وإدانة إسرائيل، ولكن ليس واضحًا ما المتوقع منها تحديدًا. وبناء عليه، فإن الموقف التركي يأتي في سياق موجة التطبيع الجارية، ولا يختلف عن موقف باقي اللاعبين، خاصةً بعد حل مشكلاتها مع بعض الدول في المنطقة، وغياب المنافسة الإقليمية حول قيادة المسألة الفلسطينية في المنطقة، إذ لم ترغب تركيا في القيام بهذا الدور أيضًا، وقبلت بقمة الرياض واحترمت مسار التطبيع بعد مصالحتها مع السعودية والإمارات. ومع ذلك، سيظل التطبيع التركي - الإسرائيلي غير مكتمل إذا لم تُحلّ القضية الفلسطينية، إذ غالبًا ما تُصدّر تركيا الجانب الأخلاقي على حساب الجانب الاستراتيجي في تعاملها مع القضية الفلسطينية، على الرغم من أن العلاقات التركية - الإسرائيلية تُركّز على جوانب أكثر استراتيجية مثل الطاقة.

وقد أعقب الندوة نقاشٌ ثريّ شارك فيه باحثون وأساتذة في المركز العربي ومعهد الدوحة وطلبته، إضافةً إلى الجمهور الحاضر في قاعة الندوة وعن بُعد عبر منصات التواصل الاجتماعي، وأثيرت أسئلة عن الموقف السوري من الحرب على غزة، وسبب ضعف المواقف العربية تجاه هذه الحرب وعدم قدرتها على قطع العلاقات مع إسرائيل، واحتمالات الرد الإيراني المحتمل في حال جرى شنّ هجوم على الحوثيين، وسبب انخفاض رد الفعل التركي تجاه حرب الإبادة في غزة، ومدى تأثير تغيّر قيادة حركة حماس في سياستها الخارجية، وأثر تطبيع تركيا لعلاقاتها مع السعودية والإمارات في علاقاتها مع قوى المقاومة الفلسطينية.