بدون عنوان

اختتمت اليوم، الاثنين 14 أيار/ مايو 2018، أعمال المؤتمر الخامس للدراسات التاريخية "سبعون عامًا على نكبة فلسطين: الذاكرة والتاريخ" الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة. ركزت جلسات اليوم الثالث من المؤتمر على عرض مجموعة من المشاريع البحثية التي ينفذها المركز العربي حول فلسطين، إضافة إلى الأصداء ووجهات النظر العربية والدولية والسياق التاريخي لوعد بلفور.

فلسطين في المشاريع البحثية للمركز العربي

ناقشت الجلسة الأولى من أعمال اليوم الثالث للمؤتمر، والتي رأسها محمد جمال باروت، مشاريع بحثية مهمة ينفذها المركز العربي حول القضية الفلسطينية؛ إذ سلط الباحثون في عروضهم الضوء على مشروع الشتات الفلسطيني، إضافة إلى عرض فلسطين في المؤشر العربي 2017-2018. فقد قدم الباحث يوسف كرباج بحثًا بالمشاركة مع الباحثة حلا نوفل، ركزا فيه على النواحي الديموغرافية للسكان الفلسطينيين، وأشار كرباج إلى أن الدراسات السابقة تناولت الأبعاد السياسية والتاريخية والثقافية وجانبًا من حقوق الإنسان، في حين تركز دراستهما على تقديم أحدث المنظورات المعتمدة في دراسة السكان الفلسطينيين من ناحية النمو السكاني والهياكل السكانية، وتعمل على تحليل أعداد الفلسطينيين اليوم، مع أن الأرقام غالبًا غير مؤكدة، وفي ظل تنقلات ديموغرافية مستمرة عرفتها تجمعات الفلسطينيين؛ إذ تغطي الدراسة فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، والفلسطينيين داخل الخط الأخضر 1948، إضافة إلى فلسطينيي الشتات في دول عربية وغربية، وهنا تكمن القيمة المضافة إلى هذه الدراسة مقارنة بالدراسات السابقة. فالديموغرافيا مكوّن إستراتيجي رئيس لدى الفلسطينيين في فلسطين، وفلسطينيي 48، ونتيجة الصراع بين الاسرائيليين والفلسطينيين. وقد توصل كرباج إلى أن السنوات العشرين الأخيرة شهدت وفرة في الدراسات التي تناولت السكّان الفلسطينيين، إلا أن الدراسات الديموغرافية لا تزال محدودة جدًا، باستثناء ما يتعلّق بدولة فلسطين وإسرائيل؛ ويعود ذلك الشحّ إلى أسباب عديدة: منها أسباب سياسية، إضافة إلى تدنّي الدعم لمعاهد البحوث، والصعوبات المنهجية. ومع ذلك، تبدو مسألة تعزيز المعرفة بالفلسطينيين في العالم أجمع أساسية؛ لا في فلسطين التاريخية فحسب، بل في الشتات القريب أو البعيد أيضًا، ولا بد من اعتبارها أولوية بالنسبة إلى الفلسطينيين أنفسهم وسلطاتهم، وبالنسبة إلى المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان، ويجب تشجيع إجراء التعدادات السكانية أو المسوحات الإحصائية؛ كالمسح الذي خطّط له الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في الولايات المتحدة الأميركية، ولا بدّ من تعميمه على أماكن أخرى في العالم.

أمّا الباحثة في المركز العربي دانا الكرد، فقد استعرضت نتائج المؤشر العربي 2017-2018 تجاه القضية الفلسطينية، وأوضحت أن المؤشر العربي هو أضخم استطلاع للرأي العام العربي يجريه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بشكل دوري؛ بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي حول موضوعات عديدة سياسية واقتصادية واجتماعية، وكذلك الوقوف على اتجاهات الرأي العام حول قضايا تهمُّ المواطن العربي؛ كالديمقراطية والمشاركة السياسية، ومنها القضية الفلسطينية، وقياس مدى تغير مركزية القضية الفلسطينية، والاعتراف بإسرائيل لدى الشعوب العربية، كل عام على سبيل المثال، إضافة إلى مقارنة الرأي العام الفلسطيني بالرأي العام في باقي الدول العربية. وأكدت الكرد أن نتائج المؤشر العربي في نسخته السادسة أشارت إلى أن معظم العرب لا يوافقون على معاهدات السلام المختلفة الموقعة بين عدد من الدول العربية وإسرائيل، وينطبق ذلك على آراء المستجيبين حيال اتفاقيات أوسلو (إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية)، وكامب ديفيد (إسرائيل ومصر) ووادي عربة (إسرائيل والأردن). وأكدت الكرد أن نتائج المؤشر العربي أشارت إلى أنّ سياسات الحكومات لا تعكس الرأي العام الذي يعارض إلى حد كبير الاعتراف بإسرائيل والتطبيع معها، وأنّ الجمهور العربي، بصفة عامة، يعبّر عن معارضته لمشروع إسرائيل الاستيطاني الاستعماري العنصري، ولا يعارض إسرائيل على أسس دينية وثقافية، كما أكدت الكرد أن قضية فلسطين لا تزال مهمة بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الشعوب العربية، على الرغم من التحديات الإقليمية الأخرى.

الأصداء المحلية والعربية والدولية لوعد بلفور

بحثت الجلسة الثانية للمؤتمر التي رأسها عبد الرحيم بنحادة الأصداء المحلية والعربية والدولية لوعد بلفور. وفي حديثه عن صدور تصريح بلفور في فلسطين وجوارها خلال الفترة 1917-1919، أشار الباحث جوني منصور إلى أن الاعتقاد في تلك الفترة، ولا يزال، في بعض الأوساط الأكاديمية والسياسية يرى أن العرب لم يعلموا بالتصريح إلا متأخرًا، وأنّ ردودهم جاءت متأخرة نتيجة ذلك. لكن ما بيّنته الوثائق والوقائع الميدانية أنّ العرب علموا بصدور التصريح خلال أيام قليلة جدًّا بعد صدوره، وكانت لهم ردود فعل متباينة بين من كان مستعدًا للمهادنة والملاينة، ومن كان معترضًا، لعلمه اليقيني بسلبياته مستقبلًا. وبيّن منصور في مداخلته أنّ أطرافًا فلسطينية وعربية علمت بالتصريح، وامتلكت قدرة على تحليل الأحداث وفهمها جيّدًا، إلا أنّ مساعي بريطانيا لاحتواء العرب وإقناعهم بأهمية المنظمة الصهيونية ودورها في فلسطين والشرق، وضرورة التعاون معها، أثّر في وضع العرب خطة إستراتيجية موحدة لمواجهة المشروع الاستعماري الصهيوني القائم على تحالف بريطاني – صهيوني.

واختتم الباحث صالح الشورة الجلسة ببحث تطرق فيه إلى المعالجة الصحفية لتصريح بلفور، وذلك من خلال رصد المواقف الثابتة والمتحولة في الجرائد العربية الفلسطينية التي كانت تصدر في فلسطين مع بداية إعلان التصريح بشكله الرسمي سنة 1920 حتى هبّة البراق عام 1929، ومن بينها "جريدة فلسطين"، وغيرها من الجرائد الفلسطينية التي رافقت الفترة الزمنية المدروسة، وعلى سبيل المثال لا الحصر: "جريدة الجامعة العربية"، و"جريدة الكرمل"، و"جريدة لسان العرب"، باعتبارها وجهات نظر مختلفة. واختتم الشورة مداخلته بأن الخط الصحفي الفلسطيني حافظ على صيغة الاحتجاجات الصحفية على التصريح، وبقي يدور في فلك الأقلام المسالمة، واكتفى بتقديم معالجات صحفية موسومة بالخجل، لا تختلف في نهجها عن النهج الذي دفع في اتجاه الدعوة إلى الحراك السلمي ونبذ العنف.

وعد بلفور: وجهات نظر عربية ودولية

كانت وجهات النظر العربية والدولية حول وعد بلفور وأثره في هجرة الفلسطينيين من وطنهم، إضافة إلى الطرح الإسرائيلي لمشروعية بلفور وشرعيته في الرواية الإسرائيلية، عند المؤرخين الإسرائيليين الكلاسيكيين والجدد، من القضايا الرئيسة التي بحثها المؤتمر في الجلسة الثالثة التي ترأسها ناصر سعيدوني.

أشار الباحث عبد القادر القحطاني حول أثر وعد بلفور في الفلسطينيين إلى أنه منذ صدور وعد بلفور نشطت الحركة الصهيونية بالتعاون مع سلطات الانتداب البريطاني على فلسطين، وعملت على تهجير اليهود من بلدان العالم إلى فلسطين، وفق خطة مبرمجة للاستيلاء على أرض فلسطين، وإرغام الفلسطينيين على الهجرة من بلدهم. وأشار القحطاني إلى أن بريطانيا تعهدت بإنشاء الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وكان آرثر بلفور وزير خارجية بريطانيا أكثر المتحمسين لهذا المشروع؛ إذ كان أثناء مناقشة مسألة الانتداب على فلسطين في مجلس العموم البريطاني يصرح قائلًا: "الصهيونية سواء كانت عادلة أم لا، حسنة أم سيئة فهي متجذرة في تقاليد قديمة، ولها أهمية أكبر من رغبات ومعتقدات 700 ألف عربي يقطنون هذا البلد العريق".

وبشأن الحركة العربية في المشرق ووعد بلفور، رصد الباحث فتحي ليسير ردود فعل زعماء الحركة العربية وأبرز الفاعلين والهيئات السياسية العربية على وعد بلفور غداة إعلانه وبُعيد ذلك، علاوة على رصد خلفيات رعاية الإنكليز للاتصالات بين قادة الحركة العربية وأبرز الزعامات الصهيونية آنئذ. يُضاف إلى ذلك تعقّب تطورات المواقف وردود الأفعال وفق التقلبات الفلسطينية والعربية والبريطانية والدولية. ويرى ليسير أن الحركة العربية أثناء الحرب العالمية الأولى تجسدت فيما يمكن أن نسمّيه بشيء من التجوّز "الجيل الثاني" من القادة العرب. وهو الجيل الذي يعدّ من إفرازات "بروتوكول دمشق"؛ ذلك الحلف الذي نشأ بين الهاشميين في الحجاز وطائفة من رجال الحركة القومية العربية في الشام والعراق، في أيار/ مايو 1915. وأضاف ليسير أن هذا البروتوكول أتاح لشريف مكة الحسين بن علي وأبنائه الأربعة، وخاصة فيصل وعبد الله، وكذا نفر من السياسيين السوريين المقيمين في مصر، تزعّم الحركة العربية والدفاع عن مصالح العرب ما وسعهم ذلك.

أمّا الباحث محمد حاتمي، فقد سلط الضوء في بحثه على السياسيين الإسرائيليين الذين أجمعوا على اعتبار وعد بلفور صكًا قانونيًا دوليًا، يدشن مسلسل إصباغ الشرعية على المشروع الصهيوني، والإقرار بحق اليهود في إنشاء دولة عصرية مستقلة، وممارسة السيادة على أرض فلسطين. ويرى حاتمي أن هذه الأطروحات التبريرية ظهرت في كتابات المؤرخين الإسرائيليين رواد المدرسة الكلاسيكية. لكن في المقابل يشير حاتمي إلى بروز جيل جديد من المؤرخين الذين يؤطرون أنفسهم في خانة "المؤرخين الجدد"، ساعد في إعادة قراءة الظروف التي أحاطت بإصدار وثيقة بلفور.

السياق التاريخي لوعد بلفور

ناقشت الجلسة الأخيرة من أعمال اليوم الثالث للمؤتمر، والتي رأسها عبد الحميد هنية، ثلاثة جوانب مهمة تجمع بين السياق التاريخي وصولًا إلى الأحداث الراهنة، مع التركيز على الحقوق المدنية في الانتداب وانتهاءً بمسيرة العودة الفلسطينية. قدم الباحث منير فخر الدين بحثًا في مسألة الأرض خلال فترة الانتداب البريطاني على فلسطين، وقدم الباحث في مداخلته قراءة جديدة لإطار الانتداب بوصفه مشروع بناء كيان اجتماعي - سياسي ثنائي العرق/ القومية، ومولّدًا لصراعات، ذات ملامح بنيوية محددة، حول معنى الحقوق المدنية والجمعية والسيادة. وسلّط فخر الدين الضوء على موضوع الاستمرار والانقطاع في تاريخ ملكية الأرض والسيادة، خلال أواخر الحكم العثماني والانتداب والسياق الاستعماري الإسرائيلي بعد النكبة. واختتم فخر الدين بالحديث عن موضوع الفاعلية السياسية الفلسطينية في ظل الانتداب، وتقاطعات الأدوار والتصورات النخبوية الوطنية والشعبية وتبايناتها بشأن مسألة الحقوق في الأرض والسيادة لدى الفلسطينيين.

أمّا الباحث الهادي جلاب، فتناول سياق النشاط الصهيوني في تونس 1917-1919، وأشار إلى أن تونس كانت عند صدور وعد بلفور مستعمرة فرنسية، وكانت تعاني تبعات ذلك الاستعمار وتأثيرات الحرب العالمية الأولى، وفي هذه الظرفية وعندما كانت الحرب على أشدّها أصدر بلفور وعده. وأضاف جلاب أن الوعد يمثّل نقطة تحوّل في نشاط الحركة الصهيونية، وأن سنة 1918 تكثف فيها النشاط الصهيوني بتونس. واختتم جلاب مداخلته برصد المصالح الإدارية والأمنية الفرنسية بتونس ونموها وتنسيقها للعمل بين الجمعيات الصهيونية بتونس ونظيراتها بالدول الأخرى. وأضاف أن اليهود هم الذين استفادوا من الحرب العالمية الأولى، بينما دفع التونسيون والفرنسيون المقيمون بتونس ثمنًا غاليًا لتلك الحرب، وذلك نظرًا إلى نهب عدد من المتاجر وتخريبها بتونس وسوسة والقيروان وصفاقس وباجة، وغيرها من المدن التونسية.

اهتمت آيات حمدان بمسيرة العودة الفلسطينية. وأشارت إلى أنّ وعد بلفور والنكبة، بصفتهما حدثين مؤسسين في الذاكرة الفلسطينية، تحولَا اليوم في ذكرى إحيائها إلى نماذج للتعبئة والاحتجاج، في محاولة لتأكيد حق الفلسطينيين في رفع الظلم التاريخي الذي وقع على الشعب الفلسطيني نتيجةً لهذين الحدثين. ورأت حمدان أنّ هذين الحدثين أضحيَا طابعًا فلكلوريًا نتيجة الخطاب الرسمي الفلسطيني الذي بدأ بالانزياح في الرواية التاريخية الفلسطينية وتأسيسها في إطار الاحتلال عام 1967؛ بما يخدم واقع حل الدولتين وما يسمّى عملية "التسوية". وبيّنت حمدان أنّ هذين الحدثين عملَا على مأسسة الذاكرة الفلسطينية، من خلال تشييد أماكن جديدة "للذاكرة"؛ كالمتحف الفلسطيني، الذي أسهم في تشييء الذاكرة في المكان.