بدون عنوان

الجلسة الرابعة- المسار "ب"
الجلسة الرابعة - المسار "د"
الجلسة الخامسة - المسار "أ"
الجلسة الخامسة - المسار "ج"
الحضور في إحدى الجلسات
الجلسة الخامسة - المسار "د"
الجلسة السادسة - المسار "أ"
الجلسة السادسة - المسار "ب"
الجلسة السادسة - المسار "ج"
الجلسة السادسة - المسار "د"
المشاركون في إحدى جلسات اليوم الثاني من المؤتمر

تواصلت أعمال مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية الذي يعقده المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في دورته السابعة بالدوحة في يومه الثاني، الأحد 24 آذار/ مارس 2019، بتقديم 23 ورقة بحثية في أربعة مسارات متوازية، تناولت قضايا منهجية متعددة، تتعلق مجالات فلسفية وإبستيمولوجية وسوسيولوجية ولسانية وتاريخية وغيرها.

المسار الأول: منهج المنهج والبيوسيميائية ومقاربات لمنهج بشارة

في الجلسة الأولى من المسار الأول للمؤتمر في يومه الثاني، سعى عبد الرزاق بلعقروز في مداخلته "منهج المنهج في مُكاشفة القول الفلسفي علميًا: من مضمون الفلسفة إلى أدوات التّفلسف" لبسط إشكال الوسيط المنهجي في تلَحُّظ القول الفلسفي ومكاشفة العناصر النظرية والعملية التي تدخل في بنائه. وتبنّى في مقاربته الوسيط المنهجي العلمي في صورته اللسانية، لأنه نَظَر إلى الفلسفة من خارج، وليس التحامًا معها من الداخل، ومعلوم أن النّاظر من الخارج يبصر ما لا يبصره الساكن في الداخل، ومن ثمّ لفت انتباه المتفلسف العربي إلى قيمة نظامه اللغوي وفلسفته الطبيعية، وأهمية استثمارهما في تزويد متونه بأعمدة القول الفلسفي الإبداعي التي منها المقوّم اللغوي، والمقوّم الاستعمالي، والمقوّم البياني، وفتح القول الفلسفي على أدوات العلوم الاجتماعية، وبناء منهج الحوار الجدلي بين المعارف، والأكثر من ذلك هو تأسيس العلوم الاجتماعية على مقولات المنهج العلمي الذي جرى تطبيقه في الفلسفة.

أما محسن التومي ومداخلته "بناء المعنى في المقاربات الكيفيّة: مقدمة في نقد البراديغم الوضعي"، فقد رام فيها تبويء مسألة المعنى مكانةً مركزية ضمن المناهج والمقاربات النوعية، على اعتبار أنه سواء تعلّقت هذه المناهج بتحليل المضمون أو بالتنظير المتجذّر أو بالملاحظة المشاركة أو بالمحادثة المباشرة أو بالسيرة الذاتية، تبقى المعاني التي يعطيها الفاعلون الاجتماعيون لأفعالهم والدلالات التي يبنونها حول السياق، مداخل ضرورية لتفسير الظاهرة وفهمها. وهي تفتح نوافذ جديدة واعدة تؤكد جدارة المنعرج ما بعد الوضعي الذي بات غالبًا على العلوم الإنسانية منذ منتصف القرن الماضي، بقدر ما تطرح من إشكاليات وإحراجات خاصّة من جهة نمط المعقولية العلمية الجديدة التي تقترحها بديلًا، وما تثيره من مظانّ حول أقانيم العلمية التقليدية ومعاييرها العامة؛ وهو يعني بذلك منزلة هذه العلوم الإنسانية النوعية بين المحلية والكونية.

ثم خصّت مداخلتا الجلسة الثانية من المسار ذاته بعض الجوانب المنهجية عند المفكر العربي عزمي بشارة، أولها مداخلة حمادي ذويب "المنهج التاريخي النّقدي في الفكر العربي المعاصر: كتاب ’الدّين والعلمانيّة في سياق تاريخي‘ نموذجًا" التي سعى الباحث من خلالها للنظر في مبررات دراسة المنهج التاريخي النقدي من خلال كتاب "الدين والعلمانية في سياق تاريخي"، والتركيز على بعض مقومات المنهج التاريخي التي لاحظنا تواترها في هذا الكتاب؛ ومنها التحول الذي يتماهى مع مفهوم التاريخية عند بعض الباحثين المعاصرين على غرار محمد أركون. كما توقف ذويب أيضًا عند مفهوم التطور في الكتاب موضوع الدراسة ‏باعتبار أنه لا يتمثل في تتبّع التطور التاريخي للأحداث والأفكار، وإنما يركز على أهم التحولات التي حدثت أثناء التطور وأثرت فيه، وسعى لإماطة اللثام عن ماهية التطور لدى بشارة وعلاقته بمفهوم التمايز.

أما مداخلة سهيل الحبيّب التي صبّت في الاتجاه نفسه، "في تحليل إشكالية العلاقة بين المفهوم النظري والمعطيات الكمية في فهم الظاهرة الاجتماعية: الظاهرة الدينية في السياق العربي الراهن، بين مفهوم ’نمط التديّن‘ عند بشارة ومعطيات ’المؤشر العربي‘ نموذجًا"، فاشتغلت على نحو متداخل بمفهوم "نمط التديّن" كما صاغه المفكر العربي عزمي بشارة في كتابه "الدين والعلمانية في سياق تاريخي" من جهة، ومعطيات كمّية حول الشأن الديني في البلدان العربية يتضمنها "المؤشر العربي" الذي يصدره المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من جهة أخرى. والغاية من ذلك هي اعتماد أنموذج متعين لمقاربة إشكالية العلاقات التي يمكن أن تقوم بين مفهوم نظري عقلاني، تحليلي وتفسيري، ومعطيات كمية في سياق محاولة فهم الظاهرة الاجتماعية.

وفي الجلسة الثالثة من هذا المسار، سعى محمد عبد النور في مداخلته "الفصل والوصل بين الإنساني والطبيعي في علم الاجتماع ومكانة المقاربة البيوسيميائية"، من جهته لاستكشاف ظهور العلاماتية الحيوية (البيوسيمياء)؛ بوصفها نموذجًا إبستيمولوجيًا تاليًا ومتجاوِزًا لنماذج الوعي واللغة والعلامات، وبحثًا لانعكاسها على النظرية الاجتماعية، من خلال تتبّع علاقة فكرة التطور التي ظهرت في ميدان البيولوجيا بعلم الاجتماع انطلاقًا من هربرت سبنسر، وصولًا إلى إدوارد ولسون؛ إذ لم يتجاوز الأمر في البداية مجرد التشبيه بين الوجود الاجتماعي والكائن العضوي حتى انتهى إلى حقيقة الارتباط العضوي الفعلي والمباشر بين التركيب الجيني الوراثي للإنسان وسلوكه الاجتماعي، مع ما رافق ذلك من تحول في الخلفيات الأيديولوجية والدوافع السياسية للأنثروبولوجيا، التي تحوّلت من ممارسة استعمارية توطّد فكرة التفوق العرقي والعنصري، إلى فكرة التطوير التي تعيد الاختلافات الثقافية إلى العوامل البيئية التي تطبع الجغرافيا العالمية وتشكّل سببًا رئيسًا في التنوع الاجتماعي البشري.

المسار الثاني

غلبت على المسار الثاني المناهج التاريخية، واستهلّه، في جلسته الأولى، علي الصالح مُولى بمداخلته "’جغرافية‘ الحقل التاريخيّ في ضوء تقاطع الاختصاصات: محاولة في إعادة تشكيل المفهوم"، محاولًا الإجابة عن سؤال ما حظّ الأكاديميا العربية من كسب معركة تجديد مناهج تطوير المعرفة وبناء أنساقها خارج سلطان الكتابة التقليدية؟ واقترح مُولى، إجرائيًّا، علم التاريخ حقلًا للإجابة عن هذا السؤال، وتوسّل في ذلك بمقاربات ثلاث: مقاربة تاريخية مَرجعية عُنِيَت بمدرسة الحوليّات والآفاق التي فتحتها أمام منهج تقاطع الاختصاصات، ومقاربة تأصيلية استكشافية عُنِيَت برصد نشوء حالة وعي عربي بضرورة تجديد مناهج البحث التاريخي، ومقاربة تجريبية تطبيقية عُنِيَت بإمكانات الكتابة العربية المجدّدة.

المقاربة المنهجية التاريخية هي ذاتها التي تبنّاها زهير سوكاح في مداخلته "حقل ’دراسات الذاكرة‘ في العلوم الإنسانية والاجتماعية: اهتمام غربي وإهمال عربي"، خاصًا بالدرس والتحليل مجال "دراسات الذاكرة" في ميادين العلوم الإنسانية والاجتماعية؛ وهو حقل بحثي وأكاديمي يتعاطى، عبر مقاربات "بين-تخصصية"، مع التصورات المجتمعية للماضي الجمعي بأدوات منهجية "بين-تخصصية"، جرّ إليه اهتمامًا علميًا عابرًا التخصصات، لكن من دون أن يصل صداه على النحو المطلوب إلى الممارسة البحثية والأكاديمية في المنطقة العربية. وبيّنت المحاضرة أن حقل دراسات الذاكرة هو ميدان شاسع بسبب تداخل عدد كبير من العلوم الاجتماعية والإنسانية المتواشجة فيه؛ إذ صار من الصعب الإحاطة بإنتاجاته البحثية حاليًا؛ وأنه في مقابل هذا الاهتمام الغربي، نجد شبه انفصال عربي عن هذا الميدان يشي بالتأخر الحاصل للبحث العربي، وقد قدّم منهجياته في العلوم الإنسانية والاجتماعية مقارنةً بمحيطه الدولي.

في الجلسة الثانية من هذا المسار، مقاربةٌ أصيلة، سعى من خلالها عبد الحميد هنية، ومداخلته "التجديد في الكتابة التاريخية عبر منهج ’أهلنة‘ المعرفة"، للمساهمة في إيجاد ظروف التجديد في الكتابة التاريخية على أساس "أهلنة" المنهج، تمزج في ذلك بين وجهة نظر تنظيرية وأخرى تطبيقية. والهدف هو المساهمة في تأسيس منهج تاريخي مستقل نابع من الداخل العربي. والمنطلق في ذلك هو كيف نفهم مجتمعاتنا ونحللها تحليلًا سليمًا يُمَكِّنُنَا من تخطي المعارف المتميزة بطابع المركزية الإثنية الغربية التي لا تكشف بصورة سليمة عن مجتمعاتنا، بل هي في أكثر الحالات تمنعنا أصلًا من فهمها بطريقة مُثلى.

في حين تأسّست مداخلة إبراهيم القادري بوتشيش، "منهج التأويل الرمزي لقراءة التاريخ: نحو إشراك قارئ النص التاريخي في إنتاج دلالاته؛ تشخيص نظري وتطبيقي"، على مراجعة سؤال المنهج التاريخي من خلال فرضيتين؛ أولاهما فحص مدى صحة التفكير في ماضي الإنسان كحيوان رامز ومنتج لتاريخ علاماتي - إشاراتي لا يقرأ باللغة المتداولة، إنما يفهم بالعلامة والإشارة، ويبوح بما تختزنه الذاكرة البشرية من مشاعر وعقليات متوارية، أما ثانيتهما فهي محاولة جسّ نبض فكرة إشراك القارئ/ المؤرخ في إعادة إنتاج النص التاريخي عبر إقامة حوار معه، ومع ظرفية إنتاجه، بغية إعادة بنائه بناءً جديدًا، وهو ما يمكن إنجازه من خلال توظيف منهج التأويل الرمزي. وقد عمد المؤرخ إلى تطبيق منهج التأويل الرمزي على طقوس احتفالات البيعة في تاريخ المغرب الراهن، وتحليلها؛ لا كمشهد فرجوي، بل كنصّ غير مكتوب، وكنمط من أنماط الفعل الرمزي، لاستخراج شحناتها الدلالية، ومصادر متخيّلاتها، ومعانيها الثاوية، فاستقى – اعتمادًا على مقولة "التاريخ الفعال" لغادامير – دلالات مجموعة من الرموز المتولّدة من رحم ماضي المغرب وحاضره، ومن الهوية الإنسانية في بعدها الكوني.

وتواصلت أعمال مؤتمر العلوم الاجتماعية والإنسانية في سبر المناهج التاريخية، استأنفها في الجلسة الثالثة طارق مداني بمداخلته "المؤرخ والمقاربات الكمية: حول الدراسات الديموغرافية لبعض الحواضر الإسلامية؛ عرض أطروحات وإثارة تساؤلات"، من خلال عرض بعض مناهج إحصاء ساكنة بعض المدن الإسلامية عبر التاريخ، من خلال عدد من الدراسات العربية والغربية. وقد استند إلى المنهج الكمي، وإلى بعض النظريات الديموغرافية، وسعى لتفعيل النصوص القديمة واستنباط الإشارات الإحصائية المتفرقة فيها، فضلًا عن توظيف الاستنتاج الرياضي المرتبط بمساحة هذه الحواضر وعدد منشآتها العامّة، باعتبارها مؤشرات دالّة على دينامية عدد السّكان.

ثم ختم رفعت رستم الضيقة بمداخلته "المنهجية العابرة للتخصصات في أعمال ليفي ستروس وجاك لاكان: دراسة في الاستعارات المنهجية ومستويات التحليل" هذا المحور الثاني من اليوم الثاني للمؤتمر، من خلال العودة إلى مقاربة ليفي ستروس الأنثروبولوجية للمنهجية العابرة للتخصصات في أعمال حول الفكر الأسطوري وأعمال جاك لاكان التحليلية النفسية المتعلقة بتكوين سيكولوجيا الذات.

المسار الثالث: مساءلة المناهج اللغوية واللسانية

استهّل المسار الثالث في الجلسة الأولى عبد الرحمن بودرع، ومداخلته "أهمية ’لسانيات النص وَتَحليل الخطاب‘ في معالَجَة القضايا الاجتماعية"، بمساءلة أعمال المؤتمر للمناهج اللغوية واللسانية عبر سعيٍ حثيث لمجاوزة الفرق بين المباحث التي تعتمد النظريات الاجتماعية المجردة عن كل تحليل نصي أو خطابي، إلى ذلك التركيب المنهجي الذي يقدّم رؤيةً تحليليةً نقديةً للقضايا الاجتماعية من خلال ما يتكلّم به الناس وما يكتبون؛ على اعتبار أنّ كل ممارسة اجتماعية أو فعل اجتماعي أو ظاهرة أو قضية مما يحدثه الناس في مجتمعاتهم، إنما هو أمرٌ ينطلق من بناء ثابت يدعى "نظام الخطاب". ولبيان أهمية تحليل الخطاب النقدي للنصوص المكتوبة، اهتم الباحث بمقاربتين نظريتين من "لسانيات النص وتحليل الخطاب" في معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية: أولاهما "المقاربة المعرفية الاجتماعية السياسية: التحليل النصي للخطاب الاجتماعي السياسي"، وثانيتهما "الأنساق الذهنية التصورية أساسًا لإنتاج النصوص وتحليل الخطابات". وانتهت المداخلة إلى تأكيد أنّ عالم النص والخطاب اللساني معادلٌ موضوعي لعالم الأفكار والمفاهيم المنعكسة عن عالم الواقع.

وقد أبرز من جهته محمد غاليم في مداخلته "الأنموذج المعرفي إطارًا لاندماج علوم الطبيعة والمجتمع: بحث في وحدة المنهج وترابط الموضوعات" أنّ العلوم الطبيعية والمعرفية تشهد في العقود الأخيرة تطورات تحقق نتائج متقدمة تهمّ مجالات علمية متعددة؛ مثل العلوم التطورية النفسية والاجتماعية، وعلوم الحاسوب، وعلوم الفيزياء، والعلوم العصبية، وعلوم الأحياء الخلوية والجزيئية، إضافةً إلى علوم الوِراثيات والأناسة الأحيائية واللسانيات المعرفية، وغير ذلك من العلوم. ما يتيح نقلةً نوعية في فهم العلاقات الرابطة بين الظواهر التي تبني هندسة الجنس البشري الوظيفية القائمة على مختلف قدراته الطبيعية والمعرفية والإدراكية التي تدرسها العلوم المذكورة ومثيلاتها. ومن ثمّ، تناول الباحث بالتحليل طبيعة هذا الاندماج ومسوّغاته من خلال درسه وحدة العلوم المنهجية وترابط موضوعاتها، وإبراز شبكة الترابطات السببية و/ أو العضوية التي كشفت، وتكشف عنها، مكتسبات العلوم المعرفية المعاصرة بين موضوعات مختلف العلوم المادية والذهنية.

وانتقلت أعمال المؤتمر في الجلسة الثانية من هذا المحور إلى تناول إشكالية مناهج اللغات القديمة والمصطلحات القديمة. وأبرز في هذا الصدد محمد مرقطن ومداخلته "حول منهجية دراسة تاريخ اللغة العربية المبكر واللغات السامية عند الباحثين العرب" أن دراسة تاريخ اللغة العربية في العالم العربي منهجية تقليدية محافظة تستخدم مصادر الموروث اللغوي العربي فحسب، ولا تراعي دراسة السياق التاريخي واللغوي العام، ولا تأخذ في الحسبان المصادر الأصلية التي دُوّنت بها المرحلة الأولى للغة العربية، أي نقوش الجزيرة العربية قبل الإسلام إلّا على نحو محدود. ومن ثمّ عكف الباحث على إبراز أهمية نقد منهجية دراسات اللغة العربية وتأريخها عند الباحثين العرب، وكذلك منهجية البحث العلمي عندهم لدراسة اللغات السامية من أجل تصحيح المسار العلمي.

وقد عدّ الذهبي اليوسفي في مداخلته "إشكاليّة المنهج في الدّراسات المصطلحيّة: مناهج البحث في المصطلح النّقديّ القديم أنموذجًا" المنهج والمصطلح من المفاهيم الأساسية في الدراسات المصطلحية حديثًا، وأنهما من أشكل المسائل النقدية المطروحة في الدرس المصطلحي اليوم، نظرًا إلى قيمة المصطلح في إنتاج المعرفة العلمية في شتّى مجالات البحث، وهو ما يفضي، مبدئيًّا، إلى نتائج علمية مدارها البناء المتصوّري للمصطلح النقدي القديم. ثم بيّن الباحث ما إذا كان هذا الضرب من المناهج قد استوفى شروط البحث في المصطلح النقدي القديم، أم هل تبقى خصوصية هذا المصطلح في حاجة ماسّة إلى مناهج علمية أخرى.

وقد اكتست المداخلتان الأخيرتان في هذا المحور في الجلسة الثالثة صيغةً لسانيةً محضة. فقد أدرج مصطفى غلفان مداخلته "المنهج في اللسانيات العربية: تجاذب قراءة التراث ومعالجة اللغة العربية" في سياق إبستيمولوجي يروم مساءلة المنهج المتبع في خطاب اللسانيات العربية الحديثة مقايسةً بالمنهج المتبع في اللسانيات العامة، ورصد طبيعة المنهج وخصائصه في جزء مهم من الكتابات التي تشكل تيارًا قوي الحضور في الدرس اللساني العربي الحديث، يؤسس خطابه على قراءة الفكر اللغوي القديم، لغةً ونحوًا وبلاغةً، في ضوء اللسانيات، ليتحول موضوع البحث في اللسانيات عربيًا إلى فحص للعلاقة بين التراث اللغوي العربي واللسانيات، والقول باحتوائه النظريات ومناهج البحث التي جاءت بها اللسانيات. وخلص الباحث إلى تبيان أنّ ما يُنجز ضمن ما يُسميه البعض "لسانيات" لا يراعي، إلا في حالات نادرة، متطلّبات المعرفة العلمية الدقيقة؛ فهي لا تتقيد بأسس العلم، ولا بخلفية العلوم الإنسانية، ولا بمبادئ اللسانيات ذاتها، بوصفها نشاطًا تحليليًا لبنيات الألسنة الطبيعية. واللسانيات، باعتبارها علمًا إنسانيًا، لا تتقيد عربيًا بجوهر المنطلقات الإبستيمولوجية للعلوم الإنسانية؛ إذ لا تحترم خلفيتها الفكرية، ‏‏ولا تراعي فلسفتها العامة القائمة على ‏اعتبار أنّ الإنسان، بسلوكه ‏ومؤسساته ‏وقيمه ‏وتنظيماته، ‏من الموضوعات‏ ‏القابلة ‏للدرس‏ والتحليل.

واشترك معه حسين السوداني بمداخلته "أثر اللسانيات في مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية" في مقاربته هذه، فرأى أن سؤال المنهج في الفكر المعاصر يختصر ثنائية حديةً، طرفاها: العلمي وغير العلميّ، حتى إنّ السؤال يغدو مكثفًا بضمنيات معيارية قد تؤول بضرب من الدَّور إلى الإخراج من دائرة العلم والعلميّة نفسها؛ فالحكم بغير المنهجية نظير الحكم بعدم العلمية، واشتراط منهج معيّن هو في الجانب العميق منه إقصائيّ. وفي هذا الإطار، أبرز الباحث أثر اللسانيات في مناهج العلوم الاجتماعية والإنسانية، وذلك انطلاقًا من الوضع الإبستيمولوجي للسانيات التي أوجدت لها مسالك إلى مختلف الحقول المعرفية فيما أصبح يعدّ من خانة تضافر الاختصاصات.

المسار الرابع: النسوية والجندر والمناهج الاقتصادية

في الجلسة الأولى من هذا المسار، أبرز هاني خميس عبده في مداخلته "النسوية ونقد الاتجاه الوضعي في البحث السوسيولوجي: قراءة في الأطر المنهجية البديلة" أنّ أنصار المدخل النسوي يشيرون إلى أن الاتجاه الوضعي لا يتناسب مع البحث السوسيولوجي، إضافةً إلى التشكيك في قابلية تطبيق مناهج البحث المحايدة، أو الكمية والخالية من القيم، وكذلك الدعوة إلى إعادة النظر في مفهوم الموضوعية نفسه في الاتجاه الوضعي. وفي ضوء ذلك، اعتمد الباحث على استخدام أسلوب التفكيك، وإعادة قراءة الدراسات والأبحاث العلمية السابقة ذات الصلة بالموضوع من أجل القيام بالتحليل؛ للتعرف إلى السياقات التي أدت إلى أهمية مراجعة الاتجاه الوضعي، وكذلك تناول البدائل المنهجية التي طرحت من جانب أنصار المدخل النسوي، بدءًا من اختيار موضوعات بحثية، ومرورًا بأدوار الباحثين، وانتهاءً باستخدام طرق وأدوات منهجية.

وفي الجلسة الثانية من هذا المسار، انطلقت سامية إدريس بمداخلتها "المجتمع بوصفه نصًا: مقاربة إبستيمولوجية لثلاث دراسات عربية" من لحظ المشهد المتجانس لإبستيمولوجيا العلوم الاجتماعية والإنسانية التي تزخر بحركية ثرية، قوامها تفاعلات واستبدالات وقطائع ترجع بذورها إلى المراحل الأولى لنشأة هذه العلوم، خصوصًا ما يتعلق منها بعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا. واختارت الباحثة ثلاثة مؤلَّفات لتستطلع من خلالها مدى ملاءمة المدخل التأويلي في العلوم الاجتماعية والإنسانية لإخراج علم الاجتماع العربي من أزمته القديمة - الجديدة، وهي: "السيميولوجيا الاجتماعية" لمحسن البوعزيزي، و"الشيخ والمريد: النسق الثقافي للسلطة في المجتمعات العربية الحديثة" لعبد الله حمودي، و"الجنس والحريم روح السراري: السلوكات الجنسية المهمشة في المغرب الكبير" لمالك شبل، لتخلص إلى أنّ الرهان الحقيقي يظلّ متعلقًا بالتكوين النوعي للباحثين في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية، وتوفير قدر من الحرية الفكرية التي هي شرط كل التزام معرفي، وشرط تشكّل رؤية مستقلة لباحث مثقف.

في حين سعت أمل عادل عبد ربه في مداخلتها "الدراسات الإثنوغرافية المؤسسية واستكشاف الواقع الاجتماعي: مقاربة إمبيريقية لدراسة دوائر المعرفة المصرية" لتقديم مقاربة إمبيريقية جديدة لعلم الاجتماع المعاصر تضع ضمن أولوياتها دراسة العالم من وجهة نظر الفاعلين الممارسين للحياة اليومية، من خلال الاعتماد على الإثنوغرافيا المؤسسية، وبعدها تمثل منحًى منهجيًا إثنوغرافيًا يعمل على تقديم فهم جديد للواقع الاجتماعي، من خلال التركيز على رؤية الممارسين للحياة اليومية وفهمهم، ودراسة الواقع الاجتماعي من وجهة نظر الفاعلين داخل هذا الواقع الاجتماعي، في محاولة لأنسنة علم الاجتماع في عالمنا العربي. وانطلقت المداخلة من فرضية أساسية تسعى من خلالها لفهم كيفية تأسيس بعض النصوص المكتوبة "السياسات التنموية القومية" لشكل من أشكال المعرفة السلطوية، والتي تحدّد أنماط العلاقات الحاكمة في نسق الحياة الاجتماعية للتنظيمات المؤسسية، ولكنها في الوقت ذاته تتحدد بناءً على محفزات يفرضها الواقع الاجتماعي ذاته، والزخم الاجتماعي المصاحب له، في علاقة تأثير وتأثر متبادلة.

أما المداخلتان الأخيرتان في هذا المحور، في الجلسة الثالثة، فقد اكتسى كل منهما صبغةً اقتصادية وصبغة سياسات عامة. فتناول إبراهيم المرشيد في مداخلته "أي منهجية لتجسير الهوة بين الأبحاث في العلوم الاجتماعية وصنع السياسات العامة في العالم العربي؟" موضوع البعد المنهجي لظاهرة الفجوة بين الأبحاث الاجتماعية وصنع السياسات العمومية في العالم العربي، وكشف عن وجود عدة عوامل متشابكة ساهمت في هذا الوضع، أهمها غياب الثقة بين الباحثين وصنّاع القرار، والتبعية المنهجية، وغياب ثقافة تقييم الأبحاث العلمية، وضعف الشجاعة الفكرية والأخلاقية لدى الباحثين، وضعف الإقبال على استعمال التعدد والتكامل في المقاربات، وغياب ثقافة تحرير النواتج الإعلامية المحددة الهدف. وأوصى الباحث بضرورة الاعتماد على أربع وصفات ذات طابع منهجي، من أجل تعزيز التنسيق والتقارب بين مخرجات الأبحاث الاجتماعية وصنع السياسات العمومية في العالم العربي، هي مراجعة أساليب الأبحاث الاجتماعية وأنماطها، ووضع آليات عملية لتبسيط وتسويق مخرجات الأبحاث وتقريبها من صنّاع السياسات العمومية، وتشجيع ثقافة الأبحاث التشاركية المُندمجة التي تُنجزها فرق متكاملة من الباحثين الاجتماعيين وصنّاع السياسات العمومية، وأخيرًا بناء إطار منهجي يساعد في إدراك الدور الذي يمكن أن تقوم به الأبحاث الاجتماعية من حيث التأثير في السياسات العمومية. ويتكوّن هذا الإطار من أربعة عناصر رئيسة، هي: السياق العام للأبحاث، والأدلة، والروابط، والأخلاق.

وأخيرًا، استند جمال طرابلسي في مداخلته "النهج الاستنتاجي بوصفه بديلًا للنهج الاستقرائي في التحليلات الاقتصادية المعاكسة" إلى موضوعين رئيسَين؛ هما التطرق إلى فلسفة النمذجة غير النظرية وتقييم مجالات تطبيقها في التحليل المعاكس، وفاعليتها في دراسات تأثير سياسات التحفيز والتثبيت في نظام الاقتصاد الكلي. وفي حين عَدّ هذه المقاربات المنهجية غير النظرية غنية جدًا لأنها تسمح بالتقييم والقياس، باستخدام العديد من السيناريوهات المعاكسة، لتأثير السياسات في نظام الاقتصاد الكلي، فإنه جمع بين الأسس الإحصائية والاقتصادية، وقدم الحلول للمشكلات التي نواجهها في نماذج الاقتصاد القياسي الكلاسيكي، مقترحًا نهجًا يجعل من الممكن تغطية الفرضيات الاقتصادية المنبثقة من عدة نظريات اقتصادية، ومبرزًا أنّ هذا النهج يصعب تطويره في النماذج الاستقرائية.