صورة من إحدى جلسات مؤتمر الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستينعقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدورة التاسعة لمؤتمر الدراسات التاريخية يومي السبت والأحد 28 و29 أيار/ مايو 2022، في الدوحة. وخصصت أعمال المؤتمر لبحث موضوع "الثورة الجزائرية في ذكرى انتصارها الستّين: إعادة قراءة لمسارها، ومكانتها، وما تراكم من سرديات عنها"، وشارك فيه نخبة من الباحثين والأكاديميين المتخصصين في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر. وتناولت أوراقهم البحثية مواضيع عن الآفاق الفكرية للثورة الجزائرية، ومناحي الفاعلية المحلية للثورة واستحضار روايات الفاعلين فيها، إلى جانب موضوعات عن الاستقبال الإقليمي والدولي للثورة، في محيطها العربي والمغاربي، أو لدى المستعمر الفرنسي

قدّم المؤرخ الجزائري، ناصر الدين سعيدوني، محاضرة افتتاحية بعنوان "تأملات في الثورة الجزائرية في ذكراها الستين"، حاول فيها تقصي الكيفية التي أثّرت بها الثورة الجزائرية في محيطها العربي والإسلامي، والمُكنة التي اقتدرت بها هذه الثورة على تخطي إطارها المحلي واكتساب بُعد عالمي وإنساني، وكذلك الطريقة التي شكّلت الثورة الجزائرية، باعتبارها ظاهرة تاريخية تندرج في الزمن الطويل وليس حدثًا حربيًّا محدودًا زمنيًّا، حصيلةً للتاريخ الجزائري المعاصر، ومشروعًا تحرريًّا توّج المقاومة الشعبية الجزائرية، ووحّد الشعب الجزائري وجنّده، وصاغ المجتمع الجزائري المعاصر الذي وُلد من التحدي والمآسي. أضف إلى هذا الطريقة التي تفاعلت بها قيم الأصالة والانتماء الحضاري والأفكار التقدمية والحداثية في الثورة الجزائرية، لتشكل القاعدة الصلبة التي قامت عليها الدولة الجزائرية المعاصرة. وقد حاول الباحث تقديم إجابات عن الكيفية التي وظّفت بها الثورة الجزائرية تناقضات المجتمع الاستعماري، وتعاملها مع المعارضين والمتعاونين مع الاستعمار، والأدوات والأساليب التكتيكية والاستراتيجية التي اعتمدتها لتحقيق أهدافها. وتساءل: أكانت الثورة الجزائرية حرب استقلال أم ثورة تحرير؟ وبأي كيفية طرحت مسألة السلطة والشرعية بعد الاستقلال؟ وكيف تحوّلت إلى مشروع تنمية؟ وهل أعطت الكتابات التاريخية الجزائرية والعربية والأجنبية للثورة الجزائرية حقّها بصفتها ظاهرة تاريخية فريدة؟

تناولت الجلسة الأولى من اليوم الأول جوانب من الآفاق الفكرية للثورة الجزائرية. واستُهلت بورقة للزواوي بغورة عنوانها: "الثورة الجزائرية من منظور الفلسفة الاجتماعية". عرج فيها الباحث على الخطاب الرسمي الجزائري، الذي عمد إلى حصر الثورة الجزائرية في المناحي العسكرية والحربية فقط. في حين أن المتأمل الحصيف للأمر يحذق بما لا يدع مجالًا للشك بأن هناك مندوحة في أمر الثورة الجزائرية، لا يدان لنا باختزالها في المجال العسكري الصرف، فهي عملية شديدة التعقيد سواء من جهة التجربة السياسية السابقة عن الثورة، أو عناصرها التكوينية والبنيوية، أو طرائقها وأساليبها في الكفاح، أو في آثارها وأبعادها وآفاقها، وقبل هذا وذاك، نوعية الفاعلين الاجتماعيين القائمين بها. وتناولت ورقة نور الدين ثنيو، "الثورة الجزائرية في الزمن الطويل"، محاولة للاجابة عن سؤال مركزي: لماذا لم تخمد لحظة ثورة الفاتح من نوفمبر، رغم مرور ستين سنة على استقلال الجزائر في عام 1962؟ حيث ما تزال إلى يوم الناس هذا تلقي بظلالها على العلاقات بين الجزائر وفرنسا.

أما الجلسة الثانية من اليوم الأول، فقد شارك فيها مصطفى كيحل بورقة بعنوان "أي أفق أيديولوجي للثورة الجزائرية؟ "، هدفت إلى التركيز على المناحي الأيديولوجية التي كانت وراء الثورة الجزائرية، والروح الناظمة لها والمسلك الذي تنتظم فيه تحولاتها ومنعطفاتها الكبرى، من منطوق أنه لا توجد ثورة بلا نسق ثوري وبلا أيديولوجية ثورية تمهد لها وترافقها في مسيرتها. أما الباحث ياسر درويش جزائرلي، فأكد في ورقته "الثورة الجزائرية: نشأة نقد الاستشراق وميلاد صراع الحضارات"، أن سنوات الثورة الجزائرية شهدت نشأة فكر نقدي يحرر الشعوب المستعمرة من التصور الذي نسجه المستشرقون عن هذه الشعوب، والذي كان جزءًا من سياسة الاستعمار.

تأثيرات الثورة الجزائرية في مجالها العربي

وفي موضوع ذي صلة بالثورة الجزائرية في الفضاء العربي، جاءت أعمال الجلسة الثالثة ، حيث قدم بلال شلش ورقة بعنوان "إذا هبّت الشعوب انتصرت: تفاعل فدائيي فلسطين مع الثورة الجزائرية (1954-1967)"، حاول فيها استكشاف روح الثورة الجزائرية التي بثت في فدائيي فلسطين، على مستويين: أول فكري، متعلق بالفكر السياسي الذي تبنته هذه المنظمات؛ وثانٍ مادي متعلق بأثر الوجود الفلسطيني المبكر في الجزائر، في مسيرة المنظمات الفدائية الفلسطينية عمومًا، وخصوصًا حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح"، وانعكاس هذا الوجود المادي على الفعل العسكري لهذه المنظمات لحظة انطلاقاتها الأولى (1965-1967)، وانطلاقتها الثانية بعد حرب حزيران/ يونيو 1967. وقدم صالح أبو الخير ورقة بعنوان "تفاعل النخب الليبية مع الثورة الجزائرية: دور عبد الحميد بك درنة في دعم الثورة"، ركز فيها على الأسباب التي أدت إلى اختيار الملك إدريس للزعيم عبد الحميد بك درنة لمهمة دعم الثورة الجزائرية، مبينًا الجهود الكبيرة التي بذلها هذا الأخير في دعم ثورة الجزائر، وعلاقته بزعماء الثوار الجزائريين. أما جمال برجي، فكانت ورقته بعنوان "تفاعل الثورة الجزائرية مع محيطها المغاربي (1954-1958)"، وقد تطرق فيها إلى القراءات المتعلقة بمواثيق الثورة الجزائرية.

شهد اليوم الثاني من المؤتمر تقديم ثماني أوراق بحثية، توزعت على أربع جلسات. خُصصت الجلسة الأولى لموضوع "الثورة الجزائرية برواية فاعليها". استهلت الجلسة فاطمة الزهراء قشي بتقديم ورقة بعنوان "عن منهجية تدوين شهادات الفاعلين المحليين في الثورة الجزائرية"، أبرزت فيها منزلة الشهادة الشفوية والتجربة الفردية في النضال والثورة في كتابة تاريخ هذه "الملحمة"، بطريقة تقربنا أكثر إلى الموضوعية في التناول. وفي الموضوع نفسه، قدّم أحمد صاري، ورقته "الثورة الجزائرية ما بين القطيعة والتواصل: قراءة في شهادات ومذكرات بعض الفاعلين"، وقد تناول فيها الجدلية التي أفرزتها الثورة، وتتعلق بمفهومَي القطيعة والتواصل: أكان الانتقال إلى العمل المسلح في أول نوفمبر 1954 قطيعة مع الماضي، أي مع الأحزاب السياسية الفاعلة آنذاك، أم كان استمرارية لهذه الأحزاب، ولا سيما التيار الاستقلالي منها؟

وخصّصت الجلسة الخامسة في المؤتمر، لموضوع "الثورة الجزائرية في الذاكرة الفرنسية"، وقدم فيها مسعود ديلمي ورقة عن "إشكالية التأريخ لحرب الجزائر وذاكرتها في فرنسا"، وتطرق فيها إلى موضوع الكتابة التاريخية والذاكرة الفرنسية عن حرب الجزائر بوصفها ظاهرة تفاعلية، فشرح سياقات مسارها الذي فرضته تناقضات المجتمع الفرنسي، وأهم توجهاتها، ومراحلها، وصداها وتأثيراتها في الإنتاج التاريخي العلمي. بعده، قدّم خالد منّه ورقة بعنوان "من الإنكار إلى ’الحادثة التي لا تُغتفَر‘: ضحايا تظاهرات 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961 في انتظار الاعتراف"، سلّط فيها الضوء على تظاهرات المهاجرين الجزائريين في فرنسا يوم 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961، والقمع الذي سلط عليهم، وذهب ضحيته مئات القتلى.

أما أحمد بو سعيد، فقدّم ورقة عنوانها "فرق المهاري الصحراوية: رهان فرنسي لتقويض الثورة الجزائرية"، خصصها لتناول موضوع مهم عن أشهر الوحدات العسكرية الصحراوية التي أنشأها الاستعمار الفرنسي بالصحراء الجزائرية، لمساعدته في التوغل إلى أعماقها.

أما الجلسة الثالثة من اليوم الثاني، فقد خصصت لموضوع "جوانب من الفاعلية المحلية للثورة الجزائرية". قدّم الورقة الأولى عبد السلام كمون بعنوان "إشكالية الصراع بين السياسي والعسكري إبان الثورة الجزائرية"، ناقش فيها إشكالية داخلية مهمة مست الثورة الجزائرية، تتمثل في الصراع بين السياسي والعسكري. وقد حاول الباحث استعراض الكيفية التي عالج بها المؤرخون في الجزائر هذه الإشكالية.

أما الباحث عمر بوضربة، فقدّم ورقة عنوانها "معركة التدويل: استراتيجية جبهة التحرير الوطني لتدويل المسألة الجزائرية في الأمم المتحدة (1954-1961)".

وخُصّصت الجلسة الأخيرة في المؤتمر لتناول موضوع "التلقي الأميركي للثورة الجزائرية"، وقُدّمت فيها ورقة بحثية لمحمد مزيان وعنوانها "حرب التحرير الجزائرية في التقارير الدبلوماسية والكتابات الأكاديمية الأميركية: بين إشكالية الرؤية الموضوعية وتبرير المواقف"، وقد تناول فيها بالتحليل الموقف الأميركي من حرب التحرير الجزائرية، اعتمادًا على وثائق وزارة الخارجية الأميركية وعلى بعض الدراسات الأكاديمية الأميركية.