من محاضرة فيصل أبو صليب عن القبلية السياسية في الكويتاستضافت وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ضمن برنامج محاضراتها الشهرية، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الكويت وعضو المجلس الاستشاري في الوحدة، فيصل أبو صليب، الذي قدّم محاضرةً بعنوان "القبلية السياسية في الكويت"، وذلك يوم السبت 11 أيار/ مايو 2024، وأدارها الباحث عبد الرحمن الباكر.

استهلّ أبو صليب محاضرته بالتأكيد على أهمية بحث الدور السياسي للقبيلة في الكويت، والعوامل التي أدّت إلى تحوّل القبائل من الموالاة للحكومة إلى المعارضة السياسية. وشدّد على أنّ اختيار الكويت حالةً لدراسة القبلية السياسية يرجع إلى أنّ درجة الحرية السياسية هناك عالية نسبيًا، إضافةً إلى تحوّل دور القبلية إلى دور اجتماعي وسياسي معًا. وأوضح الباحث أنّه يستخدم مفهوم القبلية ليشير إلى الدور السياسي أو السلوك السياسي للقبائل في المجتمع الكويتي، وأنّ ما يميز دراسته للقبلية من كتابات سابقة هو بحثه الميداني في داخل المجتمع القبلي في الكويت.

استخدم المحاضِر مصطلحَي "البدو" و"القبائل" بوصفهما مصطلحين مترادفين، في مقابل الحضر، الذين هم أبناء أولئك الأفراد الذين عاشوا داخل مدينة الكويت وأحفادهم. وجادل بأنّه إذا كانت القبائل البدوية غير موجودة في المجتمع الكويتي بمفهومها التقليدي، فإنّها ما زالت حاضرة في الكويت على المستويين الاجتماعي والسياسي. أما البدو فهم أولئك الذين أتوا غالبًا بعد ظهور الطفرة النفطية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، ممّن لديهم انتماءات أو ولاءات مستمرة لقبائلهم، ويرجع معظمهم إلى قبائل من مناطق الجزيرة العربية. وإلى جانب الشعور المعنوي بالانتماء، لدى هؤلاء أيضًا اندماج فعلي في الجسم القبلي عبر التضامن والتفاعل مع البيئة القبلية على مختلف المستويات.

وأشار إلى أنه لا توجد إحصاءات ديموغرافية رسمية تميّز البدو من الحضر، غير أنّ هناك عددًا من المعايير الأساسية للتمييز بينهم في الكويت، أوّلها هو قانون الجنسية لعام 1959، الذي نصّ على أنّ أيّ شخص استمر في الوجود قبل عام 1920 في الكويت هو كويتي بالتأسيس، أمّا من أتى بعد ذلك فهو كويتي بالتجنُّس. وتبعًا لذلك، حصل كثيرٌ من أفراد المكونات القبلية على الجنسية اليوم عن طريق التجنيس. ومع ذلك، حاجّ أبو صليب بأنّ الحدود الاجتماعية بين البدو والحضر هي نتاج لحاجز ذهني تراكم على مدى فترات زمنية طويلة بين أبناء الحضر الذين يسعون للحصول على ميزات اجتماعية بوصفهم مواطنين أصليين تميزهم من أبناء القبائل والبدو.

أمّا المعيار الآخر للتمييز فيتمثل في الوجود في المناطق الداخلية والخارجية، ويرتبط ذلك بسور الكويت الذي بُنِيَ عام 1920 وكان يعيش داخله الحضر. وبعد هدم السور في بداية الخمسينيات، انتقل أهل الكويت من المدينة إلى مناطقَ قريبة من السور، باتت تسمّى اليوم "المناطق الداخلية"، أما المناطق الخارجية فهي تلك التي يتركز فيها أبناء القبائل البدوية. وهناك معيار آخر للتمييز وهو اللهجة المحلية المختلفة بين أبناء الحاضرة والبدو، إضافةً إلى بعض مظاهر الثقافة المحلية.

طرح أبو صليب عددًا من المتغيّرات السياسية التي ساعدت في زيادة عدد أبناء القبائل والتجنيس، منها أزمة عبد الكريم قاسم لعام 1961، الذي طالب بضمّ الكويت بعد أن أعلنت استقلالها من بريطانيا، وهي أزمةٌ استمرّت حتى عام 1963. خلال هذه الفترة، حصلت متغيّرات في داخل الكويت، منها وضع الدستور عام 1962، وتأسيس ركائز دولة مدنية، فزاد تبعًا لذلك عدد السكان الكويتيين وعمليات التجنيس، ولا سيما من أبناء البادية والقبائل العربية المحيطة بمدينة الكويت. وطرأ عامل سياسي داخلي أيضًا خلال الستينيات والسبعينيات، حيث رغبت الحكومة في أن يكون لها حليف سياسي داخل البرلمان لمواجهة المعارضة السياسية، فكانت القبائل هي الحليف الأمثل، وحصل ما يسمَّى مجازًا عملية "التجنيس السياسي"، التي كوّنت من خلالها الحكومة حليفًا لمواجهة المعارضة القومية أو التقدمية. وهكذا باتت القبائل هي الحليف الاجتماعي والسياسي للسلطة في الكويت.

وأكّد الباحث أنّه على الرغم من شيوع فكرة أنّ القبيلة ليس لها خبرة في المشاركة السياسية، فإنّ السوسيولوجيين يرون عكس ذلك؛ فالشورى مثلًا متجذّرة في القبيلة، وكذلك حرية الرأي والتعبير والبراغماتية والمرونة والتكيُّف مع الوضع الراهن وشيء من الممارسة الانتخابية، وما إلى ذلك. لذلك، عندما أتت القبائل إلى الكويت، كان لديها سلوك انتخابي ملحوظ، فشاركت في الانتخابات بفاعلية وبنسبٍ مرتفعة. ومنذ مجلس الأمة الأول عام 1963 وصولًا إلى الثمانينيات، كان أعيان القبائل هم المرشّحين التقليديين بالنسبة إلى القبيلة في الكويت؛ ويرجع هذا إلى صلاتهم الوطيدة بالسلطة السياسية، واحترام الهرمية القبلية. وهكذا، برز "نوّاب الخدمات" من أعيان القبائل، أي الوسطاء بين الناخبين والحكومة أو السلطة السياسية؛ وذلك نتيجة الفكرة السائدة التي ترى أنّ المؤسسات البرلمانية هي طريقة للحصول على الميزات والمنافع.

وأضاف أبو صليب أنّ أحد أهم المتغيّرات التي عزّزت موالاة القبيلة للحكومة هو صعود المدّ الديني في المنطقة، والثورة الإيرانية، وما تزامن معها من الحرب في أفغانستان وأحداث الحرم المكّي، وهو ما كان له تأثير في الكويت ودور القبيلة السياسي. فعندما علّق النظام السياسي في البلاد العمل بالدستور عام 1976 وحلّ المجلس حلًا غير دستوري، تحالفت الحكومة مع التيارات والتنظيمات الإسلامية، لا سيما السنّية، وبالتحديد مع الإخوان المسلمين، لمواجهة المعارضة من التيارات غير الإسلامية، وصولًا إلى عام 1981 الذي عاد فيه مجلس الأمة، حيث شارك السلفيون في انتخابات ذلك العام. كانت هذه التيارات السنّية المحافظة تتغلغل في المناطق القبلية بسبب طبيعتها المحافظة، فوجدت السلطة فيها وعاءً مناسبًا للتنسيق والتعاون.

وتمثّلت بداية التحوّل في الدور السياسي للقبيلة داخل الكويت في اتجاه المعارضة السياسية في مجلس الأمة عام 1985، الذي شهد وصول التنظيمات الإسلامية إلى المناطق القبلية، ووصول نوّاب مثل مبارك الدويلة الذي ينتمي إلى قبيلة الرشايدة، وكان في الوقت نفسه مرشّحًا من الإخوان المسلمين. إنّ حدوث هذا التحوّل من خلال عضو يمثّل قبيلةً وتيارًا إسلاميًا دينيًا لا شكّ في أنّه البذرة الأولى لهذا التحوّل السياسي. وحصل التعطيل الثاني لمجلس الأمة، عام 1986، ونتج منه حراكٌ سياسي معارض بدأ من عام 1989-1990. وجرت في ذلك الوقت تجمّعات دواوين الإثنين للمطالبة بعودة الحياة النيابية والعودة إلى العمل بالدستور الكويتي، وكان يجريها في كل مرة أحد أعضاء المجلس المنحلّ كل يوم إثنين. وشاركت القبائل في هذا الحراك السياسي المعارض. وأدّى وصول التجمعات إلى مناطق قبلية، مثل الجهراء، إلى تعامل السلطة معها على نحو تعسّفي، فقد كانت تعتبر هذه المناطق حليفةً للحكومة.

بعد تحرير الكويت وعودة مجلس الأمة في تشرين الأول/ أكتوبر 1992، جرى تحوّل آخر نحو المعارضة بحسب أبو صليب، أهم مؤشّراته بداية اختفاء شيوخ القبائل في مقابل ظهور جيل جديد غيّر المعادلة داخل القبيلة في الانتخابات، حيث شكّلوا رموزًا في المعارضة السياسية، مثل مسلم البراك. وقابل ارتفاع نسبة التعليم بين شباب القبائل في التسعينيات شعورٌ متنامٍ بالتهميش والإقصاء وغياب العدالة الاجتماعية، على نحو أبرز الصوت المعارض في الانتخابات البرلمانية. أمّا المتغيّرات الخارجية فتمثّلت في تغيّر النظام الدولي وظهور العولمة والتبشير الليبرالي ونشر الحرية والديمقراطية. وقد تأثّرت الكويت بهذه المتغيّرات.

جرى تعديل قانون الانتخاب، عام 1994، ما أتاح لأبناء المتجنسين المولودين بعد تجنّسهم المشاركة في الانتخابات، وهذا أبرز جيل جديد داخل القبائل، ومنهم من انتمى إلى تياراتٍ دينية. وفي بداية الألفية الجديدة، مع تطوّر وسائل التواصل الاجتماعي، كان لذلك أثرٌ في شباب القبائل، فظهر عام 2005 حراكٌ شبابي من أبناء القبائل رفع نداء "نبيها خمس [نريدها خمسة]" ينادي بتعديل الدوائر الانتخابية من 25 دائرة إلى خمس دوائر. وصادف عام 2006 منح المرأة حقوقًا سياسية، ومن ثم، دخول المرأة من المكوّن القبلي، لا سيما الفتيات في الجامعات، ما غيّر من السلوك السياسي ومخرجات العملية السياسية.

ورأى الباحث حصول تحوّل في العلاقة بين السلطة والقبائل بدءًا من عام 2009 إلى 2014، تمثّل في ظهور حراك سياسي معارض داخل الكويت. وكان معظم من شاركوا فيه من شباب القبائل. وهذا مؤشر على تنامي السلوك السياسي المعارض داخل القبائل، تمظهر في محاربة الحكومة للانتخابات الفرعية التي كانت القبائل تنظّمها قبل كل انتخابات رسمية. وصادف ذلك بداية ظهور قضية مزدوجي الجنسية التي ارتبطت داخل الكويت بأبناء القبائل. وظهر، عام 2012، مرسوم الصوت الواحد لتعديل قانون الانتخاب، وأتى بعده حراكٌ سياسي واسع، حمل اسم "كرامة وطن"، شاركت فيه القبائل على نحو واسع، حيث قاطعت القبائل الكبيرة انتخابات عام 2012، ثمّ عادت للمشاركة في مجلس الأمة لعامَي 2016 و2020. ويرى أبو صليب أنّ هذا يرجع إلى براغماتية القبلية في الكويت، التي استطاعت التكيُّف مع قانون الصوت الواحد. واستمرّت أزمة عدم الثقة التي بدأت منذ عام 2009، رغم عودة المشاركة السياسية للقبائل.

واختتم الباحث محاضرته بتدعيم مقولاته بنتائج الاستبانة الميدانية التي أجراها على عيّنة مكوّنة من 696 فردًا من أبناء القبائل، هدف فيها إلى بحث توجّه القبائل للسلوك المعارِض في الكويت، والدوافع التي دفعتهم إلى ذلك، وإذا ما توافرت دلالة إحصائية بين التوجّه السياسي المعارِض من جهة وعوامل رئيسة مثل الشعور بالتهميش والإقصاء، والاستهداف الإعلامي وما إلى ذلك، من جهة أخرى. ووجد أبو صليب نِسبًا عالية من أفراد العيّنة ممّن شعروا بكل العبارات التي تتضمن الاتفاق مع أجندة المعارضة، والشعور بالتهميش والإقصاء والعجز والحرمان من العدالة الاجتماعية وانعدام المساواة، وتعمّد الشبكات الإعلامية تشويههم والتشكيك في وطنيّتهم. واتفقت نسبة كبيرة منهم على أنّ الانتخابات البرلمانية في مجلس الأمة هي الوسيلة الفعّالة لتحقيق النفوذ في المجتمع السياسي، وأنّ القبيلة توفّر لأفرادها الحماية الاجتماعية والسلطة السياسية.

ولخّص الباحث العوامل التي كانت وراء تحوّل القبائل من الموالاة إلى المعارضة، بزيادة نسبة التعليم، ودرجة الوعي السياسي لأبناء الجيل الجديد، والمدّ الديني وأدلجة القبيلة، وشعور أبنائها بعدم المساواة وضرورة تحقيق العدالة الاجتماعية وتساوي الفرص. وقد أفضى هذا، في نظر أبو صليب، إلى شعور المكوّن القبلي بالاغتراب والعزلة السياسية، ما جعل نسبة كبيرة من أبناء القبائل أشدّ التصاقًا بالقبيلة، في مقابل ضعف علاقتهم بالدولة، وهو الأمر الذي يمكن أن يؤثّر في الأمن الاجتماعي داخل الدولة.

شهدت المحاضرة إقبالًا وتفاعلًا واسعَين، فطرح عددٌ من الحضور تساؤلاتهم حضوريًا عن محاور عدّة، من قبيل الحاجة إلى وجود إطار قبلي للفعل السياسي، والتحوّل من الموالاة إلى المعارضة وتهديده للنظم السياسية في دول الخليج، والمشاركة السياسية للبدو بوصفها سمة فردية أو جمعية قبلية، والعصبية القبلية، وتوظيف الحكومة للقبيلة سياسيًا، وغيرها.