ندوة "المثقف الخليجي تكوينًا ومسارًا"نظّمت وحدة دراسات الخليج والجزيرة العربية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع وزارة الثقافة القطرية، على هامش الدروة 33 من معرض الدوحة الدولي للكتاب، ندوةً عنوانها "المثقف الخليجي تكوينًا ومسارًا"، استضافت فيها الكاتب والأكاديمي البحريني، نادر كاظم، والكتاب والإعلامي العُماني، محمد اليحيائي، يوم الخميس 16 أيار/ مايو 2024، وأدارها الباحث القطري عبد الرحمن الباكر. وجاءت الندوة تلبيةً لاهتمام الوحدة بفهم تكوّن فئة المثقفين في بلدان الخليج العربية وأدوارهم في تطوّر المنطقة، وصلتهم بالمجال السياسي والاجتماعي، وهو الموضوع الذي يغيب عن الأجندة البحثية لدراسات الخليج.

قدّم نادر كاظم المداخلة الأولى في الندوة، وتحدّث فيها عن مسار تكوّن المثقف في الخليج منذ القرن التاسع عشر، وعرض إطلالة سريعة على المحطات الأساسية في هذا المسار. ولاحظ أنّ هذا المسار لم يكن واحدًا في كل بلدان الخليج، التي لكل منها خصوصيتها في هذا الأمر، تحكمت فيها ظروف كل بلد، ونظام التعليم فيها، والمؤثرات الخارجية التي سبقت في هذا البلد أو تأخرت في بلد آخر، مع الأخذ في الاعتبار أنّ مسار تكوّن المثقف الخليجي لم يكن بمعزل عن المثقفين في حواضر المشرق العربي الأساسية، مثل بغداد والقاهرة وبيروت ودمشق.

وجادل كاظم بأنّ تاريخ المثقف الخليجي مرّ بأربع محطات أساسية، امتدت الأولى منها من أواخر القرن الثامن عشر، واستمرّت حتى أواخر أربعينات القرن العشرين، وشهدت نشوء المثقف الخليجي النهضوي التنويري والحديث العصري، حيث تلقّى هؤلاء المثقفون تكوينهم العلمي في بيئات التعليم التقليدية والدينية والكتّاب، بينما تلقّى بعضهم تعليمًا أكثر حداثةً في الهند. وحاول هذا الجيل من المثقفين الانعتاق من الثقافة التقليدية، والتواصل المباشر مع الثقافة الحديثة، ويرجع إليه تكوين المؤسّسات الأولى التي احتضنت النهضة والتنوير في بلدان الخليج، بينما كان اهتمامه بالسياسة ضئيلًا، فركّز على إنشاء المؤسّسات الثقافية وإصلاح المجتمع، وليس الدولة، ظنًا منه أنّ الإصلاح من أسفل سيؤدي في نهاية المطاف إلى إصلاحٍ من أعلى.

أمّا المحطة الثانية، بحسب كاظم، فجاءت بعد نكبة العرب في فلسطين عام 1948. وهنا، تكوّنت الجمعيات المنخرطة في الكفاح المسلّح، بدءًا من القوميين العرب والجبهات التي تعاقبت فيما بعد. وكانت للبحرين وعُمان تجربة خاصة، وقد تكوّن فيهما المثقف الراديكالي من شعراء وموسيقيين وفنانين وغيرهم، وكانوا كوادر أساسية وفاعلة في الحركات السياسية. وقد دفع غالبية هؤلاء أثمانًا، وقضوا في المنافي لسنوات. وكان هذا المثقف، على نحو ما يرى كاظم، غارقًا في السياسة حتى الرأس، وغرضه ليس إصلاح المجتمع، بل التغيير السياسي الذي سيؤدي إلى تغيير المجتمع. وشهدت سبعينيات القرن العشرين أوج هذا المثقف، الذي طالب بالتغيير الشامل على كلّ المستويات.

ثم ذهب المثقّفون في مسارين في المحطة الثالثة بحسب كاظم، الأولى هي انكفاء كوادر هذا الجيل في الثقافة الانعزالية، أي تقديم الشعر من أجل الشعر، والموسيقى من أجل الموسيقى، والفن من أجل الجمال. وفي أواخر السبعينيات، جرى ذلك تحت وقع كثير من التطورات، منها ثورة ظفار، وصعود التيّار الديني، وتوسُّع قوة الدولة في المراقبة والمعاقبة. أمّا المسار الثاني فقد بدأت تظهر تباشيره من بداية السبعينيات فصاعدًا، ويشمل المثقفين الآتين من بيئة الجامعة الخليجية التي بدأت تتأسس في تلك الفترة. وهذا هو المثقف الأكاديمي، الذي على الرغم من أنّ خلفيّته قد تكون ثورية، فإنه انخرط لاحقًا في الدرس والأكاديمية، فهو مثقف منخرط في الشأن العام، ولكن عن طريق الأكاديميا. ويرى كاظم أن هذا النوع من المثقف لم يكن معنيًا بالموضوع السياسي، بل بالوصف والتحليل والتفسير النظري والنقدي. واستمر هؤلاء إلى أواخر التسعينيات.

وفي المحطة الأخيرة التي شرحها كاظم، بدأ بالظهور مجتمعٌ سائلٌ في أزمنة سائلة من الصعب تشخصيها تشخيصًا دقيقًا وواضحًا، ولكن له مؤشرات، وظهر فيه المثقف المستقيل مع صعود وسائل التواصل الاجتماعي، وتراجعت البيئات التي كانت حواضن المثقفين الخليجيين سابقًا، وصعود دور يكاد يخنق الأنفاس للدولة وأجهزتها، إلى درجة أنّ معظم البيئات الثقافية باتت تحت إشراف الدول، كما شهد ارتهان الثقافة بقيمة السوق.

ثم قدّم محمد اليحيائي مداخلته، التي رأى فيها أنّ عُمان تُشكّل ثقافيًا حالة خاصة ومختلفة باختلاف تاريخها وقدم المجتمع والدولة فيها؛ وهي البلد الوحيد الذي يسبق فيه المجتمعُ الدولةَ. وجادل بأنّ في تكوين الحالة الثقافية في عُمان ثلاثة عناصر تأسيسية. العنصر الأوّل هو الإباضية، التي يرى اليحيائي أنها ليست مذهبًا من مذاهب الإسلام فحسب، إنّما هي في تأسيسها حركة سياسية قامت على مبدأ التمرُّد على مركزية الدولة، ومنشأها أيضًا فكري ثقافي. ويرى أن هذه الحركة الفكرية الثقافية في الإباضية هي في نسيج الوعي العُماني.

أمّا العنصر الثاني فهو جغرافي، يتمثل في انفتاح البلاد على البحر من جهة، وكونها محمية بالجبال من جهةٍ أُخرى، وانفتاحها على صحراء الربع الخالي من جهةٍ ثالثة. وفي حين يبدو للناظر من بعيد أنّ الإنسان العُماني منعزل، فإنّ للجغرافية دورًا آخر في عُمان بعد عام 1650؛ إذ تمددت الأساطيل العُمانية إلى سواحل فارس وأفريقيا، وأخذت معها عُمانيين احتكوا بالثقافات الأخرى، وتعلموا عادات هذه الشعوب الجديدة. والمهم في الجغرافيا أنّها تُشكّل الوعي الثقافي في مخيال المثقف العُماني، وهي القائمة على الجغرافيا الطبيعية، والحدود السياسية، والدولة الاستعمارية التي امتدت إلى شرق أفريقيا.

أما عن الأدوار التي اضطلع بها المثقفون العُمانيون تاريخيًا على المستوى السياسي، فركّز اليحيائي، أولًا، على تشكيل الإمامة الأولى التي كان للمثقفين دور ما فيها - ولا سيما أولئك المرتبطون منهم بالفكر الإباضي - فهؤلاء في نظر اليحيائي هم من دفع بنشأة هذه الدولة، التي قامت في العام نفسه الذي سقطت فيه الدولة الأموية وقامت فيه الدولة العباسية. كما نشأت الدولة اليعربية أيضًا على يد المثقفين عام 1624، وصولًا إلى العصر الحديث حيث أدى المثقفون أدوارًا تأسيسية.

أما العنصر التأسيسي الثالث من العناصر التي بنى اليحيائي مداخلته عليها فهو اليسار، والقومية العربية الناصرية، وحركة القوميين العرب؛ إذ اعتنق بعض المثقفين البارزين ثقافة اليسار.

وعن علاقة المثقف بالشأن العام، جادل اليحيائي بأنّها قد تكون ملتبسة، قياسًا على الدول الأخرى. والملتبِس في الخليج هو أنّ المثقف لا يستطيع الانخراط في الشأن العام في دولٍ لا توجد فيها حياة سياسية منظمة حزبيًا، أو تنظيمات، أو جمعيات سياسية. فالفضاء العام تسيطر عليه الدولة، وأيّ محاولة لاجتراح هذا الفضاء تواجَه بصعوبات. من هنا، يرى اليحيائي أن مساحات اشتغال المثقف أصبحت ضيّقة، وخطابُه مرتبكًا بين ما هو سياسي وما هو اجتماعي.

شهدت المحاضرة حضورًا واسعًا، وطرح عددٌ من الحضور تساؤلاتهم عن المجتمع المدني ودوره الثقافي، ومسألة الحرية الثقافية، وموقع المثقف الخليجي في إطار المثقف العربي إجمالًا، وتواري دوره، وأدلجة المثقف، وما إلى ذلك.