عقدت وحدة الدراسات الاستراتيجية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يوم الثلاثاء 2 نيسان/ أبريل 2024، ندوة بعنوان "الحرب على غزّة: أبعاد الأمن الإنساني"، شارك فيها لاورنت لامبرت، أستاذ مساعد في برنامج السياسات العامة في معهد الدوحة للدراسات العليا، وعبد الكريم قزيز، خبير نُظم صحية في مركز أبحاث النزاعات والصحة في كلية كينغز في لندن، وياسر شلبي، خبير وباحث في التنمية والسياسات الاجتماعية - الاقتصادية، وقد أدارت الندوة آيات حمدان، الباحثة في المركز العربي.

استهل لامبرت المداخلة الأولى بالإشارة إلى أنّ وسائل الإعلام الرئيسة تُصور ما يحدث في قطاع غزّة من خلال عدسة النزاعات الكلاسيكية من منظور وجود قتال عسكري؛ ومن ثمّ، فإنّ أعداد الضحايا تبدو كأنها نتيجة طبيعية للمعارك المستعرة وأعراض جانبية. وبدلًا من ذلك، اعتمد الباحث في مداخلته على الإطار الإنساني لمقاربة الحرب الإسرائيلية على غزّة، لكون الوضع فيها لا يتعلق بالقتال فحسب، وهي سردية يجب وضعها جانبًا؛ إذ شهد القطاع حصارًا استمرّ طويلًا قبل الحرب، ثمّ إنّ قضية البيئة، مثلًا، ليست مسألة رومانسية في هذا السياق، بل هي مهمة بالنسبة إلى خطط الإدارة الإسرائيلية، ويُمكن إيجاد الرابط بين الإبادة والانتهاكات البيئية. فالإبادة تهدف إلى تدمير الجماعة البشرية، وتدمير البيئة يعني أنّ الجماعة البشرية لن تستطيع أن تعيش في حال خسارتها موطنها وبيئتها. وبناءً عليه، لا يكون الدفاع عن الأمة من خلال النواحي العسكرية والاقتصادية فحسب، بل من ناحية الأمن الإنساني أيضًا، بما في ذلك الأمن البيئي والغذائي والصحي والمائي.

وأضاف الباحث أنّ الإحصائيات تبيّن أنّ 48 في المئة من أشجار غزّة دُمرت في الفترة 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 - 21 آذار/ مارس 2024؛ ما يعني أنّ حياة الناس وسُبل عيشهم قد دُمرت، وقد أعلن الجيش الإسرائيلي كذلك عن استخدام كميات كبيرة من مياه البحر لإغراق الأنفاق؛ ما يلوث المياه الجوفية، ويدمر التربة الصالحة للزراعة. ويعني تدمير البنية التحتية في قطاع غزّة، خاصةً المتعلقة بمياه الصرف الصحي، أن كميات كبيرة منها ستكون في البحر، ونتيجة لذلك ستلوث المياه الجوفية، وهو أمرٌ قد يؤدي إلى انتشار أوبئة مختلفة؛ مثل الكوليرا، والإسهال الحادّ. إنّ ما يبيّن أنّ الحرب الجارية يُمكن وصفها بـ "حرب الإبادة البيئية" هو ما تشتمل عليه من حرمانٍ للسكان من سُبل الحياة والقدرة على البقاء، إضافةً إلى جَعْل القطاع مكانًا يستحيل فيه العيش.

وفي المداخلة الثانية، قدّم عبد الكريم قزيز قراءة متعلقة بالحرب الإسرائيلية على غزّة من منظور الأمن الصحي، بوصفها حرب إبادة يتعرض خلالها شعب بأَسْره للتدمير الممنهج، مشيرًا إلى منحًى جديد في الحروب، على غرار ما شهدناه خلال السنوات الأخيرة في سورية وأوكرانيا، متمثل في استخدام الصحة سلاحًا خلال الحروب واستهداف المنشآت والطواقم الصحية. وتاريخيًّا، ثمّة علاقة بين الصحة والحروب؛ ففي الحرب العالمية الأولى (1914-1918) مثلًا، كان عدد الوفيات من الجنود نحو 37 مليون جنديّ. ولم تكن معظم هذه الوفيات بسبب الإصابات الحربية المباشرة، بل كانت بسبب الالتهابات الناجمة عن الإصابات نفسها؛ بنسبة بلغت ثُلثَي الإصابات. وفي ما يخص الأمن الصحي، أشار الباحث إلى مستويين من مستويات الأمن الصحي عمومًا؛ الأول هو المستوى الشخصي الذي يُعرف بقدرة الأشخاص على الوصول إلى الخدمة الصحية المناسبة في حال الحاجة إليها. وفي أثناء الحروب، يكون الناس، بطبيعة الحال، في حاجة ملحّة إلى الخدمات الصحية، ولكن هذه الخدمات لا تكون متاحة من جرّاء عدم القدرة على الوصول إليها. أما المستوى الثاني، فهو المستوى الدولي الذي تعرّفه منظمة الصحة العالمية بأنه النشاطات المطلوبة على نحو وقائي واستجابي لتخفيف المخاطر الصحية العامة التي قد تهدد كل الدول.

ومن خلال الانتقال إلى الحديث عن حالة قطاع غزّة، بيّن الباحث أنّ غزّة كانت تعاني نقصًا حادًّا في الموارد الصحية حتى قبل اندلاع الحرب، ومن المؤشرات الدالة على ذلك نسبة الأسرّة في المستشفيات، التي كانت 1.4 سرير لكل ألف شخص، ثم أصبحت أقل من نصف سرير لكل ألف شخص. أما نسبة الأطباء، فكانت 2.2 طبيب لكل ألف شخص (مقارنةً بالمعدل العالمي 3.5)، وهي نسبة صارت أقل كثيرًا من ذلك؛ بسبب قتل الكوادر الطبية وتهجيرها ونزوحها، فضلًا عن عدم إمكانية الوصول إلى الخدمات الصحية في أثناء الحرب. ويبدو من الواضح أنّ إسرائيل تستخدم الصحة سلاحًا في حربها على الفلسطينيين على مدار السنوات الماضية، لأنّ نقص مناعة المجتمع، ومعاناته صحيًّا، يجعلانه أقل قدرةً على المقاومة. فخلال عام 2022، شنّت القوات الإسرائيلية 187 هجمة على المنشآت الصحية في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وقد ارتفعت الهجمات إلى 410 هجمة في القطاع وحده، بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، كما وثقتها منظمة الصحة العالمية؛ ما يُسفر عن تداعيات صحية خطِرة، ولا سيما أنّ هناك ألفَي مريض سرطان، وألف مريض يحتاجون إلى "غسيل الكلى"، وكلهم في حاجة ملحّة إلى رعاية صحية متواصلة، وهو ما لا يتوافر حاليًّا، ولنتذكر أنه قد توفي نصف المرضى بسبب عدم تلقيهم الخدمات الصحية اللازمة خلال حرب 2008-2009. وثمّة ثلاثة أنواع من الأمراض المحتملة التي تهدد القطاع: ما ينتشر عبر الماء، مثل الكوليرا؛ وما ينتقل عبر الهواء، مثل وباء فيروس كورونا المستجد والحصبة؛ وما ينتقل عبر وسيط مثل الجرب والقمل. ومنذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وُثّقت 700 ألف حالة من حالات الإصابات بالالتهابات، إضافةً حالات إصابات عديدة بالإسهال. لذا، يجب أن تركز جهود المناصرة القادمة على جوانب الأمن الإنساني، بما فيها الأمن الصحي؛ فتداعياتها ربما لا تنحصر في قطاع غزّة؛ ذلك أنها قد تتجاوزها إلى البلدان المجاورة، وقد تنتقل إلى سائر أنحاء العالم إذا كنّا نتحدث عن جائحات مقبلة.

أما المداخلة الثالثة، فكانت لياسر شلبي، وقد بدأها بقوله إنّ الأمن الإنساني في فلسطين عمومًا، وقطاع غزّة على وجه الخصوص، لا يرتبط بالتحولات الجذرية التي جرت ما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر فقط، وإنما يرتبط أصلًا بوجود الاحتلال الإسرائيلي وما يعنيه ذلك من سيطرةٍ على المعابر والحدود والموارد الطبيعية وقيودٍ على حركة الناس؛ ما جعل الأمن الإنساني في فلسطين مهددًا ما قبل 7 تشرين الأول/ أكتوبر. وفي هذا السياق، ركّز الباحث في مداخلته على الأمن الغذائي، الذي يُعرّف دوليًا بأنه يتحقق عندما يتمتع جميع الناس، في كل الأوقات، بإمكانية الوصول المادي والاقتصادي إلى أغذية كافية وآمنة ومغذية تَفِي باحتياجاتهم التغذوية من أجل حياة نشطة وصحية.

وأشار الباحث إلى أن قطاع غزّة عانى تدنّيًا في مستويات المعيشة، وارتفاعًا في معدل انعدام الأمن الغذائي؛ بسبب الحصار المفروض عليه منذ عام 2007. ففي عام 2022، بلغت نسبة انعدام الأمن الغذائي 63 في المئة من السكان. أما بعد 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فصُنف جميع سكان القطاع (نحو 2.2 مليون شخص) في المرحلة الثالثة من التصنيف المرحلي المتكامل "مرحلة الأزمة أو ما هو أسوأ". ومن بين هؤلاء، يعيش نحو 50 في المئة من السكان (1.17 مليون شخص) في حالة طوارئ، وتواجه 30 في المئة من الأُسر ظروفًا كارثية، وهي الأُسر التي تعاني نقصًا شديدًا في الغذاء والجوع واستنفاد القدرة على التكيّف. وأكّد الباحث على أن القطاع وصل إلى هذه المراحل من ارتفاع معدلات انعدام الأمن الغذائي بسبب العديد من العوامل؛ من أبرزها انقطاع توزيع المواد الغذائية نتيجة توقف تدفق السلع التجارية، وتوقف نسبة كبيرة من المنشآت الزراعية عن الإنتاج، وتوقف صيد السمك بسبب القيود الإسرائيلية وتدمير ميناء الصيد، وارتفاع الأسعار في ظل تعطل سُبل العيش، ومحدودية تدفق المساعدات الإنسانية، وقطع إمدادات الحياة عن قطاع غزّة.

وقد أعقب الندوة نقاشٌ ثريّ شارك فيه باحثون وأساتذة في المركز العربي ومعهد الدوحة وطلبته، إضافةً إلى الجمهور الحاضر في قاعة الندوة وعن بُعد عبر منصات التواصل الاجتماعي، وأُثيرت أسئلة عن أرقام الواردات الغذائية التي تصل إلى قطاع غزّة من مصر وإسرائيل، وإن كان في إمكان المقاومة الفلسطينية تخزين المواد الغذائية تجنبًا للأزمة الحالية، فضلًا عن فاعلية التدخل القانوني والإنساني في مواجهة انعدام الأمن الإنساني في القطاع، والفترة اللازمة لمعالجة أزمة انعدام الأمن الإنساني فيه، إضافةً إلى الآثار البيئية والصحية الناجمة عن الحرب على المدن الإسرائيلية المتاخمة لقطاع غزّة.