المتحدثون في الندوة
جانب من الحاضرين في الندوة
من أعمال الندوة

ضمن سلسلة الندوات الدورية التي تنظمها الجمعية اللبنانية للدراسات العثمانية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - بيروت، وموضوعها "لبنان بين الدستورين العثمانيين 1876- 1908"، عقدت في المركز في 3 تشرين الأول/أكتوبر الجاري ندوة عنوانها "مواقف لبنانية من الدستور والحكام"، شارك فيها كل من الدكتورة ماجدة نمور، المتخصصة في التاريخ في جامعة القديس يوسف، والدكتور عبد الرؤوف سنو، العميد السابق لكلية التربية في الجامعة اللبنانية، والأب الدكتور متري جرداق، الأستاذ السابق لمادة التاريخ في الجامعة اللبنانية.

قدم الدكتور بطرس لبكي للندوة وأدارها وعرّف بالمشاركين فيها، وحضرها جمع من الباحثين والمؤرخين والمثقفين والصحافيين، ودارت في ختامها مناقشة للمداخلات المقدمة.

النخبة العربية - اللبنانية والدستور

عرضت نمور للتطورات السياسية في بيروت بين الدستورين العثمانيين (1876) و(1908)، وكذلك لأشكال الانتماء المحلي للسلطنة العثمانية في تلك الحقبة. ثم تطرقت إلى موقف النخبة الفكرية العربية في لبنان من السلطنة وتنظيماتها ودستورها الجديد، ونشأة الشعور القومي العربي الذي رأت أنه كان "يعبر عن تطلعات الشعب، خصوصًا في المدن العربية" في تلك المرحلة. في هذا السياق، عرضت أفكار بعض المثقفين في سورية ولبنان ومصر واستخلصت مواقفهم من السلطنة ودستورها، ومنهم بطرس البستاني وجرجي زيدان وأديب إسحاق.

اعتبرت نمور ولادة "الجمعية السورية" ونشاطها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، "تعبيرًا عن نهضة الشعور القومي العربي"، مذكرةً بأن الجمعية ضمت "58 عضوًا من الكتاب والمثقفين في سورية ومصر ولبنان، ومن المقيمين في اسطنبول". ورصدت نمور في مداخلتها ثلاثة مواقف متباينة من الإصلاحات العثمانية الناجمة عن العمل بالستور، من خلال كتابات ومواقف وردت في صحف ومجلات تلك المرحلة، منها "التقدم"، "نفير سوريا"، "الهلال" وسواها.

رأت نمور أن مديح الإصلاحات في صحافة بيروت وكتابات مثقفيها ينطلق من النظرة إلى أهمية البنية التحتية التي نُفذت نتيجة الدستور وإصلاحاته، "فسكة الحديد والقطارات ربطت بيروت بدمشق وحلب وساهمت في تطور البنية الاقتصادية". وركزت الباحثة على نهضة بيروت ودورها وازدهارها التجاري، ما أدى إلى جعلها عاصمة لولاية عثمانية في عام 1888. وربطت هذه المسائل بالإصلاحات والدستور. وقد يكون أهم ما أتى به الدستور هو الحرية في الرأي والتعبير، وهذا ما حمل الصحافة البيروتية وكتابها على مديح الدستور وإصلاحاته، بحسب نمور.

ركز الموقف الذي رأى أن الإصلاحات غير كافية، بحسب نمور، على أن "الدستور لا يستطيع منع الفساد الإداري" في السلطنة. فالكتاب اعتبروا أن الإصلاح يجب أن "يبدأ في الأخلاق". وذلك "بتغيير العادات والتقاليد التي تؤدي إلى تطور اجتماعي". ورأت أن أصحاب هذا الرأي في الإصلاحات "استقوا موقفهم من اطلاعهم على الأفكار والمناقشات في أوروبا". وعدم كفاية الإصلاحات والدستور في مواقف هؤلاء نابع من "تطلعاتهم وانتباهم إلى البعد الاجتماعي والقيمي والأخلاقي" الذي قد لا تطاله الدساتير.

يصدر رفض الإصلاحات برأي نمور من تطلعات جذرية، فيتحدث هذا الرفض عن إصلاح جذري في المؤسسات والقوانين والإدارة كلها، بغية الوصول إلى العدالة الشاملة. في هذا الإطار، طالب بطرس البستاني بـ "فصل الدين عن السياسة"، وحتى "إصلاح الدين" نفسه، بحسب الباحثة.

اعتبرت الباحثة أن الإنسان أصبح يشغل مكانة هامة في فكر مثقفي حقبة الإصلاح الدستوري العثمانية، وأن الصحافة البيروتية كانت تسير على خطى رجال الإصلاح في التنظيمات.

تعارض بين بيروت وجبل لبنان

تناول سنو موقف بيروت ومتصرفية جبل لبنان من دستور 1908 العثماني، فرأى أن عامة المسلمين البيارتة رحبوا به، وقلة من النخب الإسلامية أيدته. فالنخب كانت تتطلع إلى استقلال ذاتي يبرز الهوية العربية. أما في جبل لبنان فأنشأ الدستور انقسامًا بين أقلية درزية وأقلية مسيحية رحبتا به، وبين أكثرية مارونية رفضته خشية أن يؤدي إلى القضاء على امتيازاتها.

عرض سنو المواقف المتباينة من الدستور في بيروت على النحو الآتي: عامة المسلمين، خصوصًا السنّة، أيدوا الدستور واعتبروه منحة من خليفتهم السلطان العثماني؛ وأقلية من النخب الفكرية والثقافية الإسلامية أيدت الدستور، لكن متطلعةً إلى نوع من الحكم الذاتي الذي يبرز الشخصية العربية. وهذا ما أفسح في المجال لظهور الجمعيات العربية؛ والصحافة البيروتية اعتبرت الدستور مقدمة لحرية التعبير والقول؛ والصحف الاسلامية رأت أن الدستور لا يحمل شيئًا غريبًا عن الإسلام، لأن الإسلام يعتمد على الشريعة والشورى؛ وأيد مسيحيو بيروت الدستور بحذر؛ وتبيّن أن كثيرة من الناس العاديين لا يفقهون الدستور، لذا جرى التشكيك بقدرة الشعب على الاضطلاع بالمرحلة الجديدة؛ وأطلق الدستور موجة من المسيرات شارك فيها سكان أحياء بيروت المسيحيين والمسلمين. لكن ملصقات جدارية دعت إلى "قتل الكفار المسيحيين" عكرت صفو التآلف الوطني.

أما في متصرفية جبل لبنان، فرأى سنو أن دستور 1908 شهد ممانعة مارونية، ثم عرض المواقف المتباينة منه على الوجه الآتي: كشف الدستور عن حدة الصراع بين التيار العثماني الإسلامي المؤيد للسلطنة، والتيار الماروني الغربي الساعي للحفاظ على امتيازاته؛ رفض المتصرف يوسف باشا الدستور بداية خشية تقليص صلاحياته، ثم أعلنه تحت تأثير الضغوط من أنصار الدستور، فأقال الجماعات المعارضة (الأمير قبلان أبي اللمع، والشيخ رشيد الخازن، ومصطفى باشا العماد، والأمير توفيق ارسلان)؛ ايدت أقلية درزية وأقلية مسيحية الدستور رغبة منها في المشاركة في "مجلس المبعوثان"؛ رأت قوى درزية على رأسها الأمير شكيب ارسلان أن الانضمام إلى الدستور وسيلة لمحارية الهيمنة المارونية، وتوحيد دروز الجبل ودروز حوران؛ شنت جريدة "الهدى" لنعوم مكرزل حملة من المهجر الأميركي على ما سمي "بروتوكول جبل لبنان"، معتبرة أنه سبب "بلاء اللبنانيين وانعزالهم". ورأي سليمان البستاني – وهو أيد الدستور بحماسة في البداية ثم استقال من مجلس المبعوثان - أن الجندية هي التي تقوي اللحمة الوطنية بين المسيحيين والمسلمين؛ تقدم شكيب أرسلان بحل يقضي باشتراك لبنان في "مجلس المبعوثان" من جهة، واحتفاظه بامتيازاته المضمونة دوليًا من جهة أخرى. ورأى أن وجود نواب لبنانيين في المجلس كفيل بعدم تعرض نظامه إلى أي انتهاك؛ طال الجدال حول مشاركة جبل لبنان في "مجلس المبعوثان" أو مقاطعته أكثر من عامين، وانتهى لصالح الفريق المتمسك بامتيازات الجبل، وامتناع أهاليه عن إرسال مندوبين عنهم إلى الآستانة.

مسيحيو بيروت والتجنيد الإجباري

عرض جرداق لوضع الروم الأرثوذكس في بيروت بين دفع البدل العسكري والتجنيد الاجباري في السلطنة العثمانية، قبل دستور 1908 وبعده. واستنتج أن اتساع رقعة أراضي السلطنة، وكثرة الأقوام والإثنيات في ولاياتها، وعدم كفاية نظام الإنكشارية، أجبرتها على اعتماد نظام أمني يحمي حدودها، ويحميها داخليًا، وهذا ما أجبر السلطات العثمانية على فتح باب التطويع والتجنيد العسكري الإجباري من غير المسلمين.

كان التجنيد الإجباري فكرة مدحت باشا الذي كان "واسع الاطلاع على التنظيم الغربي الأوروبي في الدولة والجيوش". لكن السلطات طبقت البدل العسكري على غير المسلمين بقيمة 50 ليرة عثمانية عن كل مكلّف في ولايتي سورية وبيروت. وبحسب جرداق، أوكلت السلطات العثمانية للسلطة الدينية الكنسية (المطرانيات) جمع البدلات من الأهالي المسيحيين.

في ولاية بيروت، وقعت المطرانية (الأرثوذوكسية) في مأزق، "لأن حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر. وبدأت المشكلات بين المطرانية والسلطات من جهة، وتوترت العلاقة بين المطرانية والمكلفين من رعاياها الأرثوذكس من الجهة الأخرى".

في هذا السياق، تطرق جرداق إلى "الصراع اليوناني - العربي حول كرسي بطريركية أنطاكية وسائر المشرق". دعمت روسيا "طرد البطريرك اليوناني وتعيين آخر عربي. والسلطات العثمانية تدخلت لصالح اليونانيين. وكان لمطراني بيروت غفرائيل شاتيلا وجراسيموس مسرة اليد الطولى المؤثرة في إمالة دفة التغيير لصالح التعريب، والتخلص من السيطرة اليونانية على مفاصل الرئاسات الكهنوتية الأنطاكية".

بعد إطاحة السلطان عبد الحميد الثاني في عام 1908، ألغى البدل العسكري واستبدل بالخدمة الفعلية لغير المسلمين. هنا روى جرداق وقائع المواجهات بين السلطات العسكرية العثمانية والمطرانيات الأرثوذوكسية التي أرادت تخليص "الكثير من الشباب من التجنيد، ما أدى إلى نفي مطران بيروت جراسيموس مسرة إلى دير سيدة البلمند في الكورة".

كان لعملية تطبيق تجنيد مسيحيي بيروت قبل دستور 1908 وبعده، بحسب جرداق، "إيجابيات كثيرة، على الرغم من النتائج السلبية المباشرة التي حلت عليهم"، لأن الظروف الدولية خدمت المسيحيين بطريقة غير مباشرة، فجعلتهم مؤثرين في مجرى الوضع العام لبيروت. فوصلت شخصيات سياسية ودينية منهم إلى مراكز حساسة محلية أجبرت الحاكم على أن يقيم لهم حسابات ويتعاون معهم. من جهة أخرى، تقاربت واندمجت فئات سكان المدينة في مجرى الحياة العامة، وهذا كله بسبب الأخطاء التي ارتكبها رجال السلطة بحق أهل بيروت عمومًا، والمسيحيين خصوصًا.

ختم الباحث مداخلته بالقول إن المسلم بقي مسلمًا، والمسيحي مسيحيًا، والبيروتي بيروتيًا، فيما توطدت أواصر العلاقة بين المطران جراسيموس مسرة الأرثوذكسي وعمر الداعوق أحد وجهاء بيروت المسلمين، وعملا على دفع الضرر عن المدينة بعد رحيل العثمانيين في نهاية الحرب العالمية الأولى.