استضافت وحدة الدراسات الإيرانية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الدكتور بويا علاء الديني، الأستاذ المشارك في قسم التنمية والسياسة الاجتماعية في كلية العلوم الاجتماعية في جامعة طهران، في 23 كانون الثاني/ يناير 2022، لإلقاء محاضرة بعنوان "إعادة التفكير في أُطُر السياسات الاجتماعية والتنمية في إيران"، أدارها مهران كامرافا، مدير وحدة الدراسات الإيرانية وأستاذ القضايا الحكومية في جامعة جورجتاون في قطر.

استوحى علاء الديني محاضرته من كتابيه المنشورين مؤخرًا: السياسات الاجتماعية في إيران: المكوّنات والمؤسسات الرئيسةSocial Policy in Iran: Main Components and Institutions (London:

Routledge, 2021)؛ والسياسات الصناعية والتجارية وسياسات العمالة في إيران Industrial, Trade and Employment Policies in Iran (Cham: Springer, 2018).

استهلّ الباحث محاضرته بتسليط الضوء على أهميّة فترة ما قبل ثورة 1979؛ إذ تتيح فهم التطورات الحالية التي شهدتها السياسات الاجتماعية في إيران. وهو يرى أن ارتفاع عائدات النفط الإيرانية، قبل عشر سنوات من اندلاع الثورة، أدّى إلى تكوين رأس مال وتحقيق نموّ بمعدّل سريع؛ بسبب اعتماد إطار لاستبدال الواردات، إلى جانب توفير الخدمات وسياسات الدعم. وعلى الرغم من تلك التطوّرات، فإن التفاوت في إيران كان يشهد ارتفاعًا، بسبب صعوبة الوصول إلى طبقات المجتمع الدنيا في المناطق الريفية. وفي هذا السياق، ذكر الباحث أمثلة عن الجهود التي بذلتها الحكومة في فترة ما قبل الثورة للتخفيف من حدّة التفاوت المتنامية، مثل إنشاء وزارة الرعاية الاجتماعية، ونظام للتأمين. غير أنّ هذه الجهود توقّفت بعد الثورة.

وفي معرض مناقشة الإطار الإنمائي لمرحلة ما بعد الثورة، لاحظ الباحث أن الحكومة ورثت إطارًا إنمائيًا يعود إلى فترة ما قبل الثورة، وهو إطار "موجّه نحو الاستثمارات" وقائم على النفط. وفي هذا السياق، يرى أن الفرضية الرئيسة لنهج الاستثمار تقوم على فكرة أنّ تكوين رأس المال المادي هو محرّك النمو الأساسي. ويضيف "يتمحور هذا النهج حول لجوء الدولة إلى تسهيل عملية تصدير الموارد الأولية والاقتراض و/ أو جذب الاستثمار الأجنبي المباشر، بهدف تحقيق زيادة الاستثمار في القطاع الصناعي، وتسديد تكلفة الواردات".

ويرى أنّ "التغييرات التي طرأت على السياسات بعد الثورة عزّزت بعض الجوانب السلبية للإطار السابق، كما أن الإطار الإنمائي حوّل الاقتصاد الإيراني إلى اقتصاد أكثر توجّهًا نحو الداخل". والأهم من ذلك، ولأسباب مؤسساتية وسياسية مختلفة، لم تؤدِّ الاستراتيجيات التي وُضعت لدعم التنمية الصناعية حتى إلى النتائج المتوقعة دون المستوى الأمثل؛ فقد شهدت إيران، في السنوات الأربعين الماضية، ارتفاعًا في معدلات التضخم والبطالة وركودًا في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. وكانت الزيادة في عدد السكان عاملًا آخر للقضاء على أيّ نمو عرفته البلاد.

بعد الثورة، أنشأ النظام السياسي العديد من المؤسسات الثورية شبه الحكومية، والتي أصبحت تؤدي دورًا مهمًا في تقديم خدمات الرعاية الاجتماعية. وكانت هناك أيضًا إعانات وتحويلات كبيرة (مثل تحويلات نقدية غير مشروطة) وتوسيع مستمر لنطاق تغطية الضمان الاجتماعي وبرامج إسكان وتطوير مؤسساتي (مثل إنشاء وزارة الرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي، والمجلس الأعلى للرعاية الاجتماعية والضمان الاجتماعي). وقد أقرّ الباحث بوجود "خصخصة وهميّة وإلغاء للضوابط التنظيمية وتراجع دور الدولة". غير أنه تردّد في تصنيف إيران دولةً نيوليبرالية؛ لأن الحكومة تواصل إنفاقها بكثافة على نشاطات الرعاية الاجتماعية، وتملك العديد من المؤسسات.

وقد طرأت تغييرات إيجابية من ناحية التخفيف من حدّة الفقر في إيران نتيجة سياسات الحكومة؛ إذ انخفضت معدّلات الفقر بعد اعتماد عملية التحويلات النقدية غير المشروطة. غير أنّ الآثار الإيجابية الناتجة من التحويلات النقدية تلاشت؛ لأنها كانت غير موجّهة، وتسبّبت في ارتفاع معدلات التضخم. وارتفعت معدلات الفقر أيضًا نتيجة العقوبات الدولية. ويرى الباحث أن مؤشر التفاوت مرتفع، لكنه ليس أسوأ بكثير مما هو عليه في العديد من البلدان الأخرى التي تندرج ضمن فئة التنمية الاقتصادية نفسها. وتعاني إيران ارتفاعًا في معدل البطالة، وانخفاضًا في معدلات المشاركة في القوة العاملة، بخاصة بين النساء والشباب، وهو أمر شائع في كل بلدان الشرق الأوسط.

أما فيما يتعلّق بسياسات التعليم، فذكر الباحث أنّ إيران أعطت الأولوية للتعليم العالي على التعليم ما قبل الابتدائي والابتدائي والثانوي؛ إذ إن نسبة إنفاق الحكومة على قطاع التعليم من الناتج المحلي الإجمالي منخفضة، لكن إنفاقها على التعليم العالي مرتفع. والأهم من ذلك، أنّ "نسبة النفقات الإجمالية من الناتج المحلي الإجمالي في إيران منخفضة، ولا تفرض الحكومة ضرائب على الاقتصاد الإيراني كما ينبغي لجمع الأموال، ومن ثمّ تخصيصها للخدمات الاجتماعية المختلفة بما فيها التعليم". وإضافة إلى ذلك، لم تربط الدولة سياسات التعليم بسياساتها التنموية، وكانت حركة محو الأمية أقل فاعلية مما كان متوقعًا. وتشمل بعض التحديات التي تواجه نظام التعليم في إيران التفاوت الشاسع والموارد غير الكافية. ويرى الباحث أن الحكومة حاولت معالجة هذه المخاوف، باللجوء إلى الخصخصة التي فاقمت بدورها أوجه عدم المساواة القائمة.

وأشار الباحث إلى أن الدستور الإيراني يحمي الحقوق الفردية في التعليم والسكن والتوظيف. أما بشأن الإسكان، فقد أوضح أنّ الحكومة لم تعترف بضرورة وضع خطة إسكان شاملة، تضمّ العديد من المكونات والفئات المستهدفة، إلا بحلول عام 2005. وعلى الرغم من التعديلات التي أُدخلت على خطة الإسكان، فإنها لم تُنفّذ أبدًا، ولم تسعَ الحكومة، من جهتها، إلى تقليص المضاربة في النشاط العقاري من خلال إدارة الأراضي وفرض الضرائب المناسبة؛ ما أدّى إلى ارتفاع أسعار الشراء والإيجار في المدن الإيرانية. وبدلًا من ذلك، شدّدت الحكومة على ملكية المنازل، من خلال إطلاق خططٍ عديدة مثل مشروع "مهر" للوحدات السكنية، وخطة العمل الوطنية للإسكان [خطة الحركة الوطنية للإسكان] وخطة "قفزة الإسكان". غير أنّ السّكان ذوي الدخل المنخفض لا يدخلون ضمن الفئات التي تستهدفها تلك المشاريع. وعلى الرغم من التركيز على ملكية المنازل، فإن نسبتها انخفضت، وتدهورت القدرة على تحمّل تكاليف السكن مع مرور الزمن.

أخيرًا، اقترح الباحث حلولًا لتحقيق التنمية الاقتصادية ومواجهة تحديات السياسات الاجتماعية في إيران. وأكّد أن إيران في حاجة إلى تبنّي "نهج قائم على القدرات"، يهدف أساسًا إلى إنشاء بيئة تتطوّر فيها القدرات. وفي نظره، "يتطلّب الأمر وجود دولة ’مترسّخة‘ و’مستقلة‘ لبدء عملية تنمية القدرات، وتحقيق نتائج ملموسة تتجلّى في تعزيز قدرات الشركات في التصنيع وتطوير المنتجات واكتساب التكنولوجيا وتطويرها، فضلًا عن التسويق".

أما الهدف مما ورد هنا، فيكمن في إنشاء شبكة لتعزيز القدرات تشمل الدولة والشركات والمؤسسات التجارية والنقابات العمالية والجامعات والمؤسسات البحثية والهيئات الإدارية المحلية. وأوضح الباحث أنّ هذا النوع من برامج التنمية يتطلّب سياسات اجتماعية داعمة؛ فقال "يجب أن تسهّل الحكومة عملية إعادة إنتاج العمالة التي تتطلّب تأمين تعليم جيّد وخدمات صحية رخيصة وإسكان اجتماعي لذوي الدخل المنخفض، فضلًا عن أنها تحتاج إلى إدارة أموال التأمين إدارة صحيحة".

وشدّد الباحث أيضًا على أهمية الحوار الاجتماعي والبرامج الفعالة للتخفيف من حدة الفقر القائمة على المجتمعات المحلية واللامركزية لتمكّن تلك المجتمعات. والأهم من ذلك، شدّد على أهمية العلاقات الدولية والمكوّن الإقليمي في التنمية الاقتصادية، وأشار إلى ضرورة التفكير ضمن منظور إقليمي. لذلك، فإن إطارًا تنمويًا، يعطي الأولوية للتنمية الإقليمية، يكتسب أهميةً أساسية بالنسبة إلى إيران والدول الأخرى في منطقة الخليج، إضافة إلى وسط منطقة أوراسيا، حيث تؤدي إيران دورًا رئيسًا.