المحنة العربية: الدولة ضد الأمة

21 أكتوبر،2015
المؤلفون

صدرت عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الطبعة الرابعة من كتاب المحنة العربية: الدولة ضد الأمّة (368 صفحة من القطع الكبير)، للمفكر برهان غليون. ويمثّل هذا الكتاب محاولة مبكّرة لفهم الآليات والسياقات التاريخية والسياسات التي حوّلت الدولة الحديثة، في فكرتها وتجسيدها المادي، من أداة للتحرر والانعتاق عند العرب إلى "غول" ابتلع الحداثة والمجتمع في الوقت نفسه، وأخضعهما لمصالح خاصة غير إنسانية، وأدى في النهاية إلى تفجير المجتمعات وتشظّيها وتشتيتها. ويقدّم هذا الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى في بيروت عام 1993، عناصر أساسية للإجابة، قبل الأوان، عن السؤال الذي طرحته فيما بعد ثورات الربيع العربي، في شأن تفسير القطيعة، ومن ثمّ العداء الذي أظهرته الدولة "الحديثة" "الوطنية" للمجتمع، ووقوف ما سمّي، منذ ذلك الوقت، "الدولة العميقة"، وبعنف لا سابق له، ضد تطلّعات الشعوب.

يسعى الكتاب إلى فهم الآلية التي تحوّلت فيها الدولة إلى منتجة لـ "نخبة" اجتماعية هي أقرب إلى نخبة المستوطنين أو المعمرين "الأجانب" منها إلى نخبة وطنية، وإلى حاضنة للوحش الذي سينقضّ على هذه الشعوب، بدلًا من أن تكون أداة لتحرير أبنائها وتحويلهم إلى مواطنين متساوين، واحتضان ممثليهم الحقيقيين. ويخالف المؤلف المقولات التي تتحدث عن "الاستثناء العربي" أو التي تروّج مقولة عجز العرب عن الانفصال عن الماضي، علاوة على مقاومة الإسلام للحداثة، وفي هذا الحقل المعرفي شدد الكاتب على أنّ السبب في إعاقة التطور الحضاري والسياسي في المجتمعات العربية لا يكمن في الدين أو الثقافة، بل في "الدولة الحديثة" نفسها التي تدهورت من دولة الطليعة إلى دولة الطائفة إلى دولة المافيا.

يؤلّف هذا الكتاب الحصيلة الأولية لتأمّل نقدي مزدوج: تأمّل في واقع المجتمعات المعاصرة، والمجتمعات النامية منها خصوصًا، وما تعيشه من تخبط على المستويات كلّها، في رؤيتها وعقائدها ونظمها الاجتماعية والاقتصادية، وبصفة أساسية في نظامها السياسي؛ وتأمّل نقدي ثانٍ في النظريات المتعددة التي سعت ولا تزال تسعى إلى تفسير هذا الواقع، على أمل المساهمة في تقديم فهم أنجع، أي أكثر تعبيرًا عن الواقع الفعلي. وهو شرط تجاوزه.

يقع الكتاب في سبعة فصول رئيسة، يفترض الفصل الأول "إشكالية الدولة" أنّ البحث في الدولة وفهم مشكلاتها يمثّلان المدخل الرئيس لتحليلٍ وفهمٍ للأزمة الشاملة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية التي تعيشها المجتمعات العربية.

فيما يتحدث الكاتب في الفصل الثاني "عصر التكوين: الأمة والشعب"، وفي الجزء الأول منه عن الانبعاث العربي بدءًا من القرن السابع عشر، ذاكرًا العوامل الرئيسة لهذا الانبعاث، ثم ينتقل للحديث عن أزمة الهوية التي أحدثها انهيار الخلافة العثمانية، وهي اللحظة التي يصفها الكاتب بأنها إحدى أعظم أزمات الهوية التي عرفها الوطن العربي في تاريخه كلّه، لينتقل بعدها إلى طرح سؤال: ما هي الأمّة؟ وهو السؤال الذي سيطرحه العرب على أنفسهم منذ البدء، مثلما ستطرحه الدول الكبرى التي كانت تنتظر تفكك الدولة العثمانية لتتقاسم ممتلكاتها، ومن ضمنها الأراضي العربية، بخصوص العرب. ولا يزال هذا السؤال المتعلق بأصل الأمّة (أو الأمم العربية) وطبيعة البنى والعلاقات التي تجمع بين شعوبها العربية (أو المعربة) وتوحّدهم يثير، في نهاية الألفية الثانية، جدلًا عنيفًا بين الباحثين ورجال الدولة والمراقبين الأجانب، ليس من المتوقع حسمه في الأجل القريب.

ويبدأ الفصل الثالث "عصر التنظيم: الدولة والسلطة" بالحديث عن الغزو الفرنسي لمصر، على أساس أنّ الحملة الفرنسية كانت لحظة فارقة في التاريخ العربي الحديث، إذ مثّلت الحملة الفرنسية، إضافة إلى ما نجم عنها من تدمير للقوات المملوكية، اكتشافًا لعالم تقني وفكري غريب، وارتبط بها إدراك ما يمور به العصر الجديد من قوى تنظيم، ومن مفاهيم ومؤسسات حديثة لم يكن المسلمون قد عرفوها من قبل، وليس لديهم كما هو واضح أي دليل يساعدهم على التحكم فيها والسيطرة عليها. وقد أدخل هذا الاصطدام بالحضارة الغربية مفهومًا حاسمًا في تبديل تطور نظرية الدولة والسلطة، هذا المفهوم هو المجتمع نفسه من حيث هو مصدر لقوى التغيير والمبادرة، وهدف للسياسة ذاتها. انطلاقًا من تغيّر طبيعة السلطة والقوى الاجتماعية والشعبية الحاكمة: النمط الأول هو الدولة الإصلاحية، والنمط الثاني هو نمط الدولة الوطنية أو القومية، والنمط الثالث هو نمط دولة الانفتاح.

ويستهل الكاتب الفصل الرابع "عصر التغيير أو في أصل القطيعة بين المجتمع والدولة" بالحديث عن الثورة القومية التي حصلت بسبب عدم قدرة الدولة الوارثة للاستعمار على حلّ المشكلات العقائدية والسياسية والاجتماعية المتعلقة ببناء الأمّة، وإعطاء الشعوب المنضوية تحت لوائها وعيًا جماعيًا فاعلًا وهدفًا مشتركًا قابلًا للتحقيق، وبثّ الشعور بالأمن والثقة في المستقبل بين صفوفها، ويخصص المؤلف صفحات عديدة للحديث عن الناصرية وأثرها في الدولة العربية وفي الإنسان العربي، لينتقل بعدها للحديث عن كارثة فشل مشروع التنمية العربي، والذي يعزوه الكاتب إلى فشل العرب في تحقيق التضامن الفاعل فضلًا عن الاتحاد أو الوحدة.

وفي الفصل الخامس "عصر المحنة أو ثمن الحداثة المجهضة"، يطرح المؤلف نقاشًا حول المراجعات التي أسس لها فشل انهيار مشروع التحديث العربي، موضحًا الانقسام الحاصل في تحليل أسباب الأزمة، بين القائلين بفشل البنى المعرفية والثقافية، وأولئك الذين يشددون على الطابع السياسي للأزمة، والتي يرون أن المتسبب فيها هو التخلي عن الهوية الثقافية، وحالة الاستلاب السائدة وتبعية النخب.

فيما يخصص الفصل السادس للسؤال "إلى أين يسير الوطن العربي؟" وفيه يرى المؤلف أنّ أمام العالم خيارين، أولهما هو النزاع الأهلي، والصراع بين الإسلام والعلمانية أو بين النخب الممثلة للتيارين، شارحًا الأخطار الناجمة عن هذا الصراع، أمّا الخيار الثاني هو خيار التغيير، طريق الديمقراطية والوحدة، وإن كان هذا الخيار يبدو أكثر إيجابية من الخيار الآخر إلّا أنّ الكاتب يرى أنّ صعوبات جمّة تقف في وجه الوصول إلى هذا الخيار.

يخصص الكاتب الفصل السابع والأخير "النتائج" لاستعراض نتائج هذا البحث الشامل، والخروج باستنتاجات تمثّل زبدة هذا البحث، منطلقًا من الدولة الحديثة بصفتها ضرورة مطلقة في نظر البيروقراطية التحديثية والنخب، ليتحدث لاحقًا عن أهمية إيمان المجتمع بالدولة بصفتها مفهومًا للتنظيم الاجتماعي الجديد، ويستعرض في الختام أوضاع بعض الدول العربية، والصراعات القائمة فيها، والأخطار المحدقة بها، متنقلًا بين مصر السادات والجزائر والعراق.

اقــرأ أيضًــا

 

فعاليات