سياسة عُلماء دمشق

أسئلة الإصلاح والهويّة والعُروبة (1516-1916)

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب سياسة عُلماء دمشق: أسئلة الإصلاح والهويّة والعُروبة (1516-1916)، من تأليف حسان القالش. يقع الكتاب في 404 صفحات، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا. وتتركز فصوله التسعة على سبر أغوار تاريخ دمشق وأحوال علمائها، في رحلة علمية استمرَّت نحو خمسة أعوام، وتطلبت من صاحبها الاطلاع على حياة السلاطين المؤسِّسين، وقراءة كتب في التاريخ الوسيط، ككتب المَقريزي، وابن إياس، وابن طولون وغيرهم، ودراسة تاريخ الصوفية الدمشقية وارتباطها الوثيق بالسَّلطنة، وتاريخ دمشق العثماني، وإعادة التفكير في مُسلَّمات للمؤرخين، وإعادة اكتشاف الروايات الحقيقية للأحداث وسياقها، والابتعاد عن فخّ الهوى السياسي أو الفكري أو الهُوِيّاتي خلال الكتابة، عبر اعتماد نظرة جديدة للتاريخ تكون بعيدة عن الأفكار المسبَقة أو النتائج المرجوّة، مع العمل بالتسلسل الزمني للأحداث المدروسة لأجل فهم أعمق للرواية التاريخية.

أحداث عاصفة وأسئلة كيانية

مع حلول الربيع العربي في سوريا، وانتعاش الأمل لدى السوريّين في الخلاص من حِقبة استبدادية طويلة، كان عليهم في الوقت نفسه مواجهة أسئلة كيانية حول سوريا الحديثة، ومسائل المعرفة التاريخية، والتجهيل المديد لتاريخ البلاد من النظام الذي أوجد لدى الأجيال السورية وعيًا سياسيًّا ناقِصًا وسلبيًّا وادعاءً متوهَّمًا بوَطنيّة سورية "حقيقيّة"، والأهم التعمق في بحث مسالة الأقلّيّات، ومحاوَلةُ تفسير موقف المؤسّسة الدينية الدمشقية ذات الصورة السلبيّة النمَطية وموقف علمائها من الانتِفاضة السورية، الأمر الذي يتطلب العودة إلى بداية العهد العثماني.

بداية الحكم العثماني وموقف المؤسسة الدينية

على الرغم من دخول السلطان سليم الأوّل دمشق سلمًا عام 1516، خلافًا لِدُخوله القاهرة، ودور علمائها في ذلك، لم يَكن هناك تسليم سلبي وغير مشروط لنظام الحكم الجديد، إذ تمكن علماء دمشق من كبح هيمنة العثمانيين على المؤسسة الدينية، فقبلوا تعيين قاضٍ عثماني واستحوذوا على منصب المفتي، وعلى المذهب الحنَفي مذهبًا رسميًّا للسَّلطنة، ومع تشريعات السلطان سليمان القانوني اندمجت المؤسسة الدينية في النظام العثماني تطبيقيًّا وإداريًّا وليس هويّاتيًّا.

ومما تجاهلَه المؤرّخون السوريّونَ الروّاد، كعبد الكريم رافق وليلى صباغ، أن عمَلية العَثمَنة تمّت أيضًا على مستوى الطرق الصوفية الدمشقية، التي كان دورها مِحوريًّا في السلطَنة العثمانيّة، لكونها من الأساسيات في تشكيل الهوية العثمانية والسُّلالة الحاكِمة، كما شكّلت جسرًا ثقافيًّا مع الدمشقيين منذ زيارة سليم الأول قبرَ الوليّ الصوفيِّ محيي الدين بن عربي.

ابتغى العثمانيون من خلال "العثمنة" إدْماجَ المؤسّسة الدينية الدمشقية في نِظامهم، وكان قبول علماء هذه المؤسسة إعلانَ الولاء للنظام الجديد - من دون أن يكونوا مُجبَرين على ذلك – عبر تبَنّيهم رواية العثمانيين الرسمية حول زَوال السلطنة المملوكية، والترجمة للسلاطين العثمانيّين المؤسِّسين، أما الصوفيون الذين زالت طرُق بعضهم بعد ارتياب العثمانيين بسبب شعبيّتها، فقد سارعوا إلى الانخِراط بالعَثمَنة لكسب الشرعية.

يعود تقليل المؤرخين الروّاد من شأن قبول علماء دمشق بالحكم العثماني، على الأرجح، إلى غلَبة العاطِفة القومية العربيّة عند بعضهم، فهذا عبد الكريم رافق يقول باشتباك هويّاتي عربي- عثماني منذ فتح دمشق؛ أما عبد الغني النابلسي ومراد المرادي فيحتاجان إلى مُعاينة سيرتَيهما بتمعّن.

اعتمد رافق على ما كتبه النابلسي لتأييد نظريته بعروبة مبكرة، إلا أن ما اشتُهر به النابلسي في زمانه كان مسألتين: الأولى تصديه للمتشددين الإسلاميين والمعارك الكلامية بينه وبينهم حول تحريمهم الدخان/ التبغ، الذي أجازه معتبرًا إياه إحدى ظواهر الحَداثة ورافعةً لاقتصاد السلطنة عبر المقاهي (بيوت القهوة)، والثانية دفاعه المستميت عن تراث ابن عربي ودعوته إلى نشره وإحيائه. ولا شك في مبالغة رافق في تأويل رسالة النابلسي، فصحيح أنّه كان يعتدّ في رسائله الكثيرة بانتمائه العربي إلا أن سيرته تُثبِت كونه العالِمَ المخلصَ لعثمانيّته.

أمّا مراد المرادي، فتعكس سيرتُه تقرّبه من الحكم العثماني وكفاحَه لتحصيل مَكانة لعائلته البخارية الأصول في دمشق وفي السلطَنة، فنجح في ذلك عبر نشر الطريقة النقشبندية، التي دخل فيها العديد من أعضاء الطبقة الحاكِمة في إسطنبول، فاكتسب عطفَ السلطان نفسه، ومن ثم "تدَمْشَقت" عائلته، التي حافظت على مكانتها في العاصمة حتى بعد الثورة التي قادها المفتي محمد خليل البكري في عام 1724 ضد القوة العسكرية الـ "قابي قول"، التي كانت تقوم بتعديات على الناس، وأدت إلى حكم آل العظم العرب دمشق للمرة الأولى في تاريخ السلطنة، وتنصيب علي المرادي مفتيًا حنَفيًّا للمدينة. وحتى مع آل العظم، لا نجد لنظريّة رافق دليلًا مُقنعًا، سوى إشارات قليلة عند إخباريين مسيحيين ترحّب بحكم "أولاد العرب"، بينما ظل هناك من الإخباريين مَن ينظر إليهم باعتبارهم أغرابًا، ومن ثم لم يكن لانتمائهم العربي تأثيرٌ ملحوظ.

 وبناءً عليه، حافظت دمشق على عثمانيّتها مع ميل محليّ للاهتمام بهويّتها، كما عند ابن كَنّان، لكنّ تمسّك علمائها في العموم بالوَلاء العثماني ظهر في أكثر من مناسبة، كما عند محاولة مماليك مصر بِقيادة محمد أبو الذهب احتلال دمشق في عام 1771، ونزْعِ علمائها، وأبرزهم العالم الحنفي البارز محمد أمين عابدين والعالم الحنبلي حسن الشطي، الشرعيةَ الفقهية عن أوّل ثورة عربية على السلطنة عبر الحركة الوهّابية في الحِجاز، والمحطة الأهم في مسيرة ولاء دمشق للعثمانيين كانت مع احتلال محمد علي باشا سوريا (1832-1841)، على الرغم من ظروف أهل دمشق العَصيبة وقتذاك بسبب انشغال السلطنة بحروبها مع الأوروبيين والروس وتركهم لدمويّة أحمد باشا الجزار، الذي قتل علماء منها، بعضهم من آل المرادي.

حكم محمد علي وتأثيره في ما بعده

كان لاستبداد محمد علي في فرض إصلاحاته على سوريا أثر في النُفور من حكمه، إذ لم تراعِ خصوصيّة دمشق ولم تكن للرُّقِيّ الاجتماعي بل لمصلحة مشروعه السياسي، ولهذا لم يبقَ منها بعد رحيله سوى مُساواة المسيحيين والمسلمين، التي فُرضت من فوق، وكانت أشبهَ بقنبلة اجتماعية موقوتة زرعَها الباشا المصري ثم غادر.

تحوّلت تجربة محمد علي السورية أيضًا مادّةً دسمة للمؤرّخين القوميّين، ولا سيما المصريين، وليس رافق بينهم فهو لم يجد في حكم محمد علي أثرًا لعروبة مبكرة، فهؤلاء المؤرخون ادّعوا أنّ مشروعه كان يحلم بتأسيس حكم عربيّ مُستقِلّ، الأمر الذي تُناقِضه أعمال مؤرخين شباب عن تلك الفترة نقضت أسطورة "الحكم العربي" لمحمد علي، أبرزهم خالد فهمي.

ومع انفجار الاحتقان الذي ولّده الصِّراع الديني، المتمثل بالحروب العثمانية/ الروسية الأوروبية والثورة اليونانية، في دمشق عبر صدامات مسيحيّة إسلاميّة بدأت في حلب في عام 1850، وانتقلَت إلى القدس ونابلس في عام 1855، ثم الحرب الأهلية في جبل لبنان في عام 1841، والتنكيل بيهود دمشق بتحريض من مسيحيّيها والقناصل الأوروبيين وسلطة محمد علي. كانت الذروة في المذبحة بحق مسيحيي المدينة في عام 1860، لأسباب كثيرة، منها عدم تمكن إصلاحيّي السلطنة من السلطة، واتّساع النفوذ الأوروبي في المنطقة، والأهم أفكار علماء دمشق التي ساهمت في ظهور ميل معادٍ للمسيحيين، وإهمالهم معالجة ما خلّفه الحكم المصريّ والبحث في عقد اجتماعي جديد يُصلح أوضاع المسيحيين، وأخيرًا الأثر السلبي لإقحام المنطقة في الاقتصاد الأوروبي والأزمات الاقتصادية المترتبة عليه في الصناعات المحلية.

وقد حُمِّل علماء دمشق جزءًا من مسؤولية المجزرة، في خطوة أكاديمية مخالفة للدراسات السابقة التي كانت تراوغ بين تحميلها للعثمانيين وبين إنكار انخِراط الدمشقيين فيها، أو حتى اعتبار العامل الاقتصادي سبَبًا رئيسًا فيها، ما أدّى إلى ظهور حدثَين غيّرَا وجهَ المدينة والمنطقة، أوّلُهما إخضاع دمشق لإصلاحات مرسومَي التنظيمات، والثاني بُروز علماء فيها عُرفوا بـ "الإصلاحيين" بقِيادة عبد القادر الجزائري، كان أبرزَهم وزير الخارجية فؤاد باشا، الذي تدارك بسرعة ومهارة تداعيات المجزرة وحَدَّ من استغلال الأوروبيين لها، ومع شدّته في التعامل مع القضية لم يتعرض لطبقة علماء المدينة، وفضّل العمل على إصلاحها، وكان دوره الأهم الذي لم يحظَ بعِناية الدارِسين هو مساهمته في تكريس "الهوية السورية العثمانية"، لوعيه خطورةَ الأفكار الانفصالية القائمة على الهويات المحلية والقومية والدينية، فكرّس "سوريا الكيانيّة"، ورعى علماء الإصلاح الدمشقيين والمثقّفين المسيحيين اللبنانيين، الذين صاغوا فكرة الوطن السوري ضمن الولاء العثماني، كبطرس البستاني وخليل خوري وغيرهما.

أمّا آخر الوافِدين الجُدد الكبار على دمشق، الأمير عبد القادر الجزائري، فقد كان له ولمجموعة من علمائها تأثير مباشِر في حِماية المسيحيين إبّان المجزرة، ونجحَ في الهيمَنة على طبقة العلماء، ليكون وريث مَكانة الشيخ خالد، وجامعًا الزعامتين الروحية والمدنية في دمشق.

خضعت دمشق للتنظيمات العثمانية مع محمد راشد باشا أيضًا بعد فؤاد باشا، وتطورت في أيامه فكرة الهوية السورية - العثمانية، وخصوصًا بعد إنشاء "ولاية سوريا" في عام 1865، واكتملَ تطورها مع رعاية راشد باشا الصحافة اللبنانية التي كان يشرف على معظمها المثقفون المسيحيون، ما ساهم في نهضة بيروت ثقافيًّا، وهو ما لم يحدث في دمشق، وكذلك نموّ الوطنية اللبنانية وشهود لبنان نهضة تجارية دفعت مجموعة من أعيانه إلى المطالبة باستقلاله عن ولاية سوريا، التي كانت عاصمتها عاجزةً عن صنع نهضتها الثقافية الخاصة، ووقعَ عِبء مسؤوليتها على كاهل علمائها الإصلاحيّين، الذين كانت القضايا التي عليهم معالجتها مُختلِفة عن نظيراتها لدى أقرانهم اللبنانيين؛ وبالأخص بعد إقالة راشد باشا ووصول الجناح المُناهِض للإصلاحات إلى الحكم، إذ بات لزامًا عليهم العمَلُ على كبح تَحوُّل دمشق إلى مدينة معادية للتنظيمات، بخاصّة في فترة تَراجُع أداء ولاة سوريا، واحتِقان المشاعر الدينية على أعتاب الحرب مع روسيا، وتصاعُد السُّخْط على سياسات الدولة، وتطبيق سياسة الجامعة الإسلامية بدعم من علماء وصوفيّين مُحافِظين معادين للإصلاح في عام 1876، وهو العام الذي تسلّم فيه عبد الحميد الثاني الحكم، وقد حفلت دمشق في عهده باضطرابات اجتماعية وسياسية، وخصوصًا مع مدحت باشا، الذي عادت دمشق في أيامه مركزًا معادِيًا للإصلاحات بقيادة العلماء المحافِظين. وفي تلك الفترة ظهرت "السلَفيّة الدمشقية"، التيار الذي اعتمدَ مبدأ الاجتهاد في الأحكام الشرعية على حِساب التقليد، وإحياء أفكار ابن تيمية وإعادة تفسيرها، وتنقية الدين وإثبات قدرته على مواكَبة تحدّيات العصر، ومن أهم روّاده طاهر الجزائري ومحمد جمال القاسمي وعبد الرزاق البيطار، وكان الجزائري من بينهم الأشد تأثيرًا، وتمكّن عبر حلقته من اجتِذاب إداريين وضباط عثمانيين ومكتوبجي الولاية يوسف بهاء الدين بك، الذي استطاع من طريقه إقناع مدحت باشا وحمدي باشا بمشاريع إصلاحية كثيرة، مثل إنشاء مدارس جديدة وأوّل مكتبة عمومية في المشرق، وهي المكتبة الظاهرية، ومشروع الإصلاح التعليمي.

وبرزت "السلَفية الدمشقيّة" أكثر مع أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده في مصر، وظهرَت نسختها المطوَّرة مع محمد الشطي والمفتي الحمزاوي وغيرهما، اللذين نسّقا مع تلميذ محمد عبده الأقرب محمد رشيد رضا.

مع الاحتلال البريطاني لمصر في عام 1882، عاصر الإصلاحِيّون الدمشقيون الأفكار الوطنيّة، مثل "الوطنية اللبنانية" و"الوطنية المصرية" التي بدأت مع ثورة عُرابي، ثم ظهور كتابات إصلاحيّين جدد كرفيق العظم ومحمد كرد علي وشكري العسلي وعبد الوهّاب الإنكليزي وعبد الرحمن الشهبندر، الذين طرحوا للمرة الأوّلى قضايا المرأة والعَلْمانية وتخلُّف دمشق الثقافي، فقوبلوا بقَمْع نظام عبد الحميد، لكنهم عادوا إلى العمل بقوة أكبر بعد إسقاط الاتحاديين حكمه في عام 1909 وإعادتهم العمل بالدستور.

انقلاب الإصلاحيين على الاتحاديين

ومع دفاع الإصلاحيين الشباب عن الحكم الجديد وتصديهم لمحاولة الانقِلاب الفاشلة عليه، برزت ظاهرة "تمجيد الضابط العسكري"، التي ترافقَت مع وصول عبد القادر الجزائري، القائد العسكريّ وبطل الميدان المكرّس، إلا أن هؤلاء الشباب سرعان ما اصطدموا بنية الاتحاديين الذين اعتمدوا سياسة مركزية وهويّة قائمة على تَتْريك أقليّات السلطنة والعداء للعرب، وبالاعتِماد على أفكار عبد القادر الجزائري ومحمد جمال القاسمي انتهجوا سياسة عروبية في مواجَهة الاتحاديّين، فنادوا أولًا عبر شفيق المؤيد ورشدي الشمعة الدمشقيَّين باللامركزيّة الإدارية التي تضمن حقوق العرب الثقافية والسياسية في أروِقة البرلمان، ثم ظهر جيل عروبيين أصغر نشط في إسطنبول، أبرزُهم محب الدين الخطيب، وكان أكثرَ راديكاليّة، وأنشأ جمعيّات سياسية سريّة عندما لم يجد استجابة لمطالبه من الاتحاديين، الذين تعززت مخاوف العروبيين منهم إثر تغاضيهم عن الهجرة الصهيونيّة إلى فلسطين، وعن احتلال إيطاليا ليبيا وقَصْفِها بيروتَ، فنظم العروبيون مؤتمرًا في باريس عام 1913 ودعوا الاتحاديين إليه، في محاوَلة للتفاهم معهم، فأسفر المؤتمر عن اتّفاق على استمرار التفاوُض حول حقوق العرب.

لكنّ المؤتمر شكّل في الواقع فشَلًا للعروبيين، فهو لم يمثّل جزءًا واسعًا من الطَّيْف العربي، ولم يطرح مسألة الاستعمار الصهيونيّ، وهيمنَت عليه مُيول المشاركين القُطْرية، فأسفر أولًا عن جناح عروبي يستجيب لمساعي الحركة الصهيونيّة للحِوار، وينفتح ثانيًا على الحوار مع فرنسا وبريطانيا بخصوص المسألة العربية.

ومع إظهار الاتحاديين عدم جديّة في تلبية المطالب العربية، ووصول الصّراع ذروتَه مع اندلاع الحرب العالمية الأولى، فتك جمال باشا السفّاح في سوريا بالعروبيين، وضَمَّ آخرين إلى صفّه، ككرد علي. ثم جاءت ثورة الشريف حسين لتمثّل آخِرَ عوامِل الانقسام، بين تشكيك في الْتزام الشريف بالمسألة العربية على حِساب مشروعه الخاصّ، وخلافات في معسكر الثورة نفسه تجاوزَت الطابع السياسي لتعبّر عن أولوية الميول القُطْرية لبعض المشاركين فيها، وحتى مع زَوال الحكم العثماني وإقامَة أوّل حُكم عربي في دمشق، اختلف العروبيون في كيفيّة التعامُل مع أوروبا، ونمت بينهم النزْعات الوطنية المحلّية، العراقية والحِجازية والفلسطينية، ومنها الوطنية السورية، التي شكلت مفتاحًا لفهم التاريخ السوري الحديث والمعاصِر.

يناقش هذا الكتاب ما سبق من خلال تسعة فصول؛ يشرح الفصل الأول حالة علماء المؤسَّسة الدينية الدمشقية إبّان الفتح العثماني، ويستعرض بعض الطرق الصوفية ذات الدور الحيوي. وتناول الفصل الثاني عالمَين دمشقيَّين؛ هما: مراد البخاري وعبد الغني النابلسي؛ لأنهما - في رأي الكاتب - يشكلان نقطة البداية، بسبب التأثير القوي للطرُق الصوفية التي انتمَيا إليها، فضلًا عن دورهما المِحوري. ويبحث الفصل الثالث في العُروبة المبكِّرة عند علماء دمشق، والتي ظهرت عبر أعمال المؤرِّخ السوري عبد الكريم رافق، وقد اعتمد البحث فيها على مسألة "شرعية الحكم" العثماني وموقف العلماء منه، انطلاقًا ممّا خلصَ إليه رافق. ويستعرض الفصل الرابع أدوار علماء دمشق بين مرحلة حكم آل العظم حتى نهاية الاحتلال المصري، ومدى انخراطهم في الأمور السياسية، وتطوُّر انتمائهم بين المحلي المتعلق بمدينتهم والعربي، متعرضًا لظهور المسألة الشرقية وتأثيرها في دمشق. ويتناول الفصل الخامس أحداثًا مركزية ثلاثة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهي: تداعِيات وصول الشيخ خالد النقشبندي إلى دمشق، ومجزرة عام 1860 ضدّ المسيحيّين، وصولًا إلى استقرار الأمير عبد القادر الجزائري في المدينة. ويكمل الفصل السادس سياق الأحداث التي عاشها علماء دمشق خلال العصر الذهبيّ للتنظيمات العثمانية وما رافق ذلك من تطوّر للهوية المحلية. وأما الفصل السابع، فيبحث المرحلة التي شهدت ولادة المدرسة الإصلاحية السلَفية في دمشق، وظهور التيّار المناهِض لها. ويناقش الفصل الثامن تداعيات سياسة الجامعة الإسلامية للسلطان عبد الحميد. وأخيرًا، يستعرض الفصل التاسع نشاط تلاميذ العلماء الإصلاحيّين الدمشقيّين وسياسة العروبة حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى، ثم مصائر هؤلاء العلماء وتلاميذهم العروبيّين.

اقــرأ أيضًــا

فعاليات