صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات كتاب الموت بين المجتمع والثقافة، وهو من تأليف الباحث أحمد زين الدين. يتضمن الكتاب ثلاثة أقسام تحتوي على أربعة وعشرين فصلًا، تتمحور جميعًا حول تيمة الموت ومعناه لدى الأمم والشعوب وطرائق التعامل معه ومساهمة المعتقدات حوله في بناء الميثولوجيات، ومساهمة الموروثَين الإسلامي والمسيحي والفلسفة الإغريقية خلال مراحلها كافة في بناء تصور عن الموت. ويقع في 224 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
ينفر معظم الناس من الموت، لِما يُحدثه من اضطرابٍ نفسي وهواجسَ مقلقة وانطباعات سلبية، إذ هو "المجهول" المتجاوِزُ كلَّ مقاربة مفاهيمية، وكلَّ محاولة لاستيعابه عقلًا وواقعًا. وقد عاين الأحياء أشخاصًا يموتون، واقتحم الموت بيوتهم مختطِفًا أحد أفراد أُسَرهم فأَمَرَّهم بتجارب قاسية ولَّدت في بعضهم مشاعر حادّة تقارب الشعور بالرهبة، خشية الانفصال عن حبيب والحرمان من عزيز، وغير هذا.
ويحيِّر الموتُ الأحياءَ ويذرهم بلا إجابة تروي الغليل أمام مروحة واسعة من الأسئلة عن الموت: موت الحامل وهي تضع مولودها، وموت المحارب في ساحة الوغى، وموت المتعرض لحادث عرضي، وموت مَن بلغ من العمر عِتِيًّا فتعطَّلت وظائفه الحيوية، وموت المنتحِر بقرار ذاتي، وغيرها كثير من الأسباب؛ فالموت في أيٍّ من حالاتٍ لا تقبل العدَّ لا يُقاربه البشر معنويًّا بالطريقة عينها، وكذلك الأمر في التعامل ماديًّا مع الجثمان، سواء بالدفن أو الحرق أو التحنيط أو جعله طُعمةً لحيوان جارح أو طير كاسر، وكذا بالنسبة إلى مصير المتبقّي من العظام أو الأشلاء أو الرماد، وإلى فترة الحِداد، ومدة الفصل بين الحيّ والميّت، ومصير المتوفّين بعد موتهم، وأشكال وجودهم في العالم السماوي.
بخلاف الحيوانات، التي لا تقلق أو لا تتألم لمصير غيرها من ذوات جنسها، وإنْ ذهب بعضُهم إلى تصنيف حركاتٍ وأصواتٍ لديها في خانة التأثّر، يقع بنو آدم في اليأس فيخترعون قصصًا تُعينهم على موضعة حياتهم داخل محيط كوني أوسع، لكشف انتظامه واكتساب شعور مضادٍّ للاكتئاب وباعث على الشعور بأن للحياة قيمةً ومعنًى، ولجعل أذهانهم تولِّد أفكارًا وتجارب لا يمكن تفسيرها منطقيًّا، فيشطحون بخيالهم ليستحضروا شيئًا غير شاخص أمامهم، ولا يوجد موضوعيًّا، فينتِج الخيالُ عندهم الدينَ والميثولوجيا.
لا يزال الخيال الملَكة التي تمكّن العلماء من إخراج معارف جديدة إلى الضوء، على الرغم من سوء سمعة التفكير الميثولوجي في زماننا، التي دفعتنا إلى استبعاده بحجة لاعقليته وقلة دقته. وترتِّبُ الميثولوجيا، من خلال إدخال معنى ونظام، العالمَ عميقًا وهرميًّا، وهي تسنّ التاريخ الأصلي للجماعة البشرية، وتروي ولادة الآلهة والبشر والحيوانات، وكذلك عناصر الطبيعة والأحداث العظيمة. وقد ظهرت الإشارات الأولى لمأسسة دين الأصول مع الإنسان العاقل، وكذا تجذّرت معه الممارسات الشعائرية والطقوس الجنائزية، وتبلورت فكرة المقدّس، وطقوس التنظيم الاجتماعي قبل عصر الحداثة .
تُخبرنا قبور إنسان نياندرتال البدائي أمورًا مهمة حول الأسطورة، منها أنّ أصولها مستندة إلى تجربة الخوف من الفناء، بسبب عظام الحيوانات بالقرب منها، ما يدلّ على تقديم أضحية عند الدفن. إنّ ارتباط الموت بقضايا المجتمع والتنمية كان ولا يزال مجالًا لدراسات غربية معمّقة في تاريخ العقليات، وقد نشأ في العقود الأخيرة وتطوَّرَ "علم دراسة الموت والاحتضار" Thanatologie، أما المساهمة العربية، فموقوفة على تواريخ ومناطق ومعتقدات دينية محدّدة، لا على الأدوات الإناسية، فالرّحالةُ العرب وصفوا مشاهداتهم طقوس الموت من دون تحليل أو وقوف على أبعادها الدقيقة، والكتب العربية نَحَتْ إلى الوعظ بالاستعداد للموت وإن كان بعضُها لم يَعدم النظرة إلى فوارق طبقية واجتماعية وثقافية بين المتوفّين، التي تمثلت بالحضور الكثيف لجنائز رجال السياسة والأعيان والفقهاء والمتصوّفة والإقبال على حمل نعوشهم، بينما كان الحضور في جنائز العوام والناس العاديين يقتصر على الأهل والجيران، وبالأخص في المغرب العربي، نظرًا إلى شدة اهتمام المنطقة بالأولياء وبناء مراقد لهم بعد موتهم. وقد استندت دراسات الغربيين لموضوع الموت إلى وثائق مكتوبة وشفوية وإيقونوغرافية Iconographie (الرسوم واللوحات)، أمّا ما كُتب باللغة العربية فقد اهتم بالطقوس والبِدع وأحوال القبور وأهوال يوم القيامة.
الموت "المختفي في وضح النهار"، في نظر زيغمونت باومان، يخوض مع الحياة مواجهة دائمة وصعبة لا تضع أوزارها، تُجبر البشر على ألّا يديروا ظهورهم له أو ألّا يحاولوا نزع وصمة "الهول" عنه، إذ إن الحياة بذاتها متشبِّعةٌ بأشكال مختلفة منه، ومن رعب الإنسان من إقصاء جسده الذي لا يرتوي من منابع الحياة، رغم أن الأوبانيشاد (جزء في مجموعة كتابات تسمّى فيدات هي جزء أساسي من مصادر الديانة الهندوسية) وصفت الجسد بأنه "منتن، منعدم الأهمية، عرَضي، كتلة من جلد وعضلات ونخاع ولحم ومني ومخاط ودموع وبول وريح وصفراء ولمفا" (بلازما وصفائح دموية). ومع إخفاق تقنيات العصر الحديث في استئصال المخاوف، سادت المصالحة والتطبيع مع الموت، وحُوِّلت المجابهة إبقاءً على إرادة الحياة وتأقلمًا معها.
ويرى باومان أنّ الثقافات كافة أدواتٌ عبقرية لإخفاء وجه الموت، أو تزيينه لإتاحة احتمال التعايش معه، إذ لا يمكن طرده من حياة البشر مع أنه يبقى على الدوام النموذج الأوّلي لجميع أشكال الخوف الأخرى، التي لم يلطِّفها تطور العناية الطبية والنفسية والمؤسسات الاستشفائية، الذي كان جلُّ ما حقّقه تقليص المعاناة وتلطيف الآلام وإيصال المرء إلى "الموت الجميل"، الذي تُستعاد عنده الصور التخييلية الطفولية، وموضوعات متأرجحة بين الحياة والموت، مثل: النفق المظلم، والضوء، والكائن النوراني، والعرْض البانورامي للحياة، ورؤية الأقارب المتوفّين، والخروج من الجسد، وغيرها؛ فخلال هجمة الخوف عند الموت "يفصل اللاوعيُ الجسدَ عن الوعي، ويمنح شعورًا بالهروب المكاني من الزمن، فتُطرد حقيقة الموت خارج الوعي، ويتلقى المحتضرُ رسالةَ حياة"، بآليات بيولوجية واضطرابات تنفّسية وتفريغات عصبية.
ولا يزال الموت الحقيقي غير المتصوَّر بمنأى عنّا، ولا تزال الفجوةُ ماثلةً بين مشهد "موت" شخص أمام امرئ وبين فهْمِه موتَه هو وكيف سيكون، فالمسألة في عمقها ليست موت الآخر، بل موته هو، ليست في المشاهدة بل في التوقّع الدائم والمواجهة مع الذات ومعاناة هذا اللغز المحيّر المضني، الذي يفلت في النهاية من كل تفسير؛ فالتمعّن في الموت باعتباره إعدامًا للجسد غيرُ قابل للتصور، بل ثمة استحالة لفهم الوعي البشري عدمه، أو لاوجوده، أو كونه لا شيء، فوعي الموت مستحيل؛ لأنّه يتعارض مع الكوجيتو "أنا أفكّر إذًا أنا موجود"، إذ إنّ العالم هو الأنا، ونحن نعجز عن تصوّره بعد عدمنا بالموت.
الموت أكثر الظواهر البيولوجية "ميتافيزيقيةً"، لما يثيره في أذهان الأحياء من تساؤل؛ ونظرًا إلى تباين هؤلاء الأحياء بشدة كان النظر إليه متباينًا بمقدارهم. وقد كرَّست الثقافاتُ الكونية استراتيجياتٍ للتعايش مع حتمية الفناء تمثلت بتقاليدَ ورموزٍ اجتماعية وسرديات وأساطيرَ وطقوسٍ لاستيعاب الانفعالات الناجمة عن انتزاع أحد أفراد الجماعة، محوّلة إياها تضامنًا قويًّا بين جميع أعضائها، وهنا تدخل الديانات لتُسيِّج الموت بأجوبة مبرمة عن مصير الأرواح والأجساد تجعل المرء يرى في الموت أمرًا معقولًا لا عبث فيه، ففكرة الحياة الأخرى أجبرت الإنسان على ابتكار ممارسات جنائزية تضمن مرور الميت إلى زمنٍ ووضعٍ آخرَين يُطَمْئنان مقرّبيه الأحياء ويهدِّئان من روعهم.
لا تزال إشكالية الموت مطروحة في جميع الأزمنة والأمكنة، وما انفكّ الباحثون يُنشئون شبكة معقدة من التفسيرات الأسطورية أو العقلانية أو الفلسفات لقراءة شفرة الموت فلا يفلحون؛ فمنذ بزوغ العقل الفلسفي ما قبل اليوناني إلى العصر الحديث، طغت ثنائية شهيرة تقرن الروح بالجسد ليثمرا الحياة، ثم يفترقان بعدها بالموت، وحتى الفكر اليوناني العقلاني سلك هذه الثنائية بتشرُّبه الفكر المسيحي مع الوقت، في حين نحت فلسفات أخرى إلى اعتبار الأرواح آلهة ذات أصل سماوي تنزّلت في أجساد قابلة للتلف وتناسخت في أدوار عدّة تتعرّض فيها للإغواء، وفي أجساد قابلة للخطايا، لتتحرر بعد ذلك بموت الأجساد. ثم أرسى فيلون الإسكندري (حوالى عام 20 ق.م) دعائم فكر توفيقي بين اليهودية والفلسفة الإغريقية ولَّد "الأفلاطونية المحدثة" التي تبنّاها آباء الكنيسة الشرقية في ما بعد، فاستُبدلت ثنائية "روح – جسد" باتحادهما، فلم يعد الجسد موضع شبهة بتمثيله عالم الأحاسيس والرغائب أو بكونه قالبًا أرضيًّا لسقوط الروح العلوية، بل غدا الإنسان كُلًّا تتواشج فيه النشاطات البيولوجية بالنفسية، وغدا الموت إيقافًا لعمل الآلة المُنتجة بسبب فساد الأعضاء التي تحرّك الجسد، أما الروح المخلوقة من جوهر رباني فبقيت بلا تغيير يُفقدها ماهيتها.
ومع انحسار التأثير الكنسي في العصور الوسطى تراجعت فكرة الوحدة الجوهرية الأرسطية، حيث أفادت الكشوفات الطبية باستحالة تصور جسد مستقل تُشعل روحٌ إلهية فيه الحياة، وغدت الروح تشكّل مع الجسد وحدةً غير قابلة للتجزئة، وبات ما يُحدث الموت ليس انفصال الروح عن الجسد بل ما ينتاب الجسد من قصور يؤدي إلى تلاشيهما معًا.
يسعى كتاب الموت بين المجتمع والثقافة إلى مقاربة إشكالية الموت الشائكة عبر الأدوات الإناسية التي بلورتها جهود الدوائر الأكاديمية الغربية، وإلى رصد الظواهر الاجتماعية السابقة والمواكبة للموت وحمولاتها العاطفية والوجدانية، مستفيدًا من ثمرة أعمال باحثين عرب، على ندرتهم، وأجانب عايشوا الظواهر الاجتماعية التي تخص موضوع الموت وكشفوا عن العادات والسلوكات المتّبعة في هذا الشأن، ولا سيما طقوس الحِداد المقنّنة وطرائق إظهار علامات الجزع والحزن والبكاء على المتوفين من أقارب وأصدقاء. واعتمد الكتاب على أطروحات جامعية ساهمت في إظهار معطيات ميدانية وجمْعِها وتحليلها واستخلاص العِبر منها، في وصف أشكال وصور وفنون غنائية ومرثيات تراثية محفوظة منذ القدم. ومن هنا، تتأتى أهمية البحث، الذي نظر إلى الموت ضمن سياقاته الاجتماعية والثقافية والحضارية من بيئة إلى أخرى، ومن مكانة متوفّى إلى مكانةِ آخَر، ومن ابن بيئته إلى الغريب الذي عاش فيها، وغيرها، وقد ظهر هذا في مقارنة أجراها الكتاب بين مظاهر الموت في المجتمعات الغربية والشرقية، وكيف أنها تنحسر في الغرب عن الفضاء العام إلى المستشفى أو العائلة، بينما تنتشر في الشرق الطقوس الجنائزية والشعائرية المأتمية الكبرى وذات الأبعاد المسرحية.
احتوى الكتاب على ثلاثة أقسام: ناقش الأول التحديق في الموت وهاجس الحديث عنه، وطقوس الوداع، وطرائق الدفن المتعددة. أما الثاني فقد تناول مظاهر العبادات المحلية التي تمارَس في المقامات الدينية، وتقوم على تعظيم الأولياء الموتى، والتماس المدد الروحي من زيارتهم، وإقامة الولائم على شرفهم. في حين كُرِّس الثالث للحديث عن العنف الدموي ذي المرجعية الدينية، حيث شهدت أقطار العالم الحديث تفاقم النزاعات الدينية القتالية تحت مسميات عدّة، على رأسها الجهادية والعمل الاستشهادي.